يكوّن الكثير من الناس آراءهم وتصوراتهم حول دوافع الآخرين بناءً على الانطباعات الأولى، وهذا أمر يحصل في غاية السرعة. فنحن لا نحتاج إلا إلى جزء في المئة من الثانية الواحدة لإطلاق أحكام عن الآخرين وعلى جميع الأصعدة، كأن نقرّر ما إذا كنا نحبهم أم لا، أو مدى إمكانية الثقة بهم، أو كفاءتهم، أو عدوانيتهم.
بل الملفت أكثر من كل ذلك حتى، هو أن انطباعاتنا الأولى عن الآخرين غالباً ما تكون دقيقة وموثوقة بشكل عام.
وتُعتبر المصافحات من الأمور التي تسهم في تكوين الانطباعات الإيجابية الأولى من خلال إظهارنا بمظهر الشخصية الاجتماعية. فقد كشفت إحدى الدراسات أنّ المصافحة القوية ترتبط ارتباطاً إيجابياً بالانفتاح على الآخرين والانطلاق في التعبير عن الذات، بينما هي ترتبط ارتباطاً سلبياً بالخجل والعصاب.
أما في سياق المفاوضات، فإن الرسالة التي تبعث بها المصافحة هي أهم بكثير، حسبما كشفت أبحاثي. ولنتذكر أننا جميعاً نعتمد على مصادر غامضة للمعلومات لنقرر ما إذا كنا سنتصرف بطرق قائمة على التعاون أم على العدائية خلال مفاوضاتنا. وأحد مصادر المعلومات هذه هو السلوك غير اللفظي، أي ما يرتبط بلغة الجسد، ومن ضمن ذلك المصافحات باليد. فضمن العديد من الثقافات، تعبّر المصافحات التي تحصل في بداية جلسة المفاوضات وفي نهايتها عن الاستعداد والجاهزية للتعاون والتوصل إلى حل يأخذ بعين الاعتبار مصالح الأطراف الجالسة إلى مائدة المفاوضات. فمن خلال الانتباه إلى هذا السلوك، بوسع المفاوضين أن يعبّروا عن دوافعهم ونواياهم، وأن يُظهروا تفهماً أفضل لمقاربة الطرف الآخر للنقاشات.
وفي إحدى الدراسات، قمت أنا وزملاء لي في كليتي الأعمال في كل من جامعة هارفارد وجامعة شيكاغو بتقسيم المدراء التنفيذيين ضمن عدد من المجموعات، بحيث أنّ كل مجموعة كانت مؤلفة من شخصين اثنين، وطلبنا من الشخصين في كل مجموعة التفاوض على أساس أنهما البائع والشاري في صفقة عقارية افتراضية. وكان يتعين على المدراء التنفيذيين التفاوض حول موضوع واحد فقط ألا وهو سعر الأرض.
وفي هذا النموذج القائم على المحاكاة، كان البائع يعتقد أنّ العقار المعني كان مخصصاً بحسب قوانين البلدية للأغراض السكنية فقط، لكن الشاري كان يعلم أنّ قوانين تقسيم الأراضي على وشك التغيّر، بما يسمح للشاري بتطوير الأرض لأغراض تجارية، وبالتالي الحصول على قيمة أكبر منها. ومن الواضح أنه لم تكن لدى الشاري أي مصلحة في أن يشارك البائع بهذه المعلومة. والحال أنه عندما سأل البائعون المشترين إذا كانوا ينوون استعمال الأراض لأغراض التطوير التجاري، العديد من هؤلاء المشترين إما كذبوا أو تجاهلوا السؤال برمّته.
وطلبنا من نصف المجموعات التي يتألف كل منها من شخصين اثنين أن يتصافح أفرادها باليد قبل البدء بالتفاوض. لكننا لم نقدم أي تعليمات خاصة بالمصافحة إلى النصف الثاني. ومعظمهم اندفع إلى المفاوضات من دون أي مصافحة أولاً، والسبب على الأرجح هو أنهم كانوا واقعين تحت ضغط الزمن.
فبالنسبة للمجموعات التي كان قد طُلب منها المصافحة، لجأت إلى تقسيم الكعكة بعدالة أكثر مقارنة مع المجموعات الأخرى التي لم تتلق أية تعليمات بهذا الصدد. علاوة على ذلك، فإنّ المشترين في المجموعات التي طلب من أفرادها المصافحة كانوا أقل تضليلاً تجاه التغيّر المتوقع في قوانين التقسيم البلدي مقارنة مع المشترين في المجموعات الثانية.
عندما كنت طفلة صغيرة، لطالما كنت أتعارك مع أخي وأختي حول الألعاب والكتب. وكما هو الحال في العديد من العائلات الأخرى في أنحاء العالم، فقد كان أهلي يطلبون منّا أن نصافح بعضنا ونتصالح. كلماتهم تلك كانت تقول لنا بأنّ هذه الحركة البسيطة ستقود إلى التعاون وحسن النية. وكما تبيّن البحوث التي أجريتها أنا وزملائي فإنّ حركة بسيطة مثل المصافحة هي بادرة في غاية القوة أثناء المفاوضات.