ماذا يحدث لصحتنا العقلية في العمل حين تعرف أجهزتنا ما نشعر به؟

5 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

هل تشعر أنك مضغوط؟ أو مكتئب؟ أو مشتت الذهن؟ أو غارق في بئر من المسؤوليات والالتزامات؟ أنت لست وحدك. فلم تكن المتطلبات المعرفية والنفسية الواقعة على المدراء أكثر تعقيداً أو حدة من الوقت الحالي. إذ كشفت مؤخراً إحدى الدراسات الاستقصائية العالمية، والتي أُجريت حول برامج مساعدة الموظفين، أن مشاعر القلق والتوتر والاكتئاب التي تصيب الموظفين قد مثَّلت مجتمعةً أكثر من 80% من إجمالي حالات الأمراض النفسية في عام 2014، مقارنةً بنسبة 55% في عام 2012. وفي المملكة المتحدة وحدها، قدَّر تقرير صادر عام 2014 عن الرئيس التنفيذي للخدمات الطبية في إنجلترا أن عدد الأيام المرضية المستنفدة بسبب التوتر والاكتئاب والقلق قد ارتفع بنسبة 24% في الفترة ما بين عامي 2009 و2013.

لذلك، أصبحت حماية المدراء لصحتهم العقلية أولوية أولى لديهم للحفاظ على حياتهم. وتنصح “أريانا هافينغتون” بنيل قسط أكبر من النوم. وهناك عديد من المدراء التنفيذيين يمارسون اليقظة الذهنية والتأمل ليتأقلموا مع عملهم بصورة أفضل، في حين يتعاطى آخرون الأدوية الموصوفة أو حتى المتاحة دون وصفة طبية لإنجاز عملهم. وهناك أعداد متزايدة من المدراء في جميع أنحاء العالم يعلمون أنهم في حاجة ماسة إلى يد المساعدة.

ويمكننا أن نتوقع، بشكل متزايد، من أجهزتنا الشخصية أن تقوم بتشخيص حالة صحتنا العقلية ومراقبتها وإدارتها. فوجود هذه الأجهزة في كل مكان يعني أنها قادرة على القيام بذلك.

ويقدم دكتور جون توروس، المدير المشارك في برنامج الطب النفسي الرقمي في “كلية طب جامعة هارفارد”، ملاحظته في هذا الشأن، قائلاً: “إن الكم المتزايد من الوقت الذي نقضيه في استخدام هذه الأجهزة، غالباً بهدف التسلية والعمل معاً، يعني أن عديداً من تجاربنا النفسية يمر عبر هذه الوسائط الرقمية”.

وبمرور الوقت، يزداد تعقيد القدرات التحليلية لهذه الأجهزة. فنجد بالفعل تطبيقات متنوعة للعلاج النفسي الرقمي تهدف إلى مساعدة المستخدمين على تشخيص حالاتهم المزاجية، والتأمل، والتخلص من الأفكار السلبية. كما تراقب الساعات الذكية وأجهزة تتبع اللياقة البدنية معدل ضربات قلب المستخدم، ونومه، وحركته. حتى أن هناك برمجية معينة لتحليل النصوص تحذر المستخدمين من رسائل البريد الإلكتروني ذات النبرة الغاضبة.

ويمكن أن يؤدي الجمع بين القدرات التحليلية للعديد من الميزات والأجهزة إلى تنبيه المستخدمين للتغيرات المزاجية قبل أن يكونوا على وعي بها حتى. فحسبما لاحظت صحيفة “ذي أتلانتيك” (The Atlantic) في وقت سابق هذا العام:

“عندما يبدأ الأفراد الشعور بالاكتئاب، مثلاً، قد يظهر عليهم العديد من الأعراض التي يسهل على الهواتف الذكية استشعارها من خلال الميكروفونات، ومقاييس التسارع، ونظام تحديد المواقع، ولوحة المفاتيح: فقد يتحدثون مع أشخاص أقل، وعندما يتحدثون قد يكون ذلك بوتيرة أبطأ وبكلمات أقل ويستخدمون جملاً غير مترابطة ومفردات محدودة… وقد يقضون مزيداً من الوقت في البيت ولا يرتادون أماكن كثيرة. كما قد تختلف أنماط نومهم”.

وستتطور تقنية التعرف على الوجوه والأصوات، قريباً، بما يكفي لتقديم تجربة أكثر ثراءً لحالات الاستخدام هذه وغيرها.

ستشق هذه الاستخدامات الجديدة، حتماً، طريقها إلى بيئة العمل. فمثلما تشغل حالياً علوم البيانات وخوارزميات التعلم الآلي تحليلات الأعمال التقليدية وانتباه بيئات العمل، فإن البحوث النفسية المعتمدة على البيانات ومقاييس الصحة العقلية ستعيد هي الأخرى تشكيل التدريب القيادي، والمعرفة، والذكاء العاطفي. أي أنه عاجلاً وليس آجلاً، لن يكون هاتفك الذكي قادراً على القيام بدور طبيبك النفسي فقط، بل قد يضطلع أيضاً بدور مدربك القيادي، فيكون بمثابة “سيغموند فرويد” (الطبيب النفسي) و”بيتر دراكر” (المدرب القيادي) في آن واحد. فستقوم ساعتك الذكية، علاوة على تذكيرك بالسير 500 خطوة أخرى أو تناول المزيد من الماء، بتوجيهك أيضاً على التحدث أكثر في الاجتماعات. (أو ربما تنهيك أكثر عن مقاطعة الآخرين).

وقد تثبت هذه الأساليب المعززة رقمياً لصحة الموظف فائدتها بصفة خاصة للعاملين عن بُعد. إذ يقول توروس: “قد يكون من الصعب رصد مؤشرات التوتر أو حتى الاكتئاب، خصوصاً بالنسبة للعاملين في بيئات عمل إلكترونية أو عن بُعد”. وبدوره، يمكن أن يغير الطب النفسي الرقمي من هذا، سواء من حيث النظرية أو التطبيق.

سيؤدي ظهور الطب النفسي الحسابي والرقمي – باعتباره تقنية وممارسة طبية في آن واحد – إلى تغيير كيفية مراقبة الأفراد لحالاتهم المزاجية وصحتهم العقلية وإدارتهما. ويوضح توروس: “لدينا بالفعل الكثير من الأدلة الطبية تشير إلى أن البيانات التي تجمعها الهواتف الذكية والأجهزة القابلة للارتداء بل وحتى أنماط استخدام الحاسوب يمكن أن تقدم رؤى جديدة مخصصة حول الصحة العقلية. وقد أصبح تحويل هذه التقنيات إلى تطبيقات أو برامج يرغب الناس في استخدامها، والتأكد أن بياناتها توفر رؤى مفيدة وقابلة للتطبيق، محور العديد من التحقيقات البحثية الدائرة في “كلية طب جامعة هارفارد”، علاوة على العديد من البرامج الأخرى بأنحاء العالم”.

واليوم، نجد أن العديد من خبراء الصحة يوجهون المدراء المجهدين بتجديد نشاطهم عن طريق ترك أجهزتهم. ولكن مع قدرة التقنيات المتنقلة والقابلة للارتداء على الاستجابة لحالاتنا المزاجية أكثر فأكثر، هل ستظل هذه النصيحة نافعة؟ أم سنصل إلى مرحلة يصبح فيها فصل الأشخاص المكتئبين أو المتوترين عن أجهزتهم التشخيصية الرقمية تصرفاً غير مسؤول من الناحية الأخلاقية أو الطبية؟ لقد محت الهواتف الذكية بالفعل الحدود بين الحياة الشخصية والعملية، وكلما ازدادت تعقيداً، أصبح الاندماج الحسابي بين السلوكيات الشخصية والعملية أمراً لا مفر منه أيضاً. ورغم أن ذلك قد يكون مقلقاً بالنسبة إلى البعض، لكن بالنسبة إلى البعض الآخر، قد يكون جزءاً مهماً لبناء مجموعات البيانات في الطب القائم على البراهين من الناحية العلاجية.

فقد يصبح المدراء المطلعون على البيانات قادرين على تطبيق إجراءات فورية لتخفيف وطأة المواقف العصيبة قبل خروجها عن السيطرة. ويمكن لمسؤولي الموارد البشرية، بل وينبغي لهم، أن يعرفوا متى وما إذا كان المدراء مجهدين أو مكتئبين بشكل يعطل العمل. كما ينبغي أن يرى القادة كيف ترتبط الحالة المزاجية للمدراء وأساليبهم الإدارية بالحالة المعنوية. فعلى سبيل المثال، البحث عن علاقات بين الحالات المزاجية للمدراء وتحليل المشاعر في محادثة عبر تطبيق مثل “سلاك” (Slack)، يمكن أن يثبت فائدته الصحية بشكل استثنائي. فما نوع المحادثات التي تسبب قدراً كبيراً من القلق والتوتر؟ وما الحالات المزاجية للمدراء التي قد تشير إلى تفاعل إلكتروني غير صحي أو تتوقعه؟

ويصرح “توروس” قائلاً: “القدرة على استخدام هذه البيانات لتعزيز الصحة في بيئة العمل لا تُضاهى. حتى أن مثل هذه البيانات قد تساعد في التنبؤ بالحالات المزاجية المستقبلية للفرق والأفراد، فتشير مثلاً بشكل استباقي إلى الوقت الذي قد يستفيد فيه الموظف من يوم إجازة للاعتناء بصحته العقلية. وبالطبع تحتاج هذه التطبيقات والأجهزة القابلة للارتداء أن تكسب ثقة المستخدمين وتحمي معلوماتهم الحساسة – فدون الثقة، لا وجود للصحة أو العافية”.

وبالتأكيد، لا مفر من المخاوف المتعلقة بالخصوصية. وهنا، يواجه المدراء التنفيذيون خلال رحلة العلاج النفسي تحدياً وفرصة: هل ينبغي لهم ربط بياناتهم الذاتية النفسية للإبلاغ عن أدائهم في العمل؟ وبالمثل، إلى أي مدى تؤثر تحليلات بيئة العمل على التقدم المحرز في صحتهم العقلية؟

تكمن الإجابة في سياسات المؤسسة بقدر ما تكمن في قوانينها. إذ ينبغي للمؤسسات أن تتحلى بالشفافية حول البيانات السلوكية التي لن تراقبها وتديرها، بالإضافة إلى تلك التي سوف تجمعها وتحللها. ومن ناحيتهم، يجب أن يقدم الموظفون موافقة مطلعة على كيفية استخدام تحليلات الصحة العقلية لتقييم اللياقة البدنية، والأداء، والأهلية للترقي. قد يُمنح موظفون ومدراء معينون امتيازات خاصة لحماية البيانات التي تجمعها أجهزتهم وتطبيقاتهم العلاجية. وعلى العكس كذلك، قد يُسمح للشركات، بل وحتى قد تُشجع على مشاركة تحليلات أعمالها لمساعدة المدربين والمعالجين.

ستُستخدم تقنيات التشفير والبلوك تشين بشكل متزايد لضمان خصوصية المعلومات الحساسة وسلامتها. لكن لا مفر من الواقع المبني على البيانات لدرجة أن توقعاتنا بشأن مسائل الخصوصية ستتغير، نظراً لأن المتغيرات المعرفية والنفسية والعاطفية تحدد بشكل متزايد طبيعة الأداء والنتائج في بيئة العمل. وسيرغب أرباب العمل والموظفون على حد سواء في رؤى أفضل وأوضح حول بيئات العمل الصحية وغير الصحية.

فيقول “توروس”: “الحفاظ على خصوصية هذه البيانات أمر مهم لضمان بقاء هذه البرامج في إطار قوانين الخصوصية والحدود الأخلاقية واحترام الغير”.

وفي نهاية المطاف، قد تُستخدم تحليلات بيئة العمل لتقديم ترشيحات وتوصيات مخصصة، بهدف توقُّع تحديات الصحة العقلية أو التأقلم معها بشكل أفضل. إذ تشهد “برامج إدارة الذات” – وهي برمجيات وأنظمة تعطي للمرء قوة وسيطرة وفهماً أكبر لنفسه – انتشاراً سريعاً باعتبارها واحدة من أهم أنواع برمجيات الإنتاجية الجديدة في السوق العالمية. وفي المقابل، فإن برامج إدارة الذات التي تستهدف زيادة الإنتاجية على حساب اليقظة الذهنية والصحة العقلية لا يمكن أن تنجح بشكل مستدام. وستعتمد الروح المعنوية للموظفين، بشكل متزايد، على قدرة مؤسستهم في قياس صحتهم العقلية ومراقبتها وإدارتها بشكل أفضل.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .