ثمة الكثير من الشخصيات التصادمية في مكان العمل، وبعضها يثير غضبنا إلى درجة لا تطاق. في أفضل الحالات، يمكننا التواصل بأدب مع من تزعجنا تصرفاتهم المسيئة ومساعدتهم في فهم تأثير أفعالهم غير المتعمدة غالباً فينا. وبالمقابل، نأمل بالتأكيد أن يبادر الآخرون بالشيء نفسه تجاهنا ومنحنا الفرصة لتغيير سلوكياتنا المزعجة التي قد لا نكون على دراية بها.

ولكن ثمة مواقف من غير المرجح مطلقاً أن يتغير فيها السلوك المزعج أو العدواني الذي يبديه شخص ما. ربما كان شخصاً كثير الكلام أو مغروراً، أو ربما يبالغ في رد فعله. وثمة أشخاص يلقون دعابات لا يجدها الآخرون مضحكة، ومع ذلك يتظاهرون بالضحك عليها، وهناك من يقاطعك دائماً، وزميل العمل الذي يأتي متأخراً دائماً عن كل اجتماعات الفريق، ومن يحاول جذب الانتباه وتوجيه الحديث، أو ذلك الشخص الذي يبقى متجهماً بصورة عدوانية غير مفهومة، وحتى الشخص المزاجي الذي يصطدم بالآخرين باستمرار. قد لا تكون هذه السلوكيات خطيرة بما يكفي لإبلاغ قسم الموارد البشرية بها، ولكنها كفيلة بإزعاجنا. ربما تلقّى ملاحظات حول سلوكه، ومن المحتمل أنه قد غيّره لبعض الوقت، لكنه دائماً ما يعود إلى سلوكه السابق. لقد عبّرت عن تذمرك من هذا الشخص في مناسبات مختلفة مرات لا تُحصى، ومن المرجح أنك اتفقت مع زملائك دون علمه لابتكار طرق لعزله وتجنب سلوكه البغيض. وأحياناً، قد يطفح الكيل وتتمنى سراً لو أنه يستقيل أو يُطرد من العمل (وربما تمنيت أن تحدث أشياء أسوأ من ذلك له).

ولكن لا يتغير شيء في نهاية المطاف، وخاصة الدرجة المفرطة التي يستهلك بها سلوكهم المحبط انتباهك.

أجريت محادثة مؤخراً مع سمير، وهو قائد في الفريق التنفيذي لأحد عملائي السابقين، حيث طلب خلالها التحدث عن زميله أحمد الذي كان يتمتع ببعض الصفات المحببة، ولكن كان لديه بالتأكيد بعض السلوكيات المحبطة. يقول سمير إن أحمد يقدم إجابات شاملة طويلة تستغرق أكثر من 10 دقائق عند الرد على سؤال بسيط مثلاً، وعندما يُطلب منه عرض وجهة نظره حول قضية تتعلق بمجال خبرته، يحضّر عرضاً تقديمياً مطولاً جداً لشرحها. يعبّر سمير عن إحباطه قائلاً:

“ربما كان يحاول أن يبدو ذكياً، أو كان يشعر بالخوف من أن يبدو غبياً ويخشى من أن يعرف الآخرون أكثر منه، أو ربما كان مهووساً بالسيطرة ببساطة. بغضّ النظر عن السبب، فقد أرهق سلوكه الفريق كله، لقد طلبنا منه أن يكون أكثر إيجازاً، حتى إن المدير طلب منه التدرب على “تقديم إحاطات تنفيذية”، وحاولت تجنب التعامل معه والتواصل مع أعضاء فريقه بشأن ما أحتاج إليه، لكن ذلك لم يدفعه إلا إلى المزيد من الإدارة الدقيقة والتفصيلية للفريق. كيف أتعامل مع هذا الرجل؟”.

لقد عرفتُ سميراً رجلاً ذكياً ملتزماً بمبادئه ومستقراً عاطفياً، وكانت رؤيته غاضباً على هذا النحو موقفاً غريباً حقاً. لذلك طرحت عليه مجموعة من الأسئلة للتحقق من وجود عامل آخر يجعل سلوك أحمد مثيراً للغضب أكثر من المضايقات الروتينية الأخرى في مكان العمل والخارجة عن إرادته: “فهمت أن غضبك ناجم عن عدة عوامل محبطة، ولكن هل يمكنك أن تحدد العامل الذي يزعجك أكثر من غيره في سلوك أحمد؟” أردت معرفة إذا ما كان سلوك أحمد ينتهك أياً من قيم سمير الأساسية بطريقة أو بأخرى. على سبيل المثال، ربما كان سلوك أحمد يستهلك الكثير من الوقت ويؤخر حصول سمير على ما يريده، ما ينتهك قيمة سمير الأساسية المتمثلة في الالتزام بالمواعيد والكفاءة. توقف سمير قليلاً، ثم قال: “لقد طُلب منه تغيير سلوكه وتعهّد بذلك فعلاً، ولكنه لم يفِ بوعده”. إذاً شعر سمير أن قيمة الوفاء بالتزاماته التي حافظ عليها طويلاً قد انتُهكت.

بعد إجراء المزيد من التحقيق، سألت سميراً: “لو كنت مكان أحمد، ماذا تتوقع أنه يريد من الفريق؟” كان رد سمير الفوري دفاعياً، واعتبر أن أحمد كان يتعمد إثارة سخط الفريق، وبالتالي فإنه لا يستحق أي محاولة لتفهّم موقفه.

ضغطت عليه أكثر قليلاً وقلت له: “لست مهتماً بما يفعله أحمد أو ما يستحقه، ولكن يبدو لي أن استياءك من أحمد نفسه أكبر بكثير من استيائك من سلوكه. ماذا لو سامحته؟”.

فوجئ سمير وحدّق بي بنظرة ملؤها الحيرة والفضول، سأل بحذر: “لماذا أسامحه؟”.

في الواقع، لم أستغرب رد سمير المرتبك، فالعفو ليس أداة في متناول اليد يمكن للناس استخدامها بسهولة في علاقاتهم الشخصية، ولكن إذا زاد استياؤنا ومرارتنا من سلوك شخص ما إلى حد كبير، فربما ينبغي لنا أن نعفو. وفقاً لإحدى الدراسات، يعاني 78% من الناس على مستوى العالم من استياء دائم من نوع ما، في حين يحمل البالغ في نفسه 7 ضغائن في المتوسط.

ولكن لماذا نميل إلى تخزين الاستياء؟ هل توقعاتنا من الآخرين غير واقعية لدرجة تتطلب منا أن نغضب منهم لوقت طويل جداً؟ لم يكن مفاجئاً أن تقول دراسة أخرى أن على 62% من الناس أن يكونوا أكثر تسامحاً.

العفو مفهوم معقد وغالباً ما يُساء فهمه. لقد ناقش العلماء والفلاسفة لعدة قرون ماهيته، ووقته المناسب، وسبب فائدته لنا. العفو عن شخص يعتذر ويبدي ندماً صادقاً هو شيء، لكن العفو عن شخص لا يعبّر عن أسفه ومن غير المرجح أن يغير سلوكه شيء مختلف تماماً.

ومع ذلك، قد يكون العفو في هذا الموقف مهماً جداً،

لأنه عندما تتمسك بمشاعر الاستياء والحقد والمشاعر السلبية الأخرى، فإنها تضرك أنت فقط، بينما الشخص الذي تحمل تجاهه هذه المشاعر لا يعاني (ومن المحتمل أن يكون غافلاً عنها تماماً)، الشخص الوحيد الذي سيعاني هو أنت. ويتوفر الكثير من الأدلة على أن العواطف المرتبطة بعدم التسامح -الانتقام والاحتقار والعداء والغضب- تؤثر بشدة على صحتنا العقلية والجسدية، والأسوأ من ذلك أنها قد تفسد سلوكنا وتضعف علاقاتنا المهمة مع الآخرين.

إذا كنت بحاجة إلى تعزيز قدرتك على المسامحة، فإليك بعض الخطوات التي يمكنك اتخاذها للبدء.

إساءة فهم مبدأ العفو يؤدي إلى صعوبة منحه أكثر

لنبدأ بتوضيح بعض المفاهيم الخاطئة التي تجعل العفو مربكاً ومعقداً:

العفو لا يعني استعادة الثقة

لا يعني منح العفو أنه يجب عليك الوثوق تلقائياً بشخص ما مرة أخرى بعد إساءته إليك؛ فعندما تتضرر الثقة تستغرق إعادة بنائها بعض الوقت. لقد أضرّ المثل الشائع “سامح وانسَ” بقدرتنا على العفو بصدق لأن العفو لا يمحو الماضي أو ذكرى الألم الذي تسبب به شخص ما لنا.

العفو في أحد تعريفاته هو “التنازل عن حقك في الانتقام”؛ أي أن تتخلى ببساطة عن حقك في معاقبة شخص ما عندما تغضب. يجب أن يسهّل العفو الشفاء من ذكرى الأذى، ولكن ليس بالضرورة نسيانه كلياً، ما يمنحك الحرية لتحديد درجة الثقة التي تريد استعادتها.

الغفران لا يعني التنازل عن العدالة

لقد سأل سمير مستدركاً: “إذاً سيفلت أحمد من عواقب سلوكه؟”. كانت فكرة العفو تمثل انتهاكاً لقيمة سمير المتمثلة في الإنصاف وتحمل المسؤولية، وكان الافتراض الكامن وراء سؤاله هو أن أحمد لن يتحمل المسؤولية عن نتائج سلوكه.

أجبته: “يجب أن يتحمل أحمد المسؤولية عن سلوكه، وأعتقد أنه ليس عليك حمل عبء دور القاضي لتحقيق العدالة ومحاسبة أحمد. وإلى أن يفهم أحمد عواقب سلوكه ويتحمل نتائجها، ضع في اعتبارك أن حدسك حول ما يدفع أحمد لهذا السلوك -الشعور العميق بالشك في النفس أو الخوف أو القلق الشديد- قد يكون في الواقع بمثابة عقاب مؤقت له”.

العفو لا يعني التغاضي عن السلوك السيئ

يخشى الكثيرون من أن العفو عن شخص ما قد يشير دون قصد إلى أن سلوكه مقبول وقد يشجعه على تكراره.

العفو لا يعني قبول السلوك السيئ، وهو ليس سوى قبول لأشياء خارجة عن إرادتك. في حين أن العفو لا يمكن أن يغير ما حدث في الماضي، فإن السيطرة على المشاعر السلبية بدلاً من السماح لها بالسيطرة عليك يمكن أن تغير ما ينتظرك في المستقبل.

يمكن لهذه المفاهيم الخاطئة عن العفو أن تخلق مقاومة طبيعية لممارستها. فيما يلي بعض الحجج الشائعة التي سمعتها ممن يواجهون صعوبة في العفو عن الآخرين:

“لا أحب أن يستغلني أحد”

يخشى البعض من أن العفو عن شخص بدرت منه معاملة سيئة لن يؤدي إلا إلى تشجيعه على مواصلة سلوكه العدائي، وحتى لو لم يغير سلوكه فلا بأس بتضييق نطاق تفاعلك معه والحد منه. وسواء كان سلوكه مدفوعاً بالحقد أو الجهل فهذا لا يعني أن تتحمل إساءته من دون رد؛ صحيح أنه لا يمكنك إجباره على تغيير سلوكه، ولكن يمكنك أن توضح له ما تقبله وما لا تقبله.

“الشعور بالغضب جيد”

صحيح، تمنحنا الزيادة المؤقتة في الرضا عن أنفسنا عند الامتناع عن العفو شعوراً بالأمان والتفوق وأننا على حق، لكن هذا الشعور لا يدوم طويلاً. بمرور الوقت، يصبح اجترار الأفكار الناجم عن المشاعر السلبية مستنزفاً.

“هذا خطؤك”

ربما يكون أصعب جانب من جوانب العفو هو ضرورة الاعتراف بدورنا المحتمل في المشكلة. بلا شك، ثمة سلوكيات مزعجة مزمنة غير مبررة، لكن من النادر ألا نحمل جزءاً من المسؤولية عنها.

سألتُ سميراً: “هل تعتقد أن الطُرق التي تفاعلت بها أنت والفريق مع أحمد قد عززت سلوكه؟ ربما كلما زاد شعوره بالعزلة، حاول جاهداً إثبات قيمته لكسب احترامك من خلال فعل الشيء الوحيد الذي يجيد القيام به؟” لم يكن هدفي تبرير سلوك أحمد، بل اقتراح تفسير محتمل له.

عملية العفو

بعد شرح المفاهيم الخاطئة حول العفو، إليك بعض الخطوات التي يمكنك اتخاذها لمسامحة شخص من المحتمل ألا يطلب العفو أبداً:

حدد مبادئ العفو التي تؤمن بها

قد يبدو ذلك بسيطاً، لكن معظمنا لا يفعل ذلك بشكل صريح. دوّن ما تؤمن به عن العفو. هل ثمة شروط تعتقد أنه يجب تلبيتها لمنح العفو؟ ما هي؟ كم مرة يمكنك أن تعفو؟ على سبيل المثال، 3 مرات فقط وبعدها لن تعفو أبداً؟ هل يستحق بعض الناس العفو أكثر من غيرهم؟ ما هي الأفعال التي تعتقد أنها لا تغتفر؟

فكّر في التجارب التي عُفي عنك فيها، ما هي المواقف التي سامحك فيها الآخرون وشعرت أنك لا تستحق ذلك؟ ثم قارن تجربتك بتلقي العفو بمبادئك الشخصية حوله، واسأل نفسك: “هل هذه هي الطريقة التي أريد أن يعفو بها الآخرون عني؟”.

افصل العواطف عن الاختيارات

اكتب كل المشاعر التي شعرت بها تجاه الشخص الذي تغضب منه، مثل الاستياء والانتقام والخوف وما إلى ذلك. من المهم أن تفحص نطاق عواطفك وتتقبّل هذه المشاعر على أنها طبيعية، خاصة إذا كان سلوك الشخص ينتهك إحدى قيمك الأساسية.

بعد ذلك، فكر في تأثير هذه العواطف على سلوكك. هل شكوت سلوك ذلك الشخص إلى زملائك؟ هل تجاهلته؟ هل قمت بمحاولات خفية للرد بالطريقة نفسها التي أساء بها إليك؟ اسأل نفسك؛ هل تتفق هذه الإجراءات مع قيمك، وهل كنت لتتغاضى عنها إذا صدرت من أصدقائك أو أطفالك؟ من المهم التحقق من صحة عواطفك، ولكن أيضاً الاعتراف صدقاً بالخيارات المحتملة التي قد تتخذها وتؤدي إلى نتائج عكسية بناءً على تلك المشاعر.

فكر في الموقف بأكمله

فكر ملياً وتحقق من أنك قيّمت الصورة الكاملة للموقف. هل ثمة عوامل تجاهلتها، خاصة دورك المحتمل في المشكلة؟ هل شوّهت سمعة الشخص الآخر باستخدام أوصاف قاسية؟ هل سلوكه يثير آلاماً من الماضي؟

من المهم التفكير بذهنية جديدة حول الموقف والشخص الآخر. توقف عن استخدام صفات سلبية لوصف الموقف أو الشخص المسيء وفكر بصدق في أفعالك التي تديم الموقف. في حالة سمير مثلاً، اعترف أن أحكامه وأفعاله القاسية تجاه أحمد لم تكن متسقة مع قيمه وربما جعلت الأمور أسوأ.

اعفُ وعدّل موقفك

اختر بوعي التخلي عن المشاعر السلبية تجاه هذا الشخص. قد تجد أنه من المفيد تدوين مذكرة أو حتى كتابة ملاحظة لا تنوي إرسالها له. وبالقدر نفسه من الأهمية، سامح نفسك على دورك في الموقف وعلى توقعاتك التي قد لا يستطيع الشخص الآخر تلبيتها. اكتب بعض الصفات الإيجابية التي تجاهلتها عنه. بعد ذلك، ابذل جهداً لتغيير موقفك تجاهه باختيار أن تتعامل معه بلباقة وتقبّل ولطف أكبر. وأخيراً، اعترف بأن هذا التغيير في الموقف أكثر انسجاماً مع قيمك الشخصية.

فاجأني سمير وفاجأ أقرانه عندما تحدث إلى أحمد على انفراد واعتذر عن نفاد صبره تجاهه وتجاوزه. ولدهشة سمير، رد أحمد بلطف على اعتذاره كما أخبرني. قال سمير: “لقد فوجئتُ أكثر من الجميع، ذُهلت بروعة شعوري بعد ذاك الموقف”.

. . .

لقد عرّف الدكتور مارك غولستون العفو بكلمات مؤثرة ووصفه بأنه “قبول الاعتذار الذي لن تتلقاه أبداً”. يمكن أن يكون العفو مهمة صعبة بالنسبة لنا كبشر، لأنه يتعارض مع ما علّمنا إياه العالم عن معنى أن نكون أقوياء وعدم السماح للمسيئين بالفوز، والدفاع عن أنفسنا. لكن يجب ألا يتعارض العفو مع أي من هذه المعتقدات، إذ يمكننا الدفاع عن أنفسنا والعفو عن الآخرين في آن معاً.

تم تغيير الأسماء.