ملخص: أزمة مقتبل العمر، وهناك من يسميها أزمة ربع العمر، أكثر شيوعاً في الفترة ما بين العشرينيات وحتى منتصف الثلاثينيات من العمر، وهي تنطوي على 4 مراحل: 1. أن تشعر بأنك عالق في التزام بعينه (وظيفة أو علاقة أو سكن، وما إلى ذلك). 2. أن تضع حداً لذلك الالتزام، ولكنك تشعر بعدها بأنك منعزل. 3. أن تتأمل ذاتك، ومن ثم تستكشف اهتمامات جديدة. 4. أن تخرج من الأزمة وأنت أكثر سعادة ولديك إحساس متعاظم بالغاية والهدف المنشود.
وهي قد تبدو أزمة عصيبة في حينها، ولكن البحوث تشير إلى أنها أزمة ذات قيمة عظيمة في نضجنا مع تقدمنا في العمر. ومن يعيش في عقده الرابع أو الخامس يشعر بمستويات توتر أعلى مقارنة بأقرانه الأصغر سناً، إلا أن مشاعر الأزمة لا تستغرقه كما تستغرقهم. فما السبب؟ ذلك لأن آليات التكيف التي طورها منذ سنه اليافع اكتسبت قوة مع مرور السنين. ولعلك تشعر وأنت في خضم عقدك الثاني بتوتر شديد في ذروة هذه المرحلة العمرية، ومع قسوة الأزمة التي تعايشها، إلا أن لها دوراً بارزاً في نضجك مستقبلاً.
وسوف يصعب عليك بينما تتقدم في العمر أن تتذكر تفاصيل حياتك وأنت في عقدك الثاني. ولا أعني بذلك ما نشرته من صور في حسابك على إنستغرام أو ما تحتويه ألبومات صورك القديمة (أتذكرها؟)، ولكن ما كان يعتمل في نفسك من مشاعر في تلك الفترة.
إن مشاعر الارتباك والعزلة هي الغالبة لدى من يعيشون العشرينيات من عمرهم، حسبما توصلت إليه دراستان مُستقلتان نُشِرَتا هذا العام. عندما يحصل الشاب على وظيفته الأولى وينتقل إلى سكن خاص به، فإنه يخوض تلك التجربة منفرداً وللمرة الأولى في المعتاد. وبينما يحاول إثبات ذاته في عالم الكبار، يتلقى رسائل مختلطة من الوسط المحيط به؛ إذ يجد أنه ما يزال "صغيراً" في نظر الآخرين، بغض النظر عن نجاحاته المهنية أو الشخصية، خاصةً قبل أن يتزوج وينجب أطفالاً.
تسبب تلك الحالة، المؤقتة وإن طالت، آلاماً جمة، وتشير دراسات إلى أن شباب هذا العصر أشد معاناة من أقرانهم في أجيال سابقة. فنجد تراجعاً في متوسط سن ظهور أعراض الاكتئاب، فبعد أن كانت الفترة الأكثر شيوعاً قبل 30 عاماً هي منتصف الأربعينيات أو بدايات الخمسينيات، أصبحت اليوم منتصف العشرينيات، ومن المتوقع أن يستمر التراجع في السنوات المقبلة. علماء النفس ليسوا على يقين من السبب؛ ويرجحون أن يكون ذلك نتاج تشابك عدة عوامل، الأمر الذي يصعب معه الوصول إلى استنتاج قاطع.
وأياً كانت الأسباب، فإن أزمة مقتبل العمر تمتد عدة سنوات وتنطوي على 4 مراحل. وبداية الأزمة إحساس بقيود نتيجة التزام تجاه العمل أو المنزل؛ إذ يشغل المرء وظيفة، ويستأجر سكناً، ويدخل في علاقات، غير أنه يشعر فيما بعد كما لو أنه أُلزم بالظهور بنمط حياة الكبار هذا حتى أصبح أسيراً له. وبالتالي، يقرر ذات لحظة إنهاء علاقة أو ترك وظيفة أو الابتعاد عن رفاق، ليعيش وحده في عزلة عن المجتمع. ويقضي المرحلة الأصعب من الأزمة في عزلته، متأملاً وباحثاً عن ذاته، ويجدد خططه ويطورها، وفي النهاية يخرج للمجتمع ليستكشف هوايات واهتمامات جديدة تبث النشاط في حياته الاجتماعية، ويتجاوز أزمته وهو أكثر سعادة وأكبر حافزاً وأصفى عقلاً وأشد استقراراً نفسياً. وهي مراحل قد تستغرق سنوات، وربما تكرر نفسها مجدداً. وهي مؤلمة بلا ريب، إلا أنها تتيح فرصة كبيرة للنمو والنضج، إذ تسهم في تكوين شخصية أفراد يمضون سعداء في حياتهم، التي اكتسبت الغاية وحددوا لها أهدافاً منشودة.
وقد حلل فريق علم البيانات، في الشركة التي تدير تطبيقنا الذكي هابيفاي، مؤشرات نفسية متنوعة لنحو 88,000 مشترك في خدمتنا خلال العام 2015. وتوصلنا إلى ما يدل على أهمية أزمة مقتبل العمر وأن هناك ارتفاعاً في مستوى الرفاه بعد انقشاع تلك الأزمة. بدأنا بدراسة حالات تطوعت بالإبلاغ عن المعاناة من توتر مستمر، ومنها استنتجنا أن أفراد العيّنة يشعرون بارتفاع حاد في مستويات التوتر خلال فترة نهاية العشرينيات وبداية الثلاثينيات من أعمارهم. وأن مستويات التوتر ترتفع ولكن باعتدال خلال عقدي الحياة الثالث والرابع، ومن ثم تظل ثابتة لنحو عشرين عاماً، قبل أن تتراجع بوتيرة حادة قرب سن التقاعد.
فمع أن مستوى التعرض للتوتر يبقى في زيادة متواصلة خلال العقدين الثالث والرابع من العمر، فإن استجابة الفرد العاطفية له تتراجع. ولا يستشعر معظم الناس تلك الزيادة في المشاعر الإيجابية إلا قرب أواخر الثلاثينيات من العمر، ثم يلاحظون بعد بضع سنوات تحسناً ظاهراً في مستوى رضاهم عن حياتهم بوجه عام؛ أي أن بداية هذا المسار الإيجابي تعقب انتهاء أزمة مقتبل العمر، وتستمر على مدار فترة زمنية يكتشف فيها المرء أساليب جديدة للتعامل مع الضغوط الشخصية والمهنية والأسرية. ونخلص من ذلك إلى أن أسوأ فترة عاطفية وجدانية يعيشها المرء في حياته هي تلك التي تبدأ في أواخر عقده الثاني حتى أوائل الثلاثينيات من عمره. تنتاب المرء في تلك الفترة أسوأ الأفكار والمشاعر السلبية وبوتيرة متزايدة، ويعاني أيما معاناة من تشتت ذهنه، وهي حالة نفسية أثبت العلم أنها تنال من قدر ما يشعر به المرء من رفاه.
ويعزى ما يطرأ على الفرد من تغيير بعد اجتيازه أزمة مقتبل العمر إلى ما اكتسبه من مهارات خلالها؛ فقد اكتسب مهارات التمكن النفسي وترويض العواطف وضبطها، أو تجاهلها بدلاً من الاستسلام لسيطرتها. إننا نكتسب مع تقدمنا في العمر مزيداً من الخبرة التي تتيح لنا وضع الأمور في نصابها، وأن نصبح أشد إيماناً بأنفسنا، فنتعمق في فهم حقيقة المشاعر التي تنبثق في قلوبنا، لندرك أن تلك المشاعر المؤثرة مقيدة بفترتها الزمنية، فيجب ألا تستنزفنا. لذلك، لا نجد بأساً في الشيخوخة النفسية، فهي عملية إيجابية تؤدي إلى رجاحة العقل واتزان النفس كلما تقدمنا في العمر. إنها حقائق من شأنها أن تبث الطمأنينة في نفوس من يعيشون عقدهم الثاني من عمرهم، ويعانون التوتر والشعور بالضياع، وأن تذكّر المسنين بما كانوا يعايشونه، بحق، في ريعان شبابهم.