التحديات المستمرة والدروس المستفادة من تجربة الجامعات خلال جائحة كورونا

6 دقائق
shutterstock.com/rawf8
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

منذ بداية عام 2020 والعالم يصارع جائحة عالمية أجبرته على تغيير العديد من العادات اليومية المجتمعية، فالمصافحة باليد أصبحت من المحرمات، والبقاء في المنزل بات أمراً إلزامياً، والاستخدام المستمر لمعقمات اليدين والقفازات الطبية وكمامات الوجه أصبح ضرورة ملحة، واقتصار الإنفاق على السلع الأساسية أمسى لا بديل عنه، وكأن فيروس كورونا المستجد جاء لإعادة تشكيل عاداتنا وتحويلها نحو نظام اجتماعي جديد بالكامل.

إن هذه التغييرات التي فرضها هذا الكائن الميت على مجتمعات الأرض الحية لم تقتصر على العادات الاجتماعية والاستهلاكية فحسب، بل امتدت لتشمل عماد المجتمع، وهو قطاع التعليم ومسيرة التعليم عن بعد، فهل استطاعت المؤسسات التعليمية أن تكون على قدر التحدي؟ أم أن العوائق التنظيمية لا تزال تحول دون إيجاد بيئة مناسبة تستطيع التأقلم مع هذا الواقع الجديد للتعليم؟

التحديات المستمرة التي تعوق مسيرة التعليم عن بعد في الجامعات

لقد أصبح التعليم عن بعد المخرج الوحيد لاستكمال العملية التعليمية مجبراً المؤسسات المعنية على تأهيل كوادرها وتمكينهم من استخدام تكنولوجيا التعليم بفاعلية، واستغلال التكنولوجيا الحديثة في العملية التعليمية بالشكل الأمثل، وعلى الرغم من أن نموذج التعليم عن بعد كان سائداً في بعض الجامعات أو المراكز التعليمية حول العالم، فإن هذه الجائحة أعطته دفعة قوية ليصبح أمراً لا غنى عنه، وبسبب هذا النمو الهائل ظهرت بعض الفجوات ما بين واقع التعليم عن بعد وقدرة الكادر التدريسي على الاستفادة من هذا النموذج وكيفية نقل خبراته إلى الطلاب دون وجود التفاعل الفيزيائي الذي كان يسهل توصيل المعلومات الدراسية، فقد كان المعلم يستطيع كشف مدى فهم طلابه للمعلومات التي يقدمها عن طريق النظر إليهم وسؤالهم الأسئلة الفجائية التي تسبر قدراتهم خلال لحظات معدودة، ولهذا، فإن التفاعل المكاني هو أبرز الموارد التي خسرها الطالب وأستاذه في بيئة التعليم الجديدة، ومع ذلك، فقد أثبتت الأبحاث أن نسبة الاحتفاظ بالمعلومات الدراسية قد تصل إلى 25-60% بالمتوسط في التعليم الافتراضي مقارنة بـ 8-10% فقط لصالح التعليم الصفي، وقد يكون هذا الأمر مؤشراً جيداً على فعالية التعليم عن بعد بعيداً عن وحدة المكان بين طلاب العلم.

ومع هذا، فإن التحديات التي تعرقل مسيرة التعليم عن بعد كثيرة بعضها يرجع إلى خصوصية هذا النموذج والبعض الآخر يقع على عاتق الأساتذة والطلاب، ومن هذه التحديات:

الاستثمار المستمر والمواكب في البنية التحتية في تقنيات تكنولوجيا المعلومات

لقد أشار الأستاذ الدكتور غالب عوض الرفاعي، رئيس “جامعة العين” (AAU) بدولة الإمارات العربية المتحدة في مقاله المنشور في “هارفارد بزنس ريفيو” العربية بعنوان “وداعاً لنظام التعليم التقليدي وأهلاً بعصر التعليم الجديد” إلى أن الاستثمار الجوهري في البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات في الجامعات هو حجر الزاوية لتطبيق منظومة متكاملة للتعليم عن بعد، وهذا يعني الاستثمار الأمثل لبرمجيات التعليم عن بعد مثل: مايكروسوفت تيمز، ومودل، وغيرها الكثير من المنصات التي تقدم العديد من الدورات التدريبية في أنظمة التعليم عن بعد للمدرسين والطلبة والإداريين أيضاً، كما يجب إنشاء بروتوكولات الاتصال بين الطلاب وأعضاء هيئة التدريس والموظفين داخل الجامعة، ويجب على الجامعات التأكد ما إذا كانت البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات قادرة على إبقاء الجميع على تواصل دون أي انقطاع، وهنا يجب التنويه الى ضرورة المراجعة المستمرة والدورية لسعة خادم المعلومات المتوفر داخل الجامعة (Data Server) والتحول إلى الحوسبة السحابية (Cloud Computing).

جاهزية أعضاء الهيئة الأكاديمية لإدارة منظومة التعليم عن بعد

يكمن التحدي الحقيقي كذلك أمام مؤسسات التعليم العالي في إعادة تأهيل الهيئة الأكاديمية ضمن المؤسسة التعليمية من أجل مواكبة الحلول والتطبيقات التقنية إضافة إلى إعادة فرز الهيئة الأكاديمية لمعرفة من هو الأصلح في الفترة القادمة ومن هو القادر على إبداع أساليب تقييم غير تقليدية، فالفترة الحالية والقادمة تتطلب كوادر بشرية لها القدرة على الإبداع والتكيف والتفكير خارج الصندوق، والابتعاد عن النمطية، وكما قالت الدكتورة منيرة جمجوم، مؤسسة منصة “أعناب“: “إن العديد من المهارات المطلوبة لتكون مدرساً جيداً هي ذات المهارات التي يحتاجها عالم ريادة الأعمال”.

جاهزية الطلبة للاندماج بمنظومة التعليم عن بعد

يعتبر ضمان جاهزية الطلبة من الناحية التقنية ركناً أساسياً في إدارة منظومة التعليم عن بعد، إذ يجب على الجامعات التأكد من أن الطلبة لديهم الموارد المادية الأساسية لتطبيق منظومة التعليم عن بعد المتوافقة مع البرمجيات التي اعتمدتها الجامعة. على سبيل المثال: أجهزة الحاسب الآلي التي يستخدمها الطلبة والألواح الرقمية الخاصة بهم، كما يجب تهيئة الطلبة وتدريبهم باستمرار على استخدام برمجيات التعليم عن بعد المعتمدة من قبل المؤسسة التعليمية.

الكتب المنهجية والمصادر التعليمية

تقدم دور النشر الأجنبية العديد من المنصات الرقمية التي تدعم التعليم عن بعد عبر توفير الكتب المنهجية بشكلها الرقمي وتوفير البرمجية الرقمية التي تقدم الدعم التقني للامتحانات الرقمية، فعلى سبيل المثال، توفر مؤسسة ماكغروهيل إديوكيشن (McGraw-Hill Education) منصة “كونكت” (Connect) وتقدم مؤسسة “جون وايلي آند سنز” (John Wiley & Sons) منصة “وايلي بلس”(WileyPlus) التي توفر العديد من المناهج التعليمية والدورات التدريبية للطلبة والمدرسين. كما أن هناك العديد من دور النشر العالمية المعنية بهذا المجال، مثل “بيرسون للتعليم العالي” (Pearson Higher Education) و”سينجاج ليرنينج” (Cengage).

لقد وفرت دور النشر الحلول الذكية للتخصصات التي تدرّس باللغة الإنجليزية بطبيعة الحال، ولكن يبقى السؤال عن التخصصات التي تدرس باللغة العربية، حيث لم تقدم دور النشر العربية مثل هذه الحلول الرقمية للطالب الجامعي الذي يدرس باللغة العربية، وهنا ينبغي على جامعاتنا العربية مد جسور التعاون مع دور نشر الكتب المنهجية العربية لتوفير هذه الحلول الرقمية للطلبة ولأعضاء الهيئة التدريسية.

أساليب التقييم للمساقات

تتجه المؤسسات التعليمية الآن إلى تبني برمجيات تعتمد الذكاء الاصطناعي لكشف الغش الأكاديمي في الامتحانات في حال عقدها عن بعد مثل برامج: (ProctorU)، و(Proctortrack)، و(Lockdown Browser) المخصصة لأتمتة أنظمة مراقبة الامتحانات، ولكن ليس هذا هو التغيير فقط الذي تتطلبه هذه المرحلة، فالتحدي الحقيقي أمام المؤسسات التعليمية الآن ليس بإعطاء الدروس والمحاضرات عن بعد فقط، بل بالقدرة على إيجاد أساليب تقييم تحاكي بيئة التعليم عن بعد، وتبني أساليب تقييم استقرائية واستنباطية تظهر شخصية الطالب وتميز قدرته على التحليل وحل المشاكل والتفكير الناقد.

كيف تغلبت بعض الجامعات على هذه التحديات؟

إن النقاط السابقة يمكن إسقاطها على تجربة “جامعة العين” في دولة الإمارات العربية المتحدة، والجدير بالذكر، أن الجامعة وقبل بداية جائحة كورونا كثفت من استثماراتها في البنية التحتية في تقنيات تكنولوجيا التعليم، بالإضافة إلى التهيئة المستمرة للمهارات التكنولوجية لأعضاء الهيئتين الأكاديمية والإدارية إضافة إلى الطلبة من خلال توظيف تكنولوجيا المعلومات في غالبية الأنشطة داخل الجامعة، والحالة الخاصة للجامعة أنها تملك مقرين داخل الدولة في مدينة أبوظبي ومدينة العين فمثلاً، كان من الضروري للجامعة استخدام برامج الاتصالات المرئية مثل “سيسكو ويبيكس” من أجل عقد الاجتماعات الثنائية للمقرّين عن بعد على كافة المستويات الأكاديمية والإدارية قبل الجائحة، واستخدمت الكليات الأكاديمية لبرمجيات التعلم الإلكتروني “مودل” لعرض المادة التدريسية وعقد الامتحانات الالكترونية لعدد من المساقات، الأمر الذي جعل أعضاء الهيئة الأكاديمية والطلبة مهيئين من ناحية المهارات التكنولوجية للعمل عن بعد قبل الحلول المفاجئ لجائحة فيروس كورونا المستجد.

كل هذه التدابير جعلت من “جامعة العين” نموذجاً يمكننا الاستشهاد به للجامعات المهيأة مسبقاً لمواجهة أي حالة طوارئ تستدعي الانتقال من التعلم المواجهي إلى بيئة التعليم عن بعد، ولم تنسَ “جامعة العين” الالتفات إلى أهمية استمرار العملية التعليمية لكافة شرائح المجتمع ولهذا أطلقت الجامعة “نظام التعلم عن بعد لأصحاب الهمم” الذين يعانون من الإعاقة السمعية. إذ كان مترجمو لغة الإشارة يرافقون الكادر التدريسي في أثناء إعطاء المحاضرات، وهذا يعني أن المحاضرات التعليمية لأصحاب الهمم ألقيت من قبل عضو هيئة التدريس برفقة مترجم الإشارة بشكل دائم، كما أن البرامج الأكاديمية المطروحة لأصحاب الهمم وهي بكالوريوس علم الاجتماع التطبيقي وبكالوريوس التربية الخاصة هي بالأصل تدرّس عبر التعليم الوجاهي ولكن الجامعة استمرت بطرح مساقات هذه البرامج على الرغم من الجائحة عن طريق التعليم الإلكتروني وتوفير مترجم الإشارة إلى جانب المحاضر الفعلي للمساق.

وبفضل هذه الجهود المتواصلة التي قامت بها الجامعة لتوظيف تكنولوجيا التعليم في خدمة التعليم الإلكتروني قبل وفي أثناء الجائحة حصدت الجامعة 5 نجوم في مقياسالتعلم الإلكترونيبحسب نظام التقييمكيو إس ستارز” (QS Stars).

من ناحية أخرى، ومن خلال منهجية دراسة الحالة قدمت الباحثة وي باو 6 نقاط استراتيجية اتبعتها “جامعة بيكنج” (Peking University) في الصين لمواجهة التحول الكامل المفاجئ للتعليم عن بعد في بداية الجائحة، وهي:

1- تجهيز خطط لضمان جاهزية التعليم في أثناء فترات الطوارئ.

2- تقسيم المادة التدريسية المقدمة عن بعد إلى وحدات مصغرة للحفاظ على تركيز الطلبة.

3- التركيز على الأداء الصوتي في أثناء التدريس.

4- العمل المستمر مع مساعدي الهيئة التدريس لتعزيز المحتوى الأكاديمي.

4- تعزيز التعلم النشط للطلبة من خلال الأنشطة اللاصفية.

5- الجمع الفعال بين التعليم عن بعد والتعلم الذاتي.

لقد فرضت منظومة التعليم عن بعد نفسها على المؤسسات التعليمية خلال الفترة الحالية لمواجهة حدث طارئ واستثنائي، وكما ذكرت في مقالي السابق المنشور في هارفارد بزنس ريفيو العربية بعنوان: “الاستجابة الرشيقة لقطاع التعليم العالي في مواجهة الأحداث غير المتوقعة” على المؤسسات التعليمية العمل على إعادة قراءة تجربتها في التعليم عن بعد لضمان استمراريتها والتوجيه الأمثل لنفقاتها التشغيلية والرأسمالية التي تركز على تطوير الكوادر البشرية داخلها والاستثمار الأمثل في تكنولوجيا المعلومات من أجل تجويد العملية التعليمية، ولا بد أن تنظر المؤسسات التعليمية لما يحدث الآن على أنه فرصة للتغيير والتطوير ولإعادة تأهيل جميع عناصر العملية التعليمية من كوادر أكاديمية وإدارية وطلبة وتطوير البنى التحتية التكنولوجية من أجل بناء منظومة تعليمية متينة متهيئة للاستجابة السريعة لأي طارئ يمنع إعطاء المحاضرات في القاعة الصفية التقليدية، ولبناء جيل يحاكي متطلبات المستقبل وتحدياته من أجل فتح فرص وآفاق جديدة لا حدود جغرافية أو مكانية لها.

ما يحدث الآن قد يكون مفصلياً في ضمان استمرارية بعض المؤسسات التعليمية، ونجاح المؤسسة التعليمية في مسيرة التعليم عن بعد سوف يعزز ثقة الطلبة -بشكل أساسي وجوهري- في هذه المؤسسات وسيؤدي بالمحصلة إلى تحقيق المؤسسة التعليمية للميزة التنافسية في قطاع التعليم العالي. لقد ألزم الوضع الراهن الجميع بإحداث تغييرات جذرية بأسلوب حياتهم، فالتغيير الجذري الآن أصبح ضرورة ملحة للعملية التعليمية بكافة أطرافها.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .