قبل حوالي خمس سنوات، التقيتها في دورة تدريبية مع شركة آيديو (IDEO) الابتكارية الشهيرة، كانت مصادفة جميلة، ومنذ ذلك الحين، وقَعتُ في حب القصة، صرتُ مفتوناً بها، أبحث عنها وأدرسها وأدرّسها وأجرّبها باستمرار، وأتحدث عنها في كل مكان.
لا زلتُ أذكر القصة التي ألقيتها أمام صاحب المعالي، وخلعت فيها حذائي وأنا أروي واحداً من أهم مشاهد القصة، ولا زلت أتذكّر كم ضحك عليّ أصحابي عندما كنت أتدرّب على إلقائها. ألقيت تلك القصة في مناسبات عدة تحت الهواء، وفي كل مرّة كنت ألاحظ وجوه الحاضرين، لا تكاد ترى أحداً يلتفت أو يتحرك، بل لطالما رأيت من خنقَتْه العبرة وبالكاد تماسك نفسه، ورأيت منهم من طأطأ رأسه مُخفياً تلك الدمعات، هكذا تصنع القصة المؤثرة بالمستمعين.
بعد تحليلِ أكثر من 500 خطاب على المنصة الشهيرة تيد (TED)، وجدوا أن القصص كانت تشكل 65% من محتوى الكلمات التي ألقاها المتحدثون ليوصلوا أفكارهم ويؤثروا في المستمعين. لقد وجَدَت الدراسات أن القصص تسبب اندفاعاً لعدد من المواد الكيميائية العصبية في الدماغ، ولا سيما الأوكسيتوسين الذي يربط الناس على مستوى عاطفي عميق، ويفتح قناة للتواصل يصعب فتحها من خلال أية وسيلة أخرى. الشخص المستمع لا يكون معك في نفس الصفحة عندما تخبره بالقصة، بل يكون عند نفس الكلمة، وقد أسمى العلماء هذه الظاهرة بانعكاس الدماغ (Brain Mirroring)، وهي حالة التطابق التام بين دماغ الراوي ودماغ المستمع. ولهذا، فإن القصة هي وسيلة الإقناع الأقوى على الإطلاق.
يقول آلَن ويس مؤلف كتاب "استشارة المليون دولار": الحقائق والمنطق يجعلان الناس يفكّرون، لكن العاطفة تجعلهم يتحركون ويتصرفون، وأكثر ما يمكن أن يحرّك العاطفة لدى الناس هو استماعهم للقصة، وهذا نفس الشيء الذي تحدث عنه أرسطو قبل حوالي ألفي سنة وأثبته العلم الحديث. بل أفضل من هذا وذاك، أن أعظم كتاب عرفته البشرية، القرآن الكريم، جاء يعج بالقصص التي يتذكرها الصغير والكبير.
دي فان ليو هو مصرفي صيني متخصص في إدارة ثروات أكبر رجال الأعمال، ويساعدهم في عمليات نقل الثروات العائلية من جيل إلى جيل. يقول ليو إنه لا يستخدم لغة الأرقام مع عملائه المحتملين ولا يُحدّثهم عن خدمات البنك في البداية، لكنه يخبرهم قصصاً عن شركات عائلية حول العالم تمكّنت من نقل الثروات عبر الأجيال بنجاح، ثم يطلب منهم ذِكر رجل أعمال صيني واحد نُقلت ثروته بنجاح عبر الأجيال، فيصمتون، فيخبرهم بعدها بمعلومة مهمة مؤثرة، وهي أن الانكماش الاقتصادي يحدث مرة كل 7 سنوات في المعدّل، فخلال قرن واحد هناك 14 مرة قد يفقد الشخص فيها ثروته، فماذا ستصنعون لتحموا ثرواتكم وإرثكم؟ عادةً ما يشعر هؤلاء الأشخاص بمزيج من مشاعر القلق والانزعاج ولربما الإحباط، عندها يصبحون جاهزين لاستقبال وقبول الخدمات التي يطرحها عليهم ليو.
يقول مبتكر الآيبود وقائد فريق صناعة أول جهاز آيفون لشركة آبل، طوني فاضل: "أكثر ما يجذب المستثمرين هو القصة الملهمة التي تحكيها عن سبب وجود شركتك، ومدى فهمك لعملائك". ويقولون إن أكثر ما يُلهم الناس نحو التغيير هو القصة التي نحكيها، وقد برع في هذا إيلون ماسك إذ جذب الكثير من المستثمرين بسبب القصص التي يحكيها عن التغيير الذي سيحدثه في المستقبل. وظلّ الرئيس التنفيذي لستاربكس، هوارد شولتز، يحكي قصته الملهمة من الفقر الشديد في أحد أحياء بروكلين إلى واحد من أغنى الشخصيات في العالم، وما يزال مؤسس مجموعة فيرجن التي تضم 360 شركة، ريتشارد براندسون، يجمع عدداً من موظفيه حول جذوة من النار يتبادلون القصص. ويقول مؤسس شركة أمازون، جيف بيزوس، إن أذكى قرار اتخذه في أمازون أنه ألغى استخدام البوربوينت وجعل مكانه بضع صفحات تُكتب بطريقة السرد، كأنها قصة. هكذا يصنَع كل القادة والمُلهمين، ويقولون: "السرد القصصي هو السر المعروف الذي يميّز المدير عن القائد"، ويضيفون: "القادة المميزون هم أولئك المميزون في سرد القصص".
وأفضل القصص هي تلك التي تتحدث عنك أو عن شخص قريب منك. انتقِ من القصص ما يتحدث عن حكايات الفشل أو الإحراج أو المخاطرة أو الإحباط والألم، اروها بأصالةٍ من قلبك، وأخبر الناس كيف كان الخروج ومن أين جاء النور. فهذا يجعل الناس ترتبط بك عاطفياً وبشكل تلقائي، وتتقبّل ما ستطلبه منهم لاحقاً.
سعدتُ كثيراً وأنا أرى الوعي حول أهمية السرد القصصي ينتشر في منطقتنا وبالأخص في السعودية. عدد من الوزارات والهيئات صارت تولي السرد القصصي أهمية كبيرة وتدرّب عليه منتسبيها. فهذا يريد أن يروي قصصاً عن تجربة المرضى وذاك عن تجربة الحجاج والمعتمرين، وثالث يدرّب المرشدين السياحيين ورابع يدرّب رواد الأعمال الاجتماعيين، وغيرهم كثير.
تقول الكاتبة الشهيرة مايا أنجلو: "تعلمتُ أن الناس قد تنسى ما تقوله لهم، وقد تنسى ما فعلت، ولكنهم لن ينسوا أبداً كيف جعلتهم يشعرون".