في العلا، لم يكن التاريخ مجرد سرد لقصص الحضارات، بل هو شاهد على عبقرية الإنسان في الماضي، التي تندمج اليوم مع قصة الإنسان في العلا عندما كان السابقون حاضرين في هذه الأرض وتكيّفوا فيها، وكما بنوا حضورهم الخالد في التاريخ بالماضي، فإن أهل العلا اليوم يبنون قصة النجاح للهيئة الملكية لمحافظة العلا.
في الماضي، صنع أهل الأنباط حضورهم وقدرتهم على البناء والتكيف مع الطبيعة المحيطة من تلك الصروح التي نحتوها في الجبال، وفي مملكة دادان التي ازدهرت، ليرسلوا من الماضي رسالتهم التي نقشوها، والتي تدعونا إلى الحفاظ عليها وتدفعنا إلى إضافة فصل جديد في حكاية العلا التي تستمر في النمو ونروي تربتها للغد مع مستلزمات الحاضر.
واليوم، ونحن نحتفي باليوم الوطني الـ 94 من قلب العلا؛ نؤمن بأن الوطن هو المعنى الذي تنبض به العلا، ومن هذه الأرض التي تجمع بين التاريخ والمستقبل، أروي لكم قصتنا وأحدّثكم عن بعض مما يحمله المستقبل، لأنني في العلا، أرى بوضوح كيف يمكن للماضي أن يرسم لنا الطريق نحو المستقبل.
لقد انطلقنا من رؤية سعودية تجعل الخطط واقعاً قبل الحديث، التي تثبت يوماً بعد يوم آخر أن المنجز يجب أن يكون حاضراً قبل الكلمة، وأن الكلمة لها مسار الخطط، وأن الخطط لها تفاصيل النقاش، وأن كل نقاش ينبغي أن يتحدث وفق المعطيات لبلوغ الأهداف؛ لنجعل من "وادي القرى" منهلاً لا ينضب ويستمر في التدفق في شرايين الحياة.
في العام 2019، دشن صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ولي العهد رئيس مجلس الوزراء رئيس مجلس إدارة الهيئة الملكية لمحافظة العلا "رؤية العلا"، بهدف أن تصبح العلا وجهة عالمية للتراث والثقافة والتاريخ والتراث والسياحة والرياضة، تبعها في العام 2022 إطلاق المخطط الرئيسي الأول "رحلة عبر الزمن"، الذي يهدف إلى تطوير المواقع التراثية، وفي العام 2023 جرى إطلاق المخطط الرئيسي الثاني "نحو مجتمع مزدهر"، بهدف تطوير المواقع الحضرية لوسط العلا وجنوبها، ويهتم بالتطوير العمراني واستخدامات الأراضي والمرافق ومستهدفات الصحة العامة وتحسين جودة الحياة.
نحن في العلا، نرتكز على الإرث للغد، ولا نحتفي بما تحقق في سنوات قليلة ماضية دون لَبنات مضت لبلوغ غايات أكبر، ونظرتنا الحقيقية هي أن نجد للغد مكاناً في الحاضر وبمستهدفات واضحة، لذلك سآخذكم إلى نظرة الشمول عن مشاريع ومبادرات هدفنا فيها التطوير، وبناء قصة الإنسان أولاً لأنه الشريك الأهم، والمكان بصفته صانع الرواية للعلا.
شرعان: عندما يتحدث الحجر بلغة الفن
لقد رأى المعماري الفرنسي جان نوفيل، الذي استلهم من صخور العلا قصيدة معمارية جديدة، في هذه الصخور ما يفوق الحجر؛ فقد رأى فيها روحاً تتنفس عبر الزمن.
مشروع "شرعان" ليس مجرد منتجع، بل هو حوار مستمر بين الإنسان والطبيعة، حيث يتداخل التصميم المعاصر مع التاريخ العميق، ليمنح الزوار تجربة وسط البيئة الطبيعية الثقافية في قلب التاريخ.
أمان الحجر وتشيدي الحجر: الفخامة في قلب التاريخ
على مقربة من شرعان، يطل منتجع "أمان الحجر" ليكون واحة من الهدوء والفخامة، حيث يجد الزائر نفسه محاطاً بجمال الطبيعة وتاريخ العلا في رحلة عبر الزمن، وبالقرب منه تقع "تشيدي الحجر" التي تجمع بين الفخامة والثقافة لتنسج فصولاً جديدة للحاضر والمستقبل.
حي الفنون في الجديّدة: حيث يلتقي الفن بالإبداع
في قلب العلا، وبين أحضان "الجديدة"، يظهر حي الفنون بروح الإبداع المتجدد، فيه تتفتح العقول، وتلتقي الأفكار لتكّون عالماً من الإبداع والتفرد، حيث يشكّل حي الفنون مسرحاً يجتمع فيه الفنانون من مختلف أنحاء العالم، ليقدموا أعمالاً تعكس تفاعلهم مع العلا، وتزداد بريقاً في عوالم "مدرسة الديرة" التي تنمّي روح الحرف والفنون لدى أبناء العلا وبناتها.
وفي "مساحة العلا للتصميم"، نجد امتداداً لهذه الروح الإبداعية التي تتخطى حدود الفن التقليدي، لتشمل التصميم والحرف اليدوية، ما يخلق بيئة تدعم المواهب وتعزز مكانة العلا بوصفها مركزاً للفن والإبداع لصناعة فن يجمع بين الإبداع والإنتاجات الفنية في العلا.
الواحة الثقافية: توازن الطبيعة مع الإنسان
بين هذه المشروعات، نجد "الواحة الطبيعية الثقافية" رمزاً للتناغم بين الإنسان والطبيعة لإحياء الواحة القديمة، بل هي رؤية لمستقبل مستدام يضع أساساً للبيئة ويعزز التراث الطبيعي وكذلك الثقافي، ما يمكّن الزوار من عيش تجربة تجمع بين التأمل في جمال الطبيعة وتعلم دروس من التراث الثقافي الغني للعلا.
مهرجانات التمور والحمضيات: الاحتفاء بالأرض وثرواتها
خلال موسم الحصاد، تستقبل العلا زوارها في مهرجان التمور، حيث يتحول كل نخلة إلى رمز للحياة، وكل ثمرة إلى قصة نجاح. ويمثل مهرجان العلا للتمور احتفاءً بالمنتجات الزراعية وبأهالي العلا الذين يعملون على رعاية هذه الثروة الطبيعية وإنتاج منتجات عالية الجودة، تعكس ارتباط أهالي العلا بأرضهم وتراثهم. وهناك أيضاً مهرجان الحمضيات، الذي يبرز تنوع المنتجات الزراعية في العلا بسبب ثراء الأرض، وهو احتفاء بخيرات مزارع العلا بالعديد من المنتجات الحمضية.
حماية الطبيعة: النمر العربي يعود إلى موطنه
لا يمكن الحديث عن العلا دون التطرق إلى الجهود المبذولة لحماية البيئة الطبيعية، ويتجلى ذلك في مشروع إعادة النمر العربي إلى موائله الطبيعية، وهو من أبرز المبادرات البيئية لأنه يعكس التزامنا بالحفاظ على التنوع البيئي؛ فهو ليس مجرد عمل للحفاظ على النمر العربي، بل هو جزء من رؤية شاملة تهدف إلى تحقيق توازن مع الطبيعة.
برنامج حمّاية: صون التراث واستدامته
من أهم المبادرات المجتمعية لتفعيل الشراكة وتعزيز الوعي بأهمية الحفاظ على التراث الثقافي والتاريخي والطبيعي الاستثنائي، ويشمل العلا وخيبر وتيماء، من خلال إشراك أبناء الوطن وبناته فيه؛ ليكونوا سفراء يؤدون دوراً محورياً في صون تراث هذه المناطق وبيئتها وطبيعتها للأجيال القادمة، الذي يستمر عاماً بعد عام لتطوير المهارات للمنتسبين إلى البرنامج.
برنامج العلا للابتعاث: التطوير والتعليم للتمكين
أحد البرامج الاستراتيجية لابتعاث أبناء العلا وبناتها في مجالات السياحة والضيافة والزراعة والتاريخ والفنون وعلوم الآثار والمتاحف والتخطيط الحضري وعلوم البيئة وإدارة المرافق والخدمات وإدارة التواصل، بهدف تلبية المتطلبات المتنامية لأسواق العمل المحلية والعالمية، فضلاً عن إعدادهم بصفتهم قادة ورواد أعمال للمستقبل، في عدد من الجامعات في المملكة المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا وهولندا وسويسرا وألمانيا وإيطاليا.
العلا: روايةٌ للعلا
في العلا تندمج الأزمنة وتلتقي الحضارات، لتبقى حكاية العلا مستمرة لا تنتهي، إنها حكاية وطن يحتفي بالإرث ليصنع أثراً يبقى للأجيال القادمة، وفي حين نمضي قدماً في تحقيق رؤية العلا، تبقى العلا مرآة تعكس التزامنا بالحفاظ على تاريخنا في صنع مستقبل يحتفي بالإرث ليصنع الأثر.