تُحدث التقنية تحولاً في حياة المَزارع في أعماق حقول الذرة الذهبية في ولاية أيوا. قاد إنتاج الذرة لعقود شركات مملوكة لعائلات تدير مزارعها بخليط من أدوات الزراعة التقليدية أثبت الزمن صحته. ولكن، كثير من تلك الشركات أضافت عنصراً جديداً إلى ترسانتها، ألا وهو تطبيق للهواتف النقالة يسمى "فارم لوجز" (FarmLogs).
هذا التطبيق وسيلة بسيطة لنقل مزرعة العائلة لحقولها من عصر ما قبل الإنترنت إلى أحدث التقنيات. يستخدم المزارعون الذين درجوا على الخوض في صفوف طويلة من سيقان الذرة صور الأقمار الصناعية لتطبيق "فارم لوجز" وخوارزمياته، لتحويل البيانات الزراعية الخام إلى رؤى ثاقبة قوية. وبدلاً من تدوين ملاحظات عن تواريخ النباتات والظروف المناخية والعناصر الغذائية للتربة وغلة المحاصيل، يعالج المزارعون مجموعات البيانات الكبيرة للتنبؤ على نحو أفضل بالأرباح ورصد النفقات وجدولة العمليات.
وهذه "المزارع المتصلة" لا تيُسر حياة المزارعين الذين يديرونها وحسب، وإنما تساعد حقولهم على الازدهار والنماء أيضاً. ونتيجة لذلك، في غضون سنوات معدودات فقط، اشترك حوالي ثلث المزارع الأميركية كلها في تطبيق "فارم لوجز" لإدارة عملياتها، فهو يساعد المزارعين على جعل أعمالهم أكثر كفاءة وربحية، ويساعد المزارع الأصغر حجماً أيضاً على ضمان قدر من التوازن بينها وبين المنافسين الأكبر من أصحاب حجم الأعمال الأضخم.
واليوم، الأمثلة على الشركات الإلكترونية التي تُزعزع صناعات كبرى كثيرة. غير أن "فارم لوجز" ليست بشركة تقنية ناشئة تقليدية، ومؤسساها، جيسي فولمر وبراد كوش، ليسا من رواد الأعمال التقليديين على غرار رواد أعمال وادي السيليكون. فلن تجد مقر شركة "فارم لوجز" الرئيسي في ولاية كاليفورنيا، وإنما في ولاية ميشيغان، التي تفصلها مسيرة يوم كامل عن حزام الذرة، ويستقر جميع زبائن الشركة تقريباً في الغرب الأوسط الأميركي، وجيسي فولمر مزارع من الجيل الخامس متخصص في زراعة الصويا والذرة من ولاية ميشيغان، وشريكه براد كوش، الذي ترعرع بالمثل محاطاً بالمزارع، تفصله عن الزراعة بضعة أجيال فقط لا غير. ولقد دشن الاثنان شركتهما وهما في العشرينات من العمر.
والنجاح الذي أحرزته الشركة يتعلق بالعملية الزراعية بالقدر نفيسه الذي جعلتْ به شبكة الإنترنت ريادة الأعمال ميسورة بقدر أكبر للجميع. والآن، أي شخص مهتم بتدشين مشروع جديد لديه إمكانية الوصول إلى موارد وعلاقات وخدمات إلكترونية غير مسبوقة. ومن الممكن أن تنشأ الأفكار السديدة والمنتجات الرائعة من أي مكان، وتحقق على الفور انتشاراً قومياً، بل وحتى عالمياً. ولقد أحدثت منصات التمويل الجماعي والتواصل الاجتماعي تحولاً في الطريقة التي تبدأ بها كثير من الشركات الصغيرة جمع رؤوس الأموال. ويتباين ذلك تبايناً صارخاً مع وضع ريادة الأعمال منذ عقدين من الزمان، عندما كان إطلاق شركة تقنية يقتضي غالباً استثمارات أولية ضخمة، ومعدات حقيقية، ووصول محدود لشبكات النطاق العريض على نحو مخيب للآمال. ومن الصعب أن نتخيل فترة كان فيها من الأسهل على أي أحد أن يؤسس شركة من العصر الحالي.
ويعول هذا التوجه - ولنطلق عليه اسم "إضفاء الطابع الديمقراطي على ريادة الأعمال" - على شبكة إنترنت مفتوحة. فمنذ انطلاق شبكة الإنترنت وهي تستند في نموها إلى مبدأ أساسي، وهو أن مزود خدمات النطاق العريض لا يجوز أن تكون له صلاحية اختيار الفائزين والخاسرين من حيث سرعة وصولك إلى الأشياء على شبكة الإنترنت، وسهولته. وإنما ينبغي أن تتحكم أنت فيما تراه وتفعله، وينبغي أن تكون هناك فرصة متكافئة للجميع لتوصيل محتواهم أو خدمتهم إلى جمهورهم المستهدف دون أي تدخل. ولقد أدى هذا المبدأ إلى حلقة مثمرة من الابتكار، دفعت اقتصادنا إلى اتجاهات لم يكن أحد ليتخيلها في السابق، فلأول مرة، استطاعت الشركات الصغيرة أن تطرح أفكاراً كبيرة، واستطاع المستهلكون شراء أغراض صغيرة من أي مكان في العالم.
وهذه السياسات لم تكن وليدة الصدفة، فقد كانت نتيجة لنظام تشريعي وضعته لجنة الاتصالات الاتحادية في الولايات المتحدة. منذ قانون الاتصالات الصادر عام 1934، فُرض على الشبكات في الولايات المتحدة العمل بأسلوب لا تمييز فيه (ألقِ نظرة هنا وهنا). وبالنسبة للاتصالات الهاتفية، اقتضى ذلك أن المكالمات كلها كانت مُجازة، وأن مزودي الخدمة لم يكن بوسعهم تقييد الشخص أو التوقيت أو المكان المراد الاتصال به.
وبمرور الوقت، حدَّثت لجنة الاتصالات الفيدرالية سياساتها بما يتناسب مع عصر الإنترنت، ففي عام 2005 مثلاً، أصدرت اللجنة أول بيان لسياسة حيادية الإنترنت لها، وإذ استندت إلى مبادئ عدم التمييز القديمة، فقد أكدت اللجنة على أن المستهلكين ينبغي أن يكونوا قادرين على الوصول إلى المحتوى القانوني الذي يختارونه، دون أن يعدِّل مزود خدمات النطاق العريض المحتوى أو يحظر الوصول إلى خدمات إلكترونية. وعلى مدار العقد التالي، نقّحت لجنة الاتصالات الفيدرالية موقفها من حيادية الإنترنت، وعدّلته استجابةً إلى سلسلة من الأحكام القضائية التي فرضتْ على اللجنة إيجاد المكان القانوني المناسب لتلك السياسات داخل قانون الاتصالات. وهو قانون أعرفه تمام المعرفة بصفتي واحدةً من أعضاء لجنة الاتصالات الفيدرالية.
وفي عام 2015، نجحت لجنة الاتصالات الفيدرالية في هذه المهمة. فقد وضعت سلسة من القواعد الأساسية لحيادية الإنترنت نالت أخيراً قبول المحكمة. وهذه القوانين تمنع مزودي خدمات النطاق العريض من حظر مواقع الويب، ومراقبة المحتوى، وعرقلة الوصول إلى الخدمات، والمشاركة في نُظم ترتيب أولويات مدفوعة يقبل بموجبها مزود خدمات النطاق العريض دفعة مالية لقاء إدارة شبكته بطريقة تعود بالنفع على محتوى أو تطبيقات أو خدمات أو أجهزة بعينها. وهذه القوانين ليست مختبرة من المحكمة وحسب، وإنما هي شائعة جداً، وهي أيضاً جزء مهم من عملية إضفاء الطابع الديمقراطي على ريادة الأعمال، كما تمنع مزودي خدمات النطاق العريض من التدخل بين الشركة وزبائنها على شبكة الإنترنت.
ومع ذلك، ففي الرابع عشر من ديسمبر/ كانون الأول، حددت قيادة لجنة الاتصالات الفيدرالية موعداً للتصويت على إلغاء هذه القوانين. ولم تقدم اللجنة بياناً منطقياً يسوغ الحاجة إلى الإقدام على هذا التغيير الجذري، ناهيك عن تبريره، وصرحتْ أن هذه القوانين جعلت من الصعب على قليل من مزودي خدمات النطاق العريض تبرير الاستثمار في شبكاتهم. ومع ذلك، ثمة دليل قائم مفاده أن الاستثمار في الشبكات زاد في حقيقة الأمر بأكثر من 5% منذ أن وضعت اللجنة أحدث سياساتها موضع التنفيذ عام 2015. وعلاوة على ذلك، لم يصرح أي من مزودي خدمات النطاق العريض الأميركيين المطروحة أسهمهم للتداول العام لمستثمريه أو لهيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية أن هذه القوانين أثرت سلباً على الاستثمار في شبكته.
بالنسبة للشركات - تحديداً الصغيرة منها - من الممكن أن يكون لإلغاء حيادية الإنترنت تبعات جسيمة، فلأول مرة، سيكون لدى مزودي خدمات النطاق العريض القدرة الفنية والدافع التجاري والسلطة القانونية التي تخول لهم التمييز في تقديم خدمات الوصول إلى شبكة الإنترنت، وستضطر الشركات الصغيرة ورواد الأعمال الصغار إلى تحمل تكاليف خدمة الإنترنت بنظام "ادفع لتشترك"، مما قد يجعل من الأصعب التوسع من دون دفع حصة من إيراداتهم إلى مزود خدمات النطاق العريض. والذين لن يدفعوا، سيجدون أنفسهم في موقف تجاري ضعيف.
علاوة على ذلك، لن تجد الشركات، في غياب حيادية الإنترنت، ملجأً لتحتمي به من سلوك مزودي خدمات النطاق العريض، وفي المقابل، ستكون لدى مزودي خدمات النطاق العريض صلاحية تقسيم الوصول إلى شبكة الإنترنت إلى مسارات سريعة لشركات الخدمات الإلكترونية المرتبطين بها أو التي يقيمون علاقات تجارية معها، مع تخصيص مسارات ثانوية لمن سواهم بسرعة أقل.
ولذا، نجد أن أكثر من 200 شركة ومؤسسة تجارية وقَّعت على خطاب موجه إلى لجنة الاتصالات الفيدرالية، تطالب فيه اللجنة بإعادة النظر في خطتها الساعية إلى إبطال حيادية الإنترنت. ومن بين الشركات الموقعة على ذاك الخطاب شركات "إير بي إن بي" (Airbnb)، و"إتسي" (Etsy)، و"فورسكوير" (Foursquare)، و"سكوير" (Square)، و"تامبلر" (Tumblr)، و"تويتر" (Twitter)، و"فيميو" (Vimeo)، على سبيل المثال لا الحصر. ولقد سجلت أيضاً شركة "فارم لوجز" مخاوفها الخاصة حيال إلغاء حيادية الإنترنت لدى لجنة الاتصالات الفيدرالية، مؤكدةً أن خطة اللجنة سوف تعيق قدرتها على منافسة الشركات الأكبر حجماً.
وبالطبع، فإن الملجأ الأفضل لأي شركة مُحبَطة من التمييز في حركة المرور على شبكة الإنترنت هو تغيير مزودي خدمات النطاق العريض. ومع ذلك، تُفيد بيانات لجنة الاتصالات الفيدرالية أن أكثر من نصف البيوت الأميركية تفتقر إلى الاختيار من بين مزودي خدمات النطاق العريض. وفي غياب المنافسة، لن يكون هناك قيد سوقي على السلوك التمييزي، والشركات والمستهلكون على حد سواء سوف يقعون تحت رحمة مزود خدمات النطاق العريض الخاص بهم.
وعلاوة على ذلك، فما أن تُلغي لجنة الاتصالات الفيدرالية هذه القوانين، لن تكون لجنة التجارة الفدرالية، وهي هيئة فدرالية معنية بحماية المستهلك وتتمتع بصلاحية كبيرة على الشركات، متأهبة على النحو اللائق للدخول في الصراع. فهي تفتقر إلى سلطة سن القوانين العامة التي تتمتع بها لجنة الاتصالات الفيدرالية، ولها سلطة على الممارسات المجحفة والاحتيالية. ولكن، كي يتفادى أي مزود لخدمات النطاق العريض المراجعة والتدقيق، كل ما عليه أن يُضيف أحكاماً عامة ذات صياغة فضفاضة بخصوص إدارة حركة المرور على شبكة الإنترنت بخط طباعي صغير في عقوده الخدمية.
ومن المكلف، وغير العملي أيضاً، أن تُخطر الشركات الصغيرة لجنة التجارة الفيدرالية بصعوبات وصولها إلى شبكة الإنترنت. وبحلول الوقت الذي تبادر فيه لجنة التجارة الفيدرالية بالتعامل مع تلك الصعوبات في إجراءات أمام المحكمة أو إجراءات إنقاذ القانون، من الإنصاف أن نفترض أن الشركات الناشئة والكيانات الصغيرة التي تكابد هذه المشكلات ستكون قد هلكت بالفعل.
من الممكن أن يكون لإبطال قوانين حيادية الإنترنت من جانب لجنة الاتصالات الفيدرالية أثر جسيم، خصوصاً على الشركات الصغيرة. وإذا ضمنت هذه القوانين أن مزودي خدمات النطاق العريض لا يلعبون دور حراس البوابات، ستكون قد ساعدت على الحفاظ على شبكة إنترنت مفتوحة، وساعد ذلك بدوره على إضفاء قوة ديمقراطية على ريادة الأعمال في شتى أنحاء البلاد. لقد غيَّرَت الطريقة التي نُطور بها شركات جديدة، الأمر الذي أثبتته شركة "فارم لوجز"، وبدلت حتى حال المزارع العائلية. وبينما تصوت لجنة الاتصالات الفيدرالية على تفكيك هذا الانفتاح الذي نحن في أمس الحاجة إليه، ينبغي أن نفهم أنه لا المنافسة ولا لجنة الاتصالات الفيدرالية تقدمان مساراً صالحاً للمستهلكين أو الشركات الصغيرة أو الناشئة للمضي قدماً.