لماذا علينا تحديد خياراتنا؟

3 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

لماذا لا يحصد الناجحون من الأشخاص والمؤسسات ثمرات نجاحهم تلقائياً؟ أحد التفاسير لهذا الأمر يمكن تسميته بـ “مفارقة الوضوح”، وهو ما يمكن تلخيصه في أربع مراحل:

المرحلة الأولى: الهدف الواضح يقود إلى النجاح.

المرحلة الثانية: النجاح يمنحنا المزيد من الخيارات والفرص.

المرحلة الثالثة: تراكم الخيارات والفرص يشتت الجهود.

المرحلة الرابعة: الجهود المشتتة تقوّض الوضوح نفسه الذي كان أصلاً سبب نجاحنا.

ومن الواضح، وهنا لا أبالغ، أن النجاح قد يكون محرضاً على للفشل.

يمكننا ملاحظة هذا ضمن الشركات التي كانت مهمة في وول ستريت يوماً وانهارت لاحقاً. في كتابه “لماذا يسقط الأقوياء” (How the Mighty Fall)، تحرّى جيمس كولينز هذه الظاهرة ووجد أحد الأسباب الأساسية لهذه النجاحات وقوع الشركات “في سعي غير منضبط وراء المزيد”. وهو أمر ينطبق على الشركات والمسار المهني على حد سواء.

هنا مثال شخصي أكثر: كان إنريك سالا لسنوات عديدة أستاذاً في معهد “سكريبس لعلوم المحيطات” (Scripps Institution of Oceanography)، في لا غولا، كاليفورنيا. لكنه لم يستطع التخلص من الشعور بأن مساره المهني لم يكن إلا مساراً مزوراً عن المسار الذي يجب أن يكون فيه. لهذا، ترك الوسط الأكاديمي وتوجه للعمل في “ناشيونال جيوغرافيك”. ومع نجاحه في عمله الجديد، حصل على فرص جديدة ومشوقة في واشنطن العاصمة، حيث ولّدت لديه مرة أخرى شعوراً بأنه يقترب من المسار المهني المنشود، لكنه لم يصل حيث يريد بعد. وعليه يمكننا القول “إن نجاحه أدى إلى تشتيته”.

بعد بضع سنوات، انتقل مرة أخرى إلى مكان آخر ليصبح ما يريده فعلاً: وهو أن يكون مستكشفاً مقيماً لدى “ناشيونال جيوغرافيك” يقضي قسماً كبيراً من الوقت يغوص في المناطق الأكثر عزلة، مستخدماً ما لديه من قوى العلم والاتصال للتأثير في السياسة على نطاق عالمي (شاهد إنريك سالا يتحدث عن عمله المهم في TED). كان ثمن حصوله على فرصة أحلامه، أن يرفض الكثير من المسارات الجديدة والموازية التي صادفته في الطريق.

إذاً، ما الذي نستطيع فعله لتجنب “مفارقة الوضوح” والاستمرار في زخمنا التصاعدي؟ إليكم هنا 3 اقتراحات:

استخدم معاييراً أكثر تحديداً

تأمل فيما يحدث لخزانة الملابس إذا ما كانت الخيارات فيها كثيرة. عندما نفكر دائماً في احتمالية ارتداء الملابس الموجودة داخلها في المستقبل، فإن ذلك سيجعل خزانتنا مكدسة، أما إذا حددنا الملابس التي نريدها فعلاً، فإن ذلك سيمكّننا من تنظيم الفوضى، وسيكون لدينا المساحة الكافية لما هو أفضل، وهذا الأمر يمكن تطبيقه فيما يتعلق بخياراتنا المهنية.

عندما تكون معاييرنا صارمة، يمكننا البحث في أذهاننا عن فرص جيدة، واختيارها للعمل عليها، لكننا غالباً ما سنجد الكثير من الخيارات، وبالتالي، يتعين علينا إجراء بحث متقدم، وتوجيه ثلاثة أسئلة: “ما هي أكثر الأشياء التي أبدو متحمساً لها؟”، “ما الذي يوظف موهبتي؟”، وأيضاً “ما الذي يلبي حاجة شديدة الأهمية في العالم؟”، طبعاً لن يعود أمامك حينها الكثير من الخيارات لاستعراضها، وهذه هي الغاية من التمرين. نحن لا نبحث عن عدد وافر من الأمور الجيدة لفعلها. نحن نبحث عن أفضل ما يمكننا تقديمه.

يعتبر إنريك مثالاً نادراً نسبياً عن شخص يقوم بعمل يحبه، ويتوافق مع موهبته، ويخدم حاجة مهمة في هذا العالم، حيث يمكن القول إن هدفه الأساسي هو المساعدة في خلق ما يشبه المنتزهات الوطنية التي تحمي آخر ما تبقى من الشواطئ النقية في المحيط وهي مساهمة مهمة.

سَل عن الجوهر، ومن ثم استبعد الباقي

يتغير كل شيء عندما نمنح أنفسنا الإذن لاستبعاد ما هو غير جوهري. سيصبح في حوزتنا حالاً المفتاح للولوج إلى المستوى الثاني في حياتنا. ابدأ من: إجراء مراجعة للحياة. فجميع الأنظمة البشرية عرضة للفوضى. وتماماً كما تعيث الفوضى فساداً في مكاتبنا من غير يد لنا فيها، كذلك، تغزو الفوضى حياتنا مع تراكم أفكار جيدة من الماضي. ومعظم تلك الأفكار لم يوضع لها تاريخ انتهاء صلاحية. وحالما يتم تبنيها تعيش للأبد. اعرف أي الأفكار الماضية مهمة واسع وراءها ثم تخلص من الباقي بعيداً.

إلى جانب ذلك، استبعد نشاطاً قديماً قبل إضافة نشاط جديد. إذ تحرص هذه القاعدة البسيطة على ألا تضيف نشاطاً أقل قيمة من شيء تقوم به الآن فعلاً.

انتبه لتأثير الهِبة (Endowment effect)

كذلك تعرف باسم النفور من التصفية، وهو يشير إلى ميلنا لتعظيم قيمة الشيء بمجرد امتلاكه. أجرى كل من دانيال كانيمان وجاك نيتش وريتشارد ثالر دراسة مهمة بشكل خاص (نشرت هنا) أُعطيت فيها سلع استهلاكية (مثل أكواب القهوة) عشوائياً إلى نصف المشاركين في إحدى الدراسات، وأُعطي النصف الآخر أقلاماً لها نفس القيمة. بحسب النظرية الاقتصادية التقليدية (نظرية كوز)، فإن نصف من لديهم الأكواب ونصف من لديهم الأقلام تقريباً سوف يقايضونها. لكنهم وجدوا أن عدداً أقل من هذا بكثير قاموا بالمقايضة. لقد جعلتهم مجرد فكرة التملك أقل رغبة بالتخلي عن أغراضهم. ولتوضيح هذه الفكرة من حياتك الخاصة، فكر كيف يصبح فجأة لكتاب مهمل لسنوات على أحد الرفوف قيمة كبيرة حالما تفكر في إعطائه لأحد ما.

يصف توم ستافورد علاجاً يمكننا استخدامه لتوضيح المسار المهني: بدلاً من السؤال “كم قيمة هذا الشيء بالنسبة لي؟”، يمكننا أن نسأل “كم كنت سأدفع لقاء هذا الشيء لو لم أكن أمتلكه؟”، الأمر نفسه يندرج على الفرص المهنية. لا ينبعي أن نسأل “كم قيمة هذه الفرصة بالنسبة لي؟”، بل “لو لم تكن لدي هذه الفرص، بكم كنت سأضحي للحصول عليها؟”.

أخيراً، إذا كان النجاح محرضاً على الفشل لأنه يؤدي إلى “سعي غير منضبط وراء المزيد” فإن هناك ترياق بسيط واحد هو السعي المنضبط وراء الأقل. وليس بمجرد قول “لا” اعتباطياً، بل بإزالة ما هو غير جوهري بأسلوب متعمد واستراتيجي. وليس فقط مرة واحدة ضمن أجندة اجتماعات التخطيط، بل في شكل تخفيض وتركيز وتبسيط مستمرين. وليس فقط بالقضاء على الوقت الضائع، لكن بقول “لا” لفرص رائعة بحق. يبدو أن قلة تحلّوا بالشجاعة للعمل وفق هذا المبدأ، وهو ما يصنع الفرق بين الأشخاص والمؤسسات الناجحة ونظرائهم الناجحين جداً.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .