ملخص: هناك نمط متكرر عند استحداث تقنية تكنولوجية حديثة؛ فهي تنمو بسرعة فائقة، وتتغلغل في كافة مناحي حياتنا، وعندها فقط يبدأ المجتمع ملاحظة المشكلات التي تخلقها ويحاول معالجتها. ولكن ألا يمكن تلافي المشكلات المحتملة قبل وقوعها؟ قد لا تستطيع الشركات التنبؤ بالمستقبل، ولكن يمكنها اعتماد إطار عمل سليم يساعدها على الاستعداد للآثار غير المتوقعة والاستجابة لها. أولاً: عند طرح تكنولوجيا جديدة، لا بد من التريُّث وتوليد الأفكار حول المخاطر المحتملة ودراسة نتائجها السلبية ووضع تصورات لعواقبها غير المقصودة. ثانياً: قد يكون من المهم أيضاً أن نسأل في وقت مبكر: مَنْ الشخص الذي سيتحدث باسم المؤسسة إذا اضطرتها الظروف للرد على أي اتهامات تتعلق بالعواقب غير المقصودة أو السلبية لتقنيتها التكنولوجية الحديثة، سواء أكان ذلك للإدلاء بشهادته أمام البرلمان أو للمثول أمام المحكمة أو للإجابة عن أسئلة وسائل الإعلام. ثالثاً: تعيين رئيس تنفيذي لشؤون أخلاقيات التكنولوجيا.
نريد جميعاً أن تحقّق لنا التكنولوجيا ما كنا نأمله منها وأن تثري حياتنا دون أن تخيفنا، وأن تساعدنا دون أن تضرنا. ونعلم أيضاً أن كل تكنولوجيا جديدة لا بد أن تحوز ثقتنا. وغالباً ما يسير النمط على هذا النحو: يتم استحداث التكنولوجيا، وتنمو بسرعة، ثم لا تلبث أن تتغلغل في كافة مناحي حياتنا، وعندها فقط يبدأ المجتمع ملاحظة المشكلات التي قد تخلقها ويحاول معالجتها.
ولا تقتصر هذه الظاهرة على العصر الحديث فحسب. ولا أدَلَّ على ذلك من الحقبة الأولى لعصر صناعة السيارات بكميات ضخمة. فحينما جرّب السائقون وسائل النقل الحديثة والمثيرة، زادت معدلات وقوع الحوادث وما أسفرت عنه من ازدياد أعداد الوفيات أضعافاً مضاعفة مقارنةً بالمعدلات الحالية. تخيل لو كان ازدياد أعداد السيارات قد سار بشكل مختلف، وذلك من خلال تطوير أحزمة الأمان وإنشاء طرق أكثر أماناً وتطبيق قوانين مرورية أكثر ذكاءً قبل ذلك بكثير، بالتوازي مع ابتكار المحركات التي أعطتنا المزيد من القوة والسرعة. كان من الممكن تلافي الكثير من المخاطر وتجنب الكثير من المآسي.
ومن هنا يتعين على الشركات أن تتعلم كيفية تلافي مخاطر تقنيات الذكاء الاصطناعي التي تستحدثها وشبكات اتصالات الجيل الخامس التي بدأت في إنشائها، وغيرها من التقنيات العديدة المرتقب دخولها في أعمال المؤسسات، بدايةً من الحوسبة الكميّة، وصولاً إلى تكنولوجيا الواقع الافتراضي وتقنيات "البلوك تشين". إذ يجب أن تكون التقنيات التكنولوجية التي تقود التغيير الشامل، التي تشكّل عنصراً أساسياً لنمو الاقتصاد، جديرة بالثقة. ويجب على الشركات التي تساير التطورات التكنولوجية أن تتصرف بطريقة تراعي أخلاقيات العمل. صحيح أن المخاطر مرتفعة، لكن معرفة التدابير الواجب اتخاذها تختلف عن معرفة كيفية تنفيذها على أرض الواقع.
يجب أن تحاول المؤسسات توقُّع الآثار المحتملة للتقنيات التي تستحدثها وتعمل على معالجتها. وقد لا تستطيع المؤسسة التنبؤ بالمستقبل، ولكن يمكنها اعتماد إطار عمل سليم يساعدها على الاستعداد للآثار غير المتوقعة والاستجابة لها.
ويجب أن يُحدِث هذا الإطار تغييرات جذرية في كيفية تطوير التقنيات التكنولوجية الحديثة واستحداثها. ويجب أن يسهم في إعادة تنظيم العمليات الحالية. ويجب أن يعكس أي إطار عمل الجهد الجماعي المبذول في هذا الصدد، ولا يكون مجرد وظيفة يتم إسنادها إلى المهندسين والمدراء المتخصصين، بل يجب أن يكون عملاً يشمل كافة التخصصات. ويجب أن يفتح الأبواب أمام طرق جديدة للتفكير في التحديات المرتقبة. ويتمثل الهدف هنا في استعراض إطار عمل يمكنه فعل كل هذه الأشياء.
استعن بالمتخصصين
غالباً ما تستحوذ إمكانات التكنولوجيا بالدرجة الأولى على عقول أولئك المنغمسين في عالم هندسة البرمجيات، وأعتبر نفسي واحدة منهم، ولا يفكرون في شيء سوى الفرص التي تتيحها لخلق قيمة مضافة. ولأن الأسئلة المثارة حول تبعات التكنولوجيا أصبحت أكثر شيوعاً، فلا يزال يتعين على المهندسين بذل جهد مضاعف لفهم أضرارها المحتملة. ولكن المهندسين ومطوّري البرمجيات لا يمتلكون بالضرورة الخبرات اللازمة لفهم المخاطر الأخلاقية التي قد تترتب على عملهم ومعالجتها.
بعبارة أخرى، قد يكون هناك دورٌ مهمٌ للمتخصصين العاملين في مجالات أخرى. ومن هذا المنطلق، فإننا بحاجة إلى تغيير أولوياتنا لمساعدة فرق تطوير التكنولوجيا على التفكير بطريقة تمدهم بنظرة استشرافية أكثر عمقاً والتعرف على الفروق الدقيقة المرتبطة بهذه القضايا، مسترشدين بأولئك الذين يمتلكون معرفة تخصصية أكثر ارتباطاً بمشكلاتها.
انظر مثلاً إلى تطوُّر الأدوات التدريبية باستخدام تكنولوجيا الواقع الافتراضي التي تعرّض المستخدم لمواقف صعبة أو دراماتيكية تتطلب استجابة عاجلة. ومع تطور التكنولوجيا الحديثة، أصبحت محاكاة الواقع الافتراضي شديدة الشبه بالواقع الفعلي، حتى إنك قد تحتاج إلى معالجة إمكانية حدوث صدمة حقيقية نتيجة التعرّض لتجربة افتراضية. ويجدر بالفريق أن يستعين بطبيب نفسي يعمل جنباً إلى جنب مع مهندسي البرمجيات للتعرّف على أسباب الصدمة أو لمعرفة كيفية تحديدها ومعالجتها.
وإذا أردت مثالاً آخر، فانظر إلى التصنيع السحابي والطباعة الثلاثية الأبعاد. فمع سعي الشركات لاعتماد هذه التقنيات القادرة على تغيير المهارات المطلوبة بصورة جذرية في المصانع، قد يكون من الأفضل أن تستشير خبراء الاقتصاد المتخصصين في العمالة الذين يمكنهم إلقاء الضوء على قضايا قوة العمل الأكثر شيوعاً. ولأن شبكات التواصل عبر تقنيات الجيل الخامس تجعل المصانع متصلة إلكترونياً عبر الإنترنت طوال الوقت، ويمكن حتى إدارتها عن بُعد بالكامل، فيجدر بالشركات التشاور مع متخصصين في أمن المصانع والأمن السيبراني، بل وربما الفلسفة لفهم المزالق المحتملة التي قد تنشأ عن عمل المصانع دون توظيف أي أشخاص في منشآتها.
تريَّث وضع خطة
من الطبيعي أن يوجّه الفريق كل اهتمامه خلال مرحلة التخطيط الاستراتيجي إلى الإمكانات المتاحة. وهذا هو مكمن الإثارة والحماس. ولكن يجب الانتباه أيضاً إلى فهم الأخطاء التي قد تحدث. ولا بد من التريُّث وتوليد الأفكار حول المخاطر المحتملة ودراسة نتائجها السلبية ووضع تصورات لعواقبها غير المقصودة.
قد يعني هذا أن اندفاع الشركات نحو المستقبل القائم على شبكات الجيل الخامس، والمصحوب بقفزة هائلة في سرعة البيانات وتقنيات التواصل الميسور، يقتضي ضرورة تريُّثها لدراسة المخاوف الناشئة المرتبطة بالخصوصية ومعالجتها، ربما بطريقة تتجاوز بكثير تلك المخاوف التي نعانيها حالياً. أو يمكنها دراسة الآثار الجانبية لهذه القفزة في سرعات البيانات وما قد تسفر عنه من تفاقم عدم المساواة في مجتمعنا واتساع الفجوة الرقمية.
ويجب توثيق هذه الخطوة في عملية التخطيط التي يتم فيها توليد الأفكار حول المخاطر المحتملة وتحليلها، بنفس وضوح عرض القيمة أو العائد المتوقع على الاستثمار. ويمكن أن يسهم توثيق هذا العمل في ضمان بقائه جزءاً من الجهد المبذول. وقد طورت شركة "ديلويت" أكثر من 300 سؤال لاستكشاف الأبعاد الأخلاقية والثقة التي يمكن أن تساعد على إتمام عملية التخطيط الاستراتيجي بصورة جيدة وتحسين نتائجها.
وتهدف هذه الأسئلة إلى التفكير في أخلاقيات التكنولوجيا في سياق القضايا التي ظهرت على السطح فعلياً، مثل التحيز التمييزي في التسويق عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو أنظمة استقطاب المواهب. لكنّ هناك عيوباً تكتنف هذه الطريقة في التفكير لأنها قد تجعلنا عاجزين عن ملاحظة المخاطر الأخلاقية الأخرى التي قد تكون أخطر بكثير، وتعجز عن مراعاة الفروق الدقيقة التي تميّز بين مختلف المؤسسات والقطاعات والعملاء والمنتجات.
وبعد تقييم الآثار السلبية المحتملة لتقنية تكنولوجية جديدة معينة وتشكيل فريق لديه خبرة في المجال المعني، لا بد من دراسة الموقف بصورة مفصلة. إذ يتعين على الفريق إجراء الأبحاث اللازمة، ومن ثم يمكن البدء في وضع الضوابط الرقابية التي يمكن أن تحد من المخاطر وتقلل من الأضرار المحتملة. ويجب أن يفرض القادة ضرورة تطوير استراتيجيات أخلاقية لتخفيف حدة المخاطر كجزء من التخطيط لأي مشروع تكنولوجي جديد.
تحديد المسؤوليات
قد يكون من المهم أيضاً أن نسأل في وقت مبكر: مَنْ الشخص الذي سيتحدث باسم المؤسسة إذا اضطرتها الظروف للرد على أي اتهامات تتعلق بالعواقب غير المقصودة أو السلبية لتقنيتها التكنولوجية الحديثة. ويجب مراعاة تحديد المسؤوليات عند توثيق المنهج الواجب اتباعه للتعامل مع الآثار المحتملة خلال عملية التخطيط الاستراتيجي.
وعندما يتم استدعاء مسؤولي الشركة للمساءلة عن التكنولوجيا التي طورتها أو استحدثتها، قد ينتهي الأمر بحضور شخص محدد للإدلاء بشهادته أمام البرلمان أو المثول أمام المحكمة أو الإجابة عن أسئلة وسائل الإعلام. هل سيكون هذا الشخص هو الرئيس التنفيذي أو الرئيس التنفيذي للمعلومات أو عالم البيانات أو مؤسِّس الشركة، أو شخصاً آخر؟
قد تشجع المناقشة حول هذا الموضوع على مزيد من التفكير المتعمّق حول الأخطاء التي قد تحدث. وبطبيعة الحال، فإن الاهتمام الأكثر تعمقاً بمثل هذه النتائج السلبية هو الفكرة الأساسية هنا، وقد يحسّن من فرص عدم الاضطرار إلى مثول أي شخص أمام واضعي السياسات أو القضاة للإدلاء بشهادته حول كيفية تسبب تقنية تكنولوجية في وقوع أخطاء في المقام الأول.
عيّن رئيساً تنفيذياً لشؤون أخلاقيات التكنولوجيا
لا يوجد أسلوب موحَّد للتعامل مع أخلاقيات التكنولوجيا الجديدة بأفضل السبل. وقد تفرض الظروف ضرورة دراسة عدد كبير من الآثار المحتملة، وقد تضطرنا إلى تلافي مجموعة متنوعة من المخاطر المحتملة. لكن معظم المؤسسات قد يستفيد من تكليف فرد محدَّد بمسؤولية هذه العمليات. لذا يجب أن تفكر المؤسسات في تعيين مسؤول تنفيذي لشؤون الأخلاقيات، أو رئيس تنفيذي لشؤون أخلاقيات التكنولوجيا بحيث يتحمل المسؤولية وتُخوَّل له صلاحيات حشد الموارد اللازمة.
تجدر الإشارة هنا إلى أن بعض القطاعات ظلت لعقود من الزمان تعاني تحديات جسيمة فيما يتعلق بالثقة والأخلاق. وقد لجأت المستشفيات والمراكز البحثية، على سبيل المثال، إلى تعيين رؤساء تنفيذيين لشؤون الأخلاقيات منذ فترة طويلة للتعامل مع المشكلات الناجمة عن المشاريع البحثية والممارسات الطبية الإكلينيكية. وقد تؤدي التكنولوجيا بالتأكيد إلى إثارة مخاوف جديدة، حتى في القطاعات الطبية، ولك أن تنظر مثلاً إلى كليات الطب التي تستخدم أدوات الواقع الافتراضي لرفع كفاءة الجراحين وما يستتبعه ذلك من أهمية التعرّف على ما إذا كانت هذه الأدوات تعمل جيداً دون تمييز بين الأعراق المختلفة أو بين الرجل والمرأة. لكن الفكرة الأساسية هنا هي إمكانية إدارة قضايا الثقة والأخلاق بفاعلية مع توضيح الالتزامات القيادية بالطريقة المناسبة.
وحتى إذا تم تعيين رئيس تنفيذي لشؤون أخلاقيات التكنولوجيا يظل من المهم الاستعانة بمتخصصين في عدد من المجالات المختلفة، كما أوضحنا سابقاً. قد يكون هؤلاء المتخصصون علماء في الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والفلسفة، وغيرها من المجالات. واعتماداً على المشكلات التي تثيرها تقنية تكنولوجية معينة أو تطبيق إلكتروني محدّد، فقد يكون من الضروري البحث عن الأشخاص الذين يمتلكون المعرفة بالقوانين أو السياسات أو اللوائح التنظيمية أو التعليم أو الإعلام.
التحديات والفرص
من المتوقع أن تكتسب قدرتنا على الإدارة الأخلاقية وزيادة الثقة في أدواتنا التقنية أهمية كبيرة في السنوات المقبلة بالتوازي مع تطور التكنولوجيا وتسارعها وتغلغلها أكثر وأكثر في حياتنا. ومن المحتمل أن يمثّل هذا تحدياً لكل الشركات وقطاعات العمل، وقد يسفر عن عواقب مؤلمة للمؤسسات التي تعجز عن مواكبة هذا التحدي.
لكن الفرص موجودة أيضاً في كل مكان. وإذا كان بإمكانك تخيل عالم يشهد تطور سلامة المركبات وحركة المرور بسرعة تواكب تطور السيارات أو بمعدل أسرع، فربما يمكنك تخيل الفوائد التي يمكن أن تعود على أولئك الذين يتعاملون مع هذه التحديات بالشكل الصحيح.