ملخص: بينما تسعى المؤسسات جاهدة لتعزيز التنوع المتعلق بالعِرق والمساواة بين الجنسين وأصحاب الهمم (ذوي الاحتياجات الخاصة) في قوة العمل، يجب على القادة تطبيق الاستراتيجيات نفسها على الموظفين الذين يفكرون بطرق مختلفة. تشرح المؤلفة التي تتمتع بخبرة أكثر من 50 عاماً في العديد من القطاعات والأوساط الأكاديمية كيف تعالج المعلومات بصفتها مفكرة بصرية وتوضح كيف يمكن لقادة الشركات تسخير قوة أنواع مختلفة من المفكرين، الذي سيؤدي بدوره إلى زيادة الإبداع وتعزيز القدرة على حل المشكلات، وفي النهاية خلق مكان عمل أكثر انسجاماً وتماسكاً.
نظراً إلى خبرتي في العمل أكثر من 50 عاماً في العديد من القطاعات والأوساط الأكاديمية وإصابتي بالتوحد، أتلقى غالباً دعواتٍ من المدراء المسؤولين عن التنوع والمساواة والشمول في الشركات الكبرى لإلقاء محاضرات حول هذه السمات. تشمل هذه الشركات مجالات الصلب والأدوية وأجهزة الكمبيوتر والمنتجات الاستهلاكية، بالإضافة إلى شركات تربية الماشية والأبقار والنقل ووسائل التواصل الاجتماعي. أتلقى دائماً السؤال الأساسي نفسه من الإدارات: ما هي الخطوات التي يجب اتخاذها لتعزيز الشمول في قوة العمل؟
في الواقع، إنه لتقدم كبير أن تسعى الشركات الكبرى لتعزيز التنوع المتعلق بالعرق والمساواة بين الجنسين وأصحاب الهمم (ذوي الاحتياجات الخاصة) في قوة العمل. الشيء التالي الذي يجب على الشركات فعله هو تطبيق هذه الاستراتيجيات نفسها على الموظفين الذين يفكرون بطرق مختلفة، الذي سيؤدي بدوره إلى زيادة الإبداع وتعزيز القدرة على حل المشكلات، وفي النهاية خلق مكان عمل أكثر انسجاماً وتماسكاً.
أنواع مختلفة من المفكرين في مكان العمل
أولاً، يجب على القادة ببساطة زيادة وعيهم بطرق التفكير المختلفة الموجودة وطرق استفادة الجميع من هذه العقول المختلفة والمهارات المرتبطة بها، قد يبدو ذلك بسيطاً، ولكن غالباً ما تغفل ثقافتنا عن المفكرين البصريين إذ تهيمن عليها أساليب التواصل اللفظي.
بالنسبة لي، فأنا مفكرة بصرية بدرجة كبيرة؛ أي أن أفكاري تأخذ شكل الصور الواقعية ومقاطع الفيديو القصيرة التي تشبه مقاطع فيديو تيك توك، تتكون ذاكرتي البصرية من مفردات كاملة من الصور المخزنة في ذكرياتي عن الأماكن التي زرتها والأفلام والصور التي شاهدتها والنصوص المكتوبة التي ترجمتها ذهنياً إلى صور. على سبيل المثال، عندما يُطلب مني تقييم نظام التعامل مع الماشية، ترد الأفكار إلى ذهني على شكل مقاطع فيديو لكل نظام رأيته، ثم أفرز هذه الصور إلى فئات، ولدي القدرة على تكوين صور بصرية جديدة وفريدة منها. مع التقدم في السن واكتساب الخبرة، تنمو ذخيرة "مفرداتي" البصرية على غرار الطريقة التي يتعلم بها الشخص اللفظي الأفكار المعقدة من خلال الكلمات.
يعالج المفكرون البصريون مثلي المعلومات بطريقة مختلفة؛ نحن نستخدم حل المشكلات العملي والتصور البصري، وغالباً ما أذكر في محاضراتي حادثة معينة في بداية مسيرتي المهنية ساعدني فيها توجهي للتفكير البصري في حل بعض المشكلات السلوكية لدى الماشية؛ توقفت الحيوانات فجأة ورفضت مواصلة السير، ما أبطأ العمل وعرّض هوامش الربح للخطر. لم يستطع المشرفون على الماشية معرفة سبب سلوكها هذا، وكانوا يستخدمون طرقاً قاسية لإجبارها على التحرك وإبقائها في الصف، مثل نكزها وإفزاعها بصوت البوق.
عندما شاهدت هذه الظاهرة، ذهبت إلى الممر المخصص لعبور الماشية لفحص ما كانت تعانيه من منظورها، فاعتقد أصحاب المزرعة والمدراء التنفيذيون على حد سواء أن تصرفي أحمق، ولكن بصفتي مفكرة بصرية، بدا لي أنه النهج الأكثر منطقية بالنسبة لي. لاحظت على الفور التفاصيل الصغيرة التي لم ينتبه لها المشرفون على الماشية؛ يمكن أن تؤدي الظلال والانعكاسات وحتى أي شيء يبدو غير ذي أهمية مثل قطعة من السلاسل أو القماش متدلية داخل الممر إلى إبطاء حركة الماشية. كان الحل بسيطاً، لكن لم يره أي شخص آخر، وكانت هذه العوائق الصغيرة واضحة جداً لي، هذه هي الطريقة التي يعمل بها عقلي.
ليس جميع المفكرين البصريين مثلي، إذ تبين أن هناك نوعاً مختلفاً من المفكرين البصريين لديهم منظور ومجموعة مهارات فريدة؛ ذوو القدرة على التصور المكاني (spatial visualizers). حددت الفرق بين النوعين الباحثة ماريا كوجيفنيكوف وفريقها من الباحثين في جامعة هارفارد؛ يسمى الأشخاص الذين يفكرون في الصور الواقعية مثلي ذوي القدرة على تصور الأشياء (object visualizers)، ونحن نتفوق عادةً في التصميم والهندسة الميكانيكية والتعامل مع الحيوانات وغيرها من الوظائف العملية. بينما يفكر ذوو القدرة على التصور المكاني في الأنماط والمفاهيم المجردة، وغالباً ما يتفوقون في الرياضيات وبرمجة الكمبيوتر والموسيقى، ولدى كل منا أساليب متميزة لحل المشكلات: يمكن لذوي القدرة على تصور الأشياء رؤية كيفية عمل الأجهزة الميكانيكية الفعلية، بينما يمكن لذوي القدرة على التصور المكاني تصور كيفية عملها المفترضة. شبهت الأمر من قبل بأن ذوي القدرة على تصور الأشياء يصنعون القطارات، بينما يجعلها ذوو القدرة على التصور المكاني تعمل، لذلك فنحن بحاجة إلى نوعي المفكرين البصريين كليهما.
خير مثال على العمل التعاوني الناجح بين أنواع مختلفة من العقول الشراكة بين ستيف جوبز وستيف ووزنياك اللذين اشتُهرا بتطوير كمبيوتر آبل؛ تخيل جوبز جهاز كمبيوتر جميلاً وسهل الاستخدام، وبالتعاون مع زنياك جعلاه يعمل. وفقاً لكاتب سيرة جوبز الذاتية، والتر آيزاكسن، أراد جوبز أن يوفر جهاز الكمبيوتر تجربة سلسة للمستخدم، بينما أراد ووزنياك الذي كان يعرف الكثير عن التكنولوجيا دمج الكثير من الميزات فيه، لكن جوبز كان يعتقد أن ذلك سيجعل استخدام الكمبيوتر أكثر تعقيداً. هذا مثال لمفكر بصري يعشق الجمال يعمل مع شريك له توجه أكبر للتكنولوجيا لإنشاء منتج ناجح للغاية.
بعبارة أخرى، عندما تجتمع أنواع مختلفة من المفكرين ويقدّرون مناهجهم المختلفة، يمكن إحراز تقدم عظيم. أجرت عالمة النفس التنظيمي، أنيتا ويليامز وولي، وزملاؤها في جامعتَي هارفارد وستانفورد دراسة طلبوا فيها من ذوي القدرة على تصور الأشياء وذوي القدرة على التصور المكاني أن يجدوا طريقهم عبر متاهة افتراضية على غرار لعبة باك مان، كانت بعض الفرق تتألف من مفكرَين لهما قدرات متماثلة، بينما تألف البعض الآخر من مفكرَين لهما قدرات مختلفة؛ أظهر البحث أن أداء فرق المفكرين المختلطة كان أفضل من أداء الفرق المتجانسة. في حالة الفرق المختلطة، يستخدم ذوو القدرة على التصور المكاني عصا التحكم للتوجيه، بينما يركز ذوو القدرة على تصور الأشياء على التعامل مع العوائق (الأعداء) في المتاهة. في حين يقضي أفراد المجموعات المتجانسة وقتاً أطول في النقاش دون أي نتائج مثمرة (قد يبدو هذا الموقف مألوفاً بالنسبة لك إذا كنت في أحد اجتماعات الشركة التي دار فيها نقاش مطول حول مشكلة معينة دون التوصل إلى أي حلول لها). من الواضح أن العقول العظيمة ذات أنماط التفكير المختلفة أكثر عرضة لتوليد ابتكارات جديدة مذهلة إذا عملت معاً.
كيفية تسخير أنواع مختلفة من التفكير
أولاً، يجب على قادة الشركة وواضعي السياسات تشجيع المدارس على معالجة مشكلة استبعاد المفكرين البصريين الذين لا يستطيعون الجلوس مكتوفي الأيدي أو لا يستطيعون إجراء العمليات الحسابية المجردة، مثل الجبر، من النظام التعليمي الأميركي. على سبيل المثال، كان ترتيب توماس إديسون الأخير بين زملائه في الفصل، ووصفه معلمه بأنه بليد الذهن، فقررت والدته إخراجه من المدرسة لتعلمه بنفسها في المنزل. ربما لو كان إديسون على قيد الحياة لتم تشخيصه باضطراب نقص الانتباه مع فرط النشاط، مثله مثل واحد من كل سبعة أولاد أميركيين يبدو عليهم الملل في الفصل ويصنفون على أنهم "مشاغبون"؛ هؤلاء الأطفال بحاجة إلى الانشغال في أنشطة عملية.
من الضروري رعاية هؤلاء الطلاب من المفكرين البصريين والاستثمار فيهم من خلال المواد الدراسية العملية والتوجيه والتدريب المهنيين في المجالات التي تعتمد بشكل كبير على المهارات البصرية. بالنسبة لي، تعلمت الخياطة في مواد الاقتصاد المنزلي، فصممت الأشكال وخطت الأزياء للعروض المسرحية المدرسية، وتعلمت في مادة التعليم المهني بناء الأشياء، وصنعت القطع اللازمة لديكورات مسرح المدرسة. مهّدت تلك المهارات الأساسية الطريق لمسار مستقبلي ونموه.
يجب تغيير ممارسات التوظيف أيضاً. بصفتي مفكرةً بصرية مصابة بالتوحد، فلن أنجح في مقابلة عمل تقليدية حيث يكون التواصل البصري مع المحاور والتعبير عن مهاراتك بالتفصيل مهماً، وهكذا، وكي أتمكن من الحصول على وظيفة، كنت أحمل معي مخططاتي الفنية وصور مشاريعي المكتملة لعرضها وتركها تتحدث نيابة عني. لم أستطع إقناع المحاور بالحديث عن مهاراتي، لكنني أثرت إعجاب الشركة التي يُحتمل أن أعمل فيها بما أسميه "عرض الـ 30 ثانية المبهر" الذي تضمن عرضاً مصوراً لأعمالي. تعلمت إقناع الآخرين بعملي وليس بشخصي، وينطبق الشيء نفسه بالنسبة لحصولي على مؤهلاتي التعليمية؛ على سبيل المثال، لم أتمكن من اجتياز اختبار الرياضيات للحصول على وظيفة في مجال العمل البيطري، ولكن نظراً لصلتي البصرية مع الحيوانات وفهمي العميق لسلوكها، أعمل الآن في تدريب الأطباء البيطريين.
يحتاج عالم الأعمال ومختلف القطاعات إلى مجموعة متنوعة من العقول، وهناك أمثلة متزايدة على أداء الموظفين ذوي التنوع العصبي دوراً مهماً في تحقيق نتائج ناجحة. على سبيل المثال، أدت شركة فوريست سيتي غير (Forest City Gear) التي تتخذ من ولاية إلينوي مقراً لها دوراً حاسماً في نجاح أحدث مركبة فضائية أرسلت إلى المريخ، حيث تعاونت مع وكالة ناسا لإنشاء التروس الصغيرة المسؤولة عن تدوير الكاميرا. كانت هناك حاجة إلى قياسات دقيقة لضمان أن تتحمل التروس ظروف المريخ القاسية، وبالتالي كان على المصممين الاهتمام بأدق التفاصيل، ولعل المرشح المثالي لأداء هذه المهمة في هذا السياق هو شخص مصاب بالتوحد.
بدأنا نشهد اليوم جهوداً جديدة ومثيرة للاهتمام لخلق فرص عمل لجميع أنواع المفكرين، على سبيل المثال، بدأ الدكتور إيفان روزنبرغ برنامجاً فريداً بالتعاون مع كلية ذي كانيونز (College of the Canyons) في مدينة سانتا كلاريتا بكاليفورنيا لتدريب الطلاب المصابين بالتوحد على تشغيل معدات آلية معدنية محوسبة في العديد من المصانع المختلفة، وسيكون هؤلاء الطلاب مؤهلين للعمل في شركة فوريست سيتي غير.
تتطلب الأعمال العالية التخصص عقولاً عالية التخصص أيضاً. لضمان نجاح هذه البرامج في توظيف أنواع مختلفة من المفكرين، يجب أن ندرك أن إجراء التغييرات أو التعديلات التي تناسبهم لا تمثل مزايا أو امتيازات إضافية، فجميع الموظفين، سواء كانوا ذوي مهارات بصرية أو لفظية، يؤدون عملهم بما يتماشى مع مواطن قوتهم.
الخلاصة هي أن عالم الأعمال يحتاج إلى جميع أنواع المفكرين، وعندما يتعاون الأفراد ذوو أساليب التفكير المختلفة ضمن الفرق، فستكمّل مهاراتهم بعضها بعضاً، وسيعملون بفعالية كبيرة. الخطوة الأولى الضرورية نحو تعزيز مثل هذه البيئة هي إدراك المدراء وجود أنواع مختلفة من التفكير.