سافرت قبل بضع سنوات من نيويورك إلى جنيف في سويسرا لإلقاء كلمة في منتدى الاتصالات العالمي بصفتي المتحدث الرئيسي الختامي. كنت متحمساً لفرصة التحدث أمام قادة عالميين عن كيفية تحسين متحدثي اللغة الإنجليزية من غير الأصليين لطريقة تقديم أفكارهم وأنفسهم بمزيد من الوضوح والثقة. كان الوقت المخصص لي 45 دقيقة، لذلك أعددت بحثاً عالي الجودة وأمثلة ذات صلة ونصائح عملية من كتابي حول الموضوع ووفرت مساحة كبيرة لمشاركة الجمهور.

لكن افتتاح المؤتمر تأخر، وتجاوزت العروض التقديمية والجلسات السابقة لعرضي الوقت المخصص لها. عندما جاء دور عرضي التقديمي الختامي، الذي أعددت لإلقائه في 45 دقيقة وسافرت عبر المحيط الأطلسي من أجله، اضطررت إلى اختصاره في 8 دقائق فقط.

شعرت برغبة شديدة في الصراخ والمطالبة بكامل وقتي، ثم العودة إلى نيويورك على متن الرحلة التالية مباشرة.

ولكن بدلاً من ذلك، سيطرت على مشاعري وتعاطفت مع مطالب الجمهور واحتياجاتهم وقدمت عرضاً تقديمياً مفيداً مدته 8 دقائق وفّر لهم نصائح وأدوات عملية يمكنهم استخدامها على الفور.

وقد سار الأمر على نحو مذهل. أظهر المشاركون تقديرهم لقدرتي على التكيف والتركيز وروح الدعابة التي سادت العرض على الرغم من الموقف الذي مررت به، وأعربوا عن امتنانهم لأني لم أتسبب بتأخرهم عن العشاء.

في تلك اللحظة، اخترت “القيادة الخادمة” على المنفعة الذاتية.

كان روبرت غرينليف أول من صاغ مفهوم “القيادة الخادمة” (servant leadership)، الذي يشير إلى القائد الذي يفوض سلطته ويعطي الأولوية لاحتياجات الآخرين ومساعدتهم في تطوير مهاراتهم والارتقاء بأدائهم إلى أقصى قدر ممكن. يناقض هذا المفهوم نموذج القيادة التقليدية الذي يركز على سلطة الفرد الموجود في قمة الهرم الوظيفي.

قد نشعر بصفتنا خطباء يتحدثون أمام العامة أننا في قمة الهرم لأننا نقف في مكان بارز ينظر إليه الجميع، وقد نميل إلى اعتبار العرض التقديمي فرصة لإظهار معرفتنا بدلاً من تناول ما يريده الجمهور ويحتاجون إلى معرفته، لكن هذا النهج يجعل العرض التقديمي مرتبطاً بالمتحدث وليس بالجمهور. بالمقابل، يُظهر المتحدثون الذين يأخذون دور القائد الخادم وعياً بالذات ومشاركة وجدانية ونظرة استشرافية. إليك كيف يمكنك فعل الشيء نفسه.

بمَ يتميز القائد الخادم؟

الوعي الذاتي

عندما أدركت أن عليّ اختصار 80% تقريباً من عرضي التقديمي الذي عملت على إعداده شهوراً، اجتاحتني مشاعر الغضب والقلق. شعرت بالغضب لأن المتحدثين الآخرين تجاوزوا الوقت المخصص لهم، وبالقلق لأني لن أتمكن من تعديل ملاحظاتي بسرعة وفعالية كي تكون موجزة ومقنعة.

وأدركت، كشخص يُظهر عواطفه من خلال تعابير وجهه ولغة جسده، أني قد أنقل غضبي وقلقي إلى الجمهور. لا شك في أن العواطف معدية، ويجب أن يدرك القادة أن عواطفهم قد تصيب الآخرين أيضاً، بصورة إيجابية أو سلبية. بالإضافة إلى ذلك، كلما عبّر المرء عن عواطفه أكثر زاد احتمال ملاحظة الآخرين لها، وبالتالي تنتقل إليهم بسهولة أكبر.

لم أرغب بنقل مشاعر الغضب والقلق إلى جمهوري، لذلك تحتّمت عليّ إدارة عواطفي قبل اعتلاء المنصة لإلقاء عرضي التقديمي. من الشائع الشعور بالقلق (وغيره من العواطف) قبل إلقاء عرض تقديمي، ومن الضروري استخدام الوعي الذاتي بها لضمان عدم تأثيرها على الجمهور. تتمثل إحدى الاستراتيجيات لإدارة العواطف في نهج “سمِّها كي تروّضها” (name it to tame it). طور هذه الاستراتيجية في الأصل المدير المشارك والمؤسس لمركز أبحاث الوعي الذهني في جامعة كاليفورنيا في مدينة لوس أنجلوس، الدكتور دانيال سيغل، وتنطوي على ملاحظة عواطفك وتحديد شعورك بها عند ظهورها، حيث يمكن أن يساعد ذلك سريعاً على تخفيف التوتر والقلق اللذين تسببهما هذه العواطف في الدماغ والجسم.

يمكنك أن تسأل نفسك “ما وظيفة هذه العاطفة؟” وفقاً للمؤسِّسة المشاركة والمديرة المشاركة لمعهد التدريب في مستشفى ماكلين والأخصائية النفسية في كلية الطب بجامعة هارفارد، الدكتورة سوزان ديفيد، فإن لعواطفنا وظيفة، فهي تحاول لفت انتباهنا وتذكيرنا باحتياجاتنا وقيمنا التي نحملها ونقدرها. لذلك، ضع في اعتبارك الوظائف التي تخدمها عواطفك عندما تبدأ عرضاً تقديمياً. على سبيل المثال، قد تشعر بالقلق لأنك تهتم جداً بدقة المعلومات التي تقدمها ولا تريد أن تُفهم الحقائق بشكل خاطئ، أو تشعر بالقلق لأنك تقدر الانسجام وأنت على وشك أن تقول شيئاً مثيراً للخلاف.

ومثل معظم الناس، قد تشعر بالقلق عند التحدث أمام الناس في مكان عام لأنك تقدّر التميز (قد تخشى عدم تقديم عرض متميز) أو القبول (ماذا لو لم يتقبلوا أفكاري؟). استفد من رغبتك في التميز بالتمرين على طريقة إلقاء عرضك التقديمي بصوت عالٍ أمام أحد زملائك واستخدم ملاحظاته لتحسينه. إذا كنت تخشى عدم تقبّل أفكارك، فتدرب على عرضك التقديمي مع زميل يؤدي دور المتحدي لأفكارك لتتعلم كيفية التعامل مع الردود والاعتراضات، وبذلك تكتسب فهماً أعمق لمخاوف جمهورك وتكون مستعداً أكثر للتعامل معها عند مواجهتها.

مهما بلغت حدة عواطفك، فاعلم أنها توجهك نحو شيء تقدّره ويمكنك الاستفادة منه لتصبح مقدماً يعطي الأولوية لاحتياجات جمهوره.

المشاركة الوجدانية

ثمة خطأ شائع يرتكبه مقدمو العروض التقديمية، ولكنه لا يتعلق باستخدام كلمات الحشو أو تقديم عرض ممل أو عدم القدرة على الإجابة عن الأسئلة المحرجة؛

بل هو في رأيي إعطاء الأولوية لأفكارهم التي يريدون التحدث عنها بدلاً من التعاطف مع تطلعات الجمهور ومخاوفهم.

يقلب التقديم بناءً على نهج القيادة الخادمة هذا النموذج تماماً. فبدلاً من إعطاء الأولوية لجدول أعمالك، يجب أن تأخذ بعين الاعتبار جدول أعمال جمهورك قبله، وتسعى لفهم احتياجاتهم بدلاً من محاولة جعلهم يفهمون احتياجاتك. عليك إظهار حب الاستطلاع والتعاطف والاهتمام بتجربة الآخرين، حتى لو كانت مختلفة عن تجربتك.

أردت في جنيف الاستفادة من الدقائق الـ 45 التي كانت مخصصة لي، ولكني أدركت أن هذا الوقت الذي حاربت من أجله سيكون لمنفعتي الذاتية وليس لخدمة احتياجات جمهوري المتململ والجائع.

لذلك ركزت على حاجتهم إلى الحصول على المعلومات الأكثر فائدة من عرضي التقديمي بدلاً من رغبتي في سرد القصص الشيقة. أخبرتهم بأني أدرك أن عرضي التقديمي هو الشيء الوحيد الذي يؤخرهم عن العشاء وأني لا أرغب في جعلهم ينتظرون أكثر. وقلت لهم إني أعلم أنهم كانوا يجلسون هنا منذ ساعات، ودعوتهم للوقوف والمشي والتمدد وحتى القيام بأي شيء يحتاجون إليه في أثناء حديثي.

إليك تمريناً يساعدك في تطوير المشاركة الوجدانية التي تحتاج إلى إظهارها من خلال منظور القيادة الخادمة: تخيل سريراً، أي سرير؛ دع هذا السرير يلهمك طرح أسئلة حول جمهورك تتوافق مع مبادئ القيادة الخادمة.

  • ما الذي يجعلهم ينهضون من السرير صباحاً؟ بعبارة أخرى، ما الذي يثير حماسهم ويحفزهم؟ هل هو النمو؟ فرصة للقيام بشيء يمكن أن يعود بالفائدة؟ التعاون لتحقيق هدف مشترك؟ أم السعي وراء الابتكار؟ هذا أول دليل يجب إعطاؤه الأولوية في عرضك التقديمي. إذا كان العرض التقديمي موجهاً لجمهور داخلي، فمن المرجح أنك على دراية بأهدافهم ودوافعهم لأنهم شاركوها سابقاً في اجتماعات أو محادثات أو رسائل بريد إلكتروني. بالنسبة للجمهور الخارجي، يمكنك سؤال منظّم الاجتماع أو التواصل مع بعض المشاركين وسؤالهم عبر البريد الإلكتروني أو مكالمة هاتفية سريعة لمعرفة المزيد عن اهتمامات الجمهور ودوافعهم.
  • ما الذي يبقيهم مستيقظين ليلاً؟ ما هو الشيء الذي يقلقهم؟ نفاد الوقت؟ كسب المال؟ جودة أدائهم؟ عدد الموظفين؟ مدى ظهور الشركة؟ القدرة على البقاء أو الحفاظ على الاستقرار المالي؟ سمعة الشركة؟ أياً كانت مخاوفهم، فهذا هو الدليل الثاني الذي يجب أن تعطيه الأولوية في عرضك التقديمي. استخدم الاستراتيجيات نفسها الموضحة أعلاه لتجد إجابات لهذا السؤال أيضاً.

بعد معرفة اهتمامات جمهورك ومستوى فهمهم، صمم عرضاً تقديمياً يعالج هذه الموضوعات بالدرجة الأولى، وبذلك ستجذب انتباه جمهورك وتكسب دعمهم لأنك أثبتَّ تعاطفك معهم بدلاً من التركيز على اهتماماتك الشخصية.

النظرة الاستشرافية

يستفيد القائد الخادم من خبرته وحدسه لاستخلاص الدروس من التجارب السابقة وفهم الواقع الحالي والتنبؤ بالعواقب المستقبلية لقراراته بصورة معقولة.

يجب أن يتمتع مقدمو العروض المتميزون بهذه القدرة أيضاً.

بناءً على تجربتي كمتحدث ومدرب خطابة محترف على مدى 3 عقود، أدرك من تجاربي السابقة أن محاولة جذب انتباه الجمهور واهتمامه والحفاظ على المشاعر الإيجابية تجاه المتحدث وقتاً أطول من المتوقع هي معركة خاسرة. وأدرك ذلك أيضاً من خلال تجربتي عندما كنت بين الجمهور؛ كنت أشعر بالتوتر والإحباط دائماً عندما يطلب المقدم مني الانتباه بعد انتهاء الوقت المخصص للعرض التقديمي.

في ذلك اليوم، تجاوز العديد من المتحدثين الذين سبقوني الوقت المخصص لهم، وعندما حان دوري، وبعد يوم مرهق طويل مليء بالعروض، لم يكن قد تبقّى على موعد العشاء سوى 8 دقائق، وبالإضافة إلى ذلك، كان لديّ محتوى أحتاج إلى 45 دقيقة لتقديمه، ولكن لم يكن لدي وقت كافٍ للقيام بذلك بشكل فعال. مع أخذ هذا الواقع بعين الاعتبار، توقعت بصورة معقولة أنني إذا قررت أن أستغرق وقتاً أطول من الوقت المتبقي، فسيفقد الجمهور الاهتمام، وإذا حاولت تقديم العرض بسرعة، فسيشعر الجمهور بالارتباك والإرهاق، وسأفقد بالتالي مصداقيتي كمتحدث محترف. لذلك اتخذت قراراً بالتركيز على تقديم المحتوى الأهم الذي يحتاج الجمهور إلى معرفته وإعادة المؤتمر إلى المسار الصحيح.

لم يكن ذلك الخيار الذي أفضّله، لكنني أدركت بناءً على نظرتي الاستشرافية وتجاربي السابقة أن ذلك ما يجب أن أفعله لخدمة الناس.

فكّر بجمهورك

عندما تفكر بتقديم عرض لجمهورك، اطرح على نفسك مسبقاً هذه الأسئلة:

ما الذي أعرفه عن مستوى فهمهم للموضوع؟

(وإذا كنت لا تعرف، فاسأل أحداً ما يعرف ذلك). إذا كان مستوى فهم جمهورك للموضوع الذي ستتحدث به محدوداً، فحاول تضمين بعض المعلومات التثقيفية التي يمكن أن تؤسس لفهم الموضوع في بداية العرض التقديمي. واحرص على تقليل اللغة الاصطلاحية والمصطلحات الفنية والاختصارات التي قد تربك المستمعين. (تذكّر أن الأمر لا يتعلق بعرض ما تفهمه، بل بالتأكد من فهمهم لما تعرضه). إذا كانوا بالفعل على دراية وخبرة بالموضوع الذي تطرحه، يمكنك تخطي الأساسيات والبدء بمستوى فهمهم.

ولكن كيف يمكنك التعامل مع جمهور به مستويات مختلفة من المعرفة؟ قد يكون تقديم عرض تقديمي لجمهور متباين المعرفة مربكاً، لذلك ركز على جمهورك الأساسي وصمم عرضك التقديمي كي يلائمهم، ومع ذلك، ينبغي أن يكون عرضك التقديمي شاملاً. حاول إبلاغ جمهورك بذلك بالقول لهم بوضوح “أتفهم أن بعضكم جديد في هذا المجال، وبعضكم يعمل فيه منذ سنوات، ولدى بعضكم خبرة به قد تمتد إلى عقود، لذلك سأبدأ بتعريف بعض المصطلحات الأساسية ومن ثم سندخل في التفاصيل التي تفهمونها. أرجو من الخبراء منكم إثراء المحاثة اليوم بخبرتهم ووجهات نظرهم القيّمة” (أقول ذلك دائماً إذا كنت أتحدث إلى مجموعة من الخبراء في مجالي، وهم يقدّرون الاعتراف بهم وإشراكهم).

كيف يمكنني معرفة ما يريد الجمهور مني فهمه حول واقعهم الآن؟

كيف يمكنني إظهار أني أدرك أنهم يأتون من خلفيات متنوعة؟ (يكتسب هذا الأمر أهمية خاصة إذا كنت في موقع سلطة و/أو كان واقعك مختلفاً عن واقعهم). في هذه الحالة، يجب عليك إظهار تعاطفك مع مواقفهم ومشاعرهم وفهمك لها قبل أن تحاول تثقيفهم أو إقناعهم بموقفك، ويمكنك تحقيق ذلك من خلال القول مثلاً “إن لم أكن مخطئاً، فأنتم تشعرون بالقلق إزاء التغييرات الأخيرة في الشركة، وتشعرون بالإحباط لأن المعلومات التي تهمكم تستغرق وقتاً طويلاً كي تصل إليكم ولا تعلمون ما هي الخطوة التالية. هل أنا مخطئ؟ هل فاتني شيء لم أذكره؟”.

ثم توقف عن الكلام وابدأ الاستماع. نعم، حتى لو كنت مقدم العرض، لا يزال بمقدورك، بل يجب عليك في كثير من الأحيان، الانخراط في نقاش مع جمهورك بدلاً من أن يكون عرضك التقديمي محادثة من طرف واحد.

ماذا تتوقع إن لم تأخذ هذه النقاط بعين الاعتبار؟ إذا ما قدمت عرضك التقديمي دون مراعاة واقع مستمعيك، فستجعلهم يشعرون بأنك لم تفهمهم، وبعدم الاحترام والانفصال وحتى الغضب. بناءً على تجربتي، فإن هذا النهج غير فعال ولا يساعد على نجاح العرض التقديمي.

كيف يمكنك منحهم فرصة لمواصلة الحديث معك بعد العرض التقديمي؟

عادة ما يكون لدى المستمعين أسئلة أو صعوبات أو أفكار يرغبون في طرحها، ولكن قد لا يتوفر لك الوقت لمعالجتها كلها خلال الوقت المخصص للعرض التقديمي. يمكنك تبديد خشيتهم من عدم إبداء آرائهم في أثناء العرض التقديمي بالقول لهم مثلاً: “أعلم أنه قد يكون لدى العديد منكم معلومات أو أسئلة يودون مشاركتها، وأود لو أن وقت العرض التقديمي أطول في الواقع”، ثم أخبرهم كيف يمكنهم متابعة الحديث معك، ربما من خلال البقاء بعد العرض للحديث قليلاً، أو عبر مشاركة عنوان بريدك الإلكتروني أو التواصل معك عبر لينكد إن.

كي تصبح خطيباً عاماً استثنائياً، لا يكفي أن تكون بارعاً في استخدام تقنيات التواصل البصري ولغة الجسد وإعداد مقدمة جذابة تشد انتباه مستمعيك، بل من أجل إلقاء خطاب فعال يجب فهم ما يريده جمهورك ويحتاجون إلى سماعه حتى يتمكنوا من اتخاذ قرارات مستنيرة واتخاذ الإجراءات، بالإضافة إلى الشعور بالمشاركة الوجدانية والمسؤولية حول الموضوع المطروح.