أول ما يفعله أبرع صنّاع القرار

3 دقائق
البيانات وصناع القرار

إليك هذا المقال الذي يكشف العلاقة بين البيانات وصناع القرار تحديداً. بوصفي خبير إحصاء، أُجلّ وأحترم مقولة رائد الإحصاء التطبيقية ويليام إدواردز ديمينغ "نثق في الله وحده، أما أي أحد آخر فعليه أن يأتي بالبرهان". لكن باعتباري عالم اجتماع، أجدني مجبراً على تحذيرك من أن العديد من صناع القرار يلهثون وراء البيانات بشغف مفرط، بغية نفي الجهالة، إلا أن قراراتهم لا تشهد أي تحسن. فهل من سبيل للوصول إلى حل وسط؟ نعم، هذا ممكن، وهو يبدأ بعادة بسيطة في اتخاذ القرارات: الالتزام بقرارك الافتراضي مقدماً.

الأساس في اتخاذ القرار هو وضع إطار لسياقه قبل البحث عن البيانات، وللأسف تلك مهارة لا تتناولها مناهج دراسة علوم البيانات، في العادة. ولكي تتعلم العلاقة بين البيانات وصناع القرار تحديداً، يتعين عليك دراسة العلوم الاجتماعية والإدارية. وللأسف أيضاً، نحن لا نولي تدريسها القدر الكافي من الاهتمام، رغم احتياجنا الشديد إليها كمهارة ضرورية لقيادة مشاريع علوم البيانات وإدارتها. حتى في علم الإحصاء، وهو التخصص المعني باتخاذ القرارات في غياب اليقين الكامل، تجد أن أكثر التدريبات التي يتلقاها الطلاب لها سياق معد مسبقاً بالفعل. إذ عادة ما يُقدم لك أستاذك الفرضيات و/أو يضع السؤال في إطار يوجهه نحو إجابة صحيحة واحدة. وحيثما تكون الإجابة الصحيحة، سيكون صانع القرار قد وجد بالفعل مساراً جديداً.

البيانات وصناع القرار

يعتقد العديد من صناع القرار أنهم يتأثرون بالبيانات حين يطالعون رقماً ما، أو يشكلون رأياً، أو ينفذون قراراً. وللأسف، فإن مثل هذا القرار سيكون في أفضل أحواله من "بنات إلهام البيانات". وتجري صناعة القرار المرتكزة على البيانات حين ندور في فلك بعض الأرقام، حتى نصل في النهاية إلى نقطة تحول عاطفي، ومن ثم نتخذ القرار. كما تدور بعض الأرقام في فلك القرار، لكنها لا تُشكل الدافع الأساسي لاتخاذ القرار. فالقرار يأتي من موضع آخر مختلف كلياً، ويتأثر طوال الوقت بالانحياز غير الإرادي لدى صانعه.

وإن كنت غير منضبط في محاولاتك لاستخدام البيانات في اتخاذ القرار، لأن أسلوبك سوف يكون عرضة لتأثيرات التحيّز المعرفي.

إحدى أكبر مشكلات عمليات صنع القرار على وقع البيانات هي الانحياز التأكيدي، الذي يؤثر في قدرة صانع القرار على رؤية الحقائق في ضوء ما يؤمن به فعلاً. فإن كنت في حِل من تحريك قائمي المرمى بعد أن تعرف أين استقرت البيانات، فإن هذا بالضبط ما سوف تفعله، دون وعي. والحل هو أن تضع قائمي مرماك مقدماً وتقاوم أي إغراء ينتابك بتحريكهما لاحقاً.

لهذا يتم تدريب علماء الاقتصاد السلوكي على وضع معايير للقرارات قبل توافر المعلومات. ولأن هذه الطريقة هي أفضل علاج للانحياز التأكيدي، فقد ترسخت لدى العديد منا حتى باتت عادة مكتسبة. فنحن لا نملك إلا أن نسأل أنفسنا، مثلاً، عن أقصى مبلغ يمكننا دفعه لشراء تذكرة قبل أن نعرف ثمنها.

إن ترك معايير اتخاذ القرار مفتوحة يتيح أمامك الحرية في التعامل مع البيانات بشكل انتقائي، لتستطيع تأكيد الاختيار الذي وصلت إليه فعلاً بكامل يقينك. غير أن ما تفعله لا يتعدى استخدم البيانات للشعور بقدر أكبر من الارتياح حيال فعل ما تريد فعله في الأحوال كلها. ومعظم البشر يفعلون هذا حتى دون أن ينتبهوا.

ثمة نقطة ضعف بشرية أخرى يجب تلافيها وهي أثر إيكيا. ولعلك جربت هذا الأثر إن سبق لك وبالغت في قيمة شيء ما نتيجة بذل جهد كبير فيه. ببساطة، حين يستثمر الناس أوقاتهم في مشروع ما، فلا شك أنهم سيحبونه، حتى لو كان هذا الذي بنوه ليس أكثر من كومة قمامة، هذا الشعور من شأنه أن يؤثر بقوة على طبيعة رؤيتهم له. فيبدأ هؤلاء في تبرير الأمر لأنفسهم، فيقولون مثلاً "ولكن الأداء في النموذج الأولي الجديد لم يكن بهذا السوء، لذا لا يزال بإمكاني إصداره...". وهكذا خرجت للعالم الكثير من الأشياء البشعة.

لتلافي الوقوع ضحية لمثل هذه التأثيرات - ولتستنطق البيانات بحق - عليك بالنظام. عليك أن تضع إطاراً مسبقاً لسياق القرار. وأول عناصر تلك العملية هو تحديد ما تخطط لفعله في حال غياب المزيد من البيانات. (هل سوف تشتري/تطرح/تعالج/تباشر أم ألا تشتري/تطرح/تعالج/تباشر في الأساس؟). هذا ما يُطلق عليه الإجراء الافتراضي والذي ستقرر تنفيذه من خلال تخمين أقل الإجراءات ضرراً في حال الجهل بالبيانات.

ومن الصعب اختيار إجراء افتراضي بالنسبة لمتخذي القرار الذين لم يعتادوه. اسأل نفسك "إن لم أطلع على بيانات إضافية بخلاف ما لديّ فعلاً، فماذا سأفعل؟" تتطلب الإجابة عن سؤال كهذا قوة في الشخصية، وهو ما لا يمكنك تحميل مسؤوليته للبيانات، لأن عليك أن تفكر في المشكلة وتجيب عنها بصدق "ماذا كنت سأختار لو اضطررت إلى اتخاذ قرار فوري؟".

فمثلاً: "هذا دواء جديد أو نظام جديد لتعلّم الآلة، ولا أدري كيف يعمل. في الأحوال العادية، هل سأطرحه أم لا؟" (معظم الناس سيقولون لا، عدا أولئك الذين يتصورون أن نظام تعلم الآلة سيكون إضافة جيدة لسيرتهم الذاتية).

بمجرد أن تحدد الإجراء الافتراضي، يصبح المجال أمامك مفتوحاً للتفكير في البيانات. لكن حتى وقتها، لن تكون الخطوة الأولى هي جمع البيانات أو تحليلها. فبعد أن تُحدد إجراءك الافتراضي الذي ستتخذه في غياب المعلومات الجديدة، ستبدأ بالتفكير في رد فعلك حال توافر البيانات. ما الشكل الذي يجب أن تتخذه هذه البيانات كي تُنجيك من إجرائك الافتراضي؟ للإجابة عن هذا السؤال، لا بد من امتلاك القدرة على تخيل عدة أوجه لهذا العالم. حدد ما إذا كان الإجراء الافتراضي صالحاً لكل وجه منها، ثم ضع مقياساً لتعرف به أي هذه العوالم تعيش فيه. أخيراً، فكر في مدى قوة الدليل المطلوب للابتعاد عن الإجراء الافتراضي وما هو حجم المخاطرة المسموح بها. حينها فقط يمكنك مطالعة الأرقام التي أمامك.

اقرأ أيضاً:

 

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .

المحتوى محمي