قصة ابتكار هارفارد بزنس ريفيو وتحولها لمنبر لأحدث ممارسات الإدارة

12 دقيقة
قصة هارفارد بزنس ريفيو
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: انطلقت هارفارد بزنس ريفيو في عام 1922 بناءً على رغبة عميد كلية هارفارد للأعمال في تزويد المدراء تحت التدريب بأدوات أفضل لإدارة الأعمال. طُبع من العدد الأول للمجلة 6 آلاف نسخة فقط، وكان رسم الاشتراك الأول فيها 5 دولارات وشكّل نقطة الخلاف الأولى بين عميد الكلية والناشر الخارجي. لم تحقق المجلة أرباحاً تُذكر على مدى الأعوام الخمسة والعشرين التالية، ولكن في الفترة بين تأسيسها والحرب العالمية الثانية اكتسب أساتذة كلية هارفارد للأعمال كفاءة عالية في تحويل الأبحاث الدقيقة والمتعمقة إلى مؤلفات مهمة ذات فائدة كبيرة لمدراء المؤسسات. وبعد انتهاء الحرب شهد العالم طفرة في قطاع الأعمال تمكنت هارفارد بزنس ريفيو من استثمارها، فارتفع عدد النسخ الموزعة من 14 ألف نسخة في عام 1945 إلى 243 ألفاً في عام 1985.

تعمل جوليا كيربي، التي تشغل منصب محرر مستقل في هارفارد بزنس ريفيو، على تتبع تاريخ المجلة بدءاً من فترة العشرينيات الهادرة -التي شهد الغرب فيها نهضة اقتصادية وثقافية- في القرن الماضي وحتى يومنا هذا، تقول: “شكلت المقالات المنشورة في هارفارد بزنس ريفيو نسيجاً يزداد تشابكاً وتماسكاً عاماً بعد عام، غير أنها لم تكن مجرد طرح لمواضيع مهمة في حينها فحسب، بل قدمت أيضاً مناهج متميزة لدراستها”. شملت مواضيع هارفارد بزنس ريفيو “الإدارة العلمية” وظروف وجود المرأة ضمن القوى العاملة وقوة المستهلك وغيرها الكثير، وأسهمت هذه المناهج المتميزة في بروز علماء في الإدارة والأعمال مثل بيتر دراكر ومايكل بورتر وروبرت كابلان على صفحاتها.

تتحدث كيربي في كتاباتها أيضاً عن بعض الشخصيات المليئة بالحيوية التي تعمل وراء الكواليس في هارفارد بزنس ريفيو، وعن التقلبات التي شهدتها بين النجاح والركود، وتقول إن المجلة حين وصلت إلى التسعينيات من عمرها “كانت قد بنت خبرة ومكامن قوة متميزة، وشكّلت مفهوماً فريداً قائماً على المعارف العميقة باعتبارها المصدر الذي تنطلق منه أحدث اتجاهات الإدارة والأعمال“.

 

صدر عدد صحيفة ذي إيكونومست الأول في الألفية الجديدة في شهر يناير من عام 2000، وكان يضمّ إشادة رفيعة المستوى بهارفارد بزنس ريفيو التي وُصفت بأنها “إصدار استطاع بمفرده وضع جدول أعمال النقاش الدائر حول الإدارة”. لا بد أن هذا الوصف سيدهش عميد الكلية الذي أنشأ المجلة قبل 90 عاماً، والاس دونام (Wallace B. Donham)، الذي لم يتخيل قطّ أن مجلته التي اقتصر العدد الأول منها على طباعة 6 آلاف نسخة فقط سوف تحقق أكثر بكثير من مجرد تزويد المدراء تحت التدريب بأدوات أفضل للتجارة. ولكن كلمات صحيفة ذي إيكونومست أحسنت وصف المجلة التي اكتسبت على مدى كل هذه الأعوام التالية مكانة تخولها تعليم قادة الأعمال كيفية القيام بالعمل بشكل صحيح، بل تحديد الأشياء الصحيحة التي يجب القيام بها.

عندما أطلق دونام وزملاؤه المجلة في عام 1922 في كلية هارفارد للأعمال، كانت الأنظمة الاقتصادية في طور التعافي من آثار الحرب العظمى، وكانت سنوات العشرينيات الهادرة -التي شهد الغرب فيها نهضة اقتصادية وثقافية- في مستهلّها. ومع نمو الأعمال السريع لم يعد الطلب على معارف الكلية المتنامية محصوراً في بضع مئات من الطلاب القادرين على التسجيل فيها، فقدمت هارفارد بزنس ريفيو ما نسميه اليوم “درجة الماجستير في إدارة الأعمال للفقراء” (a poor man’s MBA)، لكن ذلك لا يعني أن مبلغ الاشتراك كان مناسباً للفقراء. يقول جيفري كروكشانك في كتابه “تجربة رفيعة” (A Delicate Experiment)، الذي أرّخ فيه لأول أربعة عقود من حياة كلية هارفارد للأعمال، إن أولى نقاط الخلاف حول مشروع العميد دونام تمثلت في سعر الاشتراك؛ كان الناشر الخارجي للمجلة، آرتش شو (Arch Shaw)، أستاذاً في الكلية وكان يفكر في نقطة سعرية تتيح لشريحة كبيرة من الناس الحصول على المجلة، إلا أن دونام أصرّ على تحديد سعر الاشتراك السنوي بخمسة دولارات، يقول كروشانك في كتابه: “كان هذا المبلغ كبيراً آنذاك، ولكنه لم يكن أكبر من سعر اشتراك المجلة الأقدم التي اقتدى بها دونام؛ المجلة الفصلية للاقتصاد (Quarterly Journal of Economics) التي يصدرها قسم علم الاقتصاد في الكلية.

استسلم شو أخيراً لرغبة دونام بعد أن وضّح له أن عدم تقدير قيمة هارفارد بزنس ريفيو سيسبب له حزناً شديداً”.

ربما كان شو محقاً؛ كان من المفترض أن تكون المجلة مصدراً للإيرادات التي ستمول نهج “الأبحاث القائمة على دراسة الحالة” حديث العهد في الكلية، ولكنها لم تحقق أرباحاً فعلية على مدى الأعوام الخمسة والعشرين التالية. بيدَ أن أساتذة الكلية اكتسبوا كفاءة عالية في تحويل الأبحاث الدقيقة والمتعمقة إلى مؤلفات مهمة ذات فائدة كبيرة للمدراء الممارسين. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية شهد العالم طفرة تجارية تمكنت هارفارد بزنس ريفيو من استثمارها، فارتفع عدد النسخ الموزعة من 14 ألف نسخة في عام 1945 إلى 243 ألفاً في عام 1985.

اعتبر أستاذ التسويق في كلية هارفارد للأعمال، تيد ليفيت (Ted Levitt)، أن المجلة تشكل علامة تجارية غير مستثمرة بما يكفي، وأنه يفضل إدارتها على أنها منتج استهلاكي.

تيارات الاهتمامات الإدارية

بفحص جداول محتويات هارفارد بزنس ريفيو على مدى عشرات السنين (وهي مهمة سهلة نسبياً لأن الجدول كان يظهر على الغلاف منذ عام 1940 وحتى عام 2009)، يمكننا أخذ فكرة عن الاهتمامات المتغيرة في مجال الإدارة؛ بدءاً من الدراسات الاستقصائية الأولى حول الهيكليات المتطورة في القطاعات الصناعية، مروراً بالمناقشات المتعلقة بالتنظيم المالي، وصولاً إلى الجهود الجارية فيما أطلق عليه فريدريك وينسلو تايلور “الإدارة العلمية” في الإنتاج، ثم بدأ التركيز يتجه نحو “العلاقات الإنسانية” وتحفيز العاملين، ثم إلى أهمية مركزية العميل وقوة المستهلك، وبعد ذلك إلى القيادة وتمييزها عن الإدارة.

وعلى مدى الأعوام ظهرت تيارات جديدة في الإدارة بصمت، ومنها ما استمر باكتساب الزخم؛ فقد أشار أول ذكر للمرأة في القوى العاملة عام 1935 إلى أن الشركات التي تعينهنّ “بأعداد كبيرة” قد تشكل نماذج لسياسات الأجور المسؤولة. وبحلول عام 1953، ازدادت مكانة المرأة في القوى العاملة لدرجة دفعت المجلة إلى نشر مقال متميز خاص بها بعنوان “الفرص المتاحة للنساء على المستوى الإداري” (Opportunities for Women at the Administrative Level) من تأليف فرانسيس فولر وماري باتشيلدر. وازدادت الأصوات التي تناقش القضايا الخاصة بالمرأة في العمل قوة وثباتاً حتى الثمانينيات. وكذلك الأمر بالنسبة لموضوع إدارة المؤسسات الاجتماعية الذي اكتسب اليوم شعبية كبيرة، إذ تناولته هارفارد بزنس ريفيو للمرة الأولى في مقال نُشر عام 1983 بعنوان “هل ينبغي للمؤسسات غير الربحية الدخول إلى قطاع الأعمال؟” (Should Not-for-Profits Go into Business?).

شكلت المقالات المنشورة في هارفارد بزنس ريفيو نسيجاً يزداد تشابكاً وتماسكاً عاماً بعد عام، غير أنها لم تكن مجرد طرح لمواضيع مهمة في حينها فحسب، بل قدمت أيضاً مناهج متميزة لدراستها. ولطالما كانت الإدارة نظاماً مركّباً قائماً على العلوم الاجتماعية كافة، وأدرك العميد دونام هذا جيداً عندما أشار في عام 1932 إلى أن “نوعاً جديداً من المسؤولين التنفيذيين” سوف يفهم “التركيبة الحية المعقّدة للحضارة”. لكن في النشرة التمهيدية لإصداره عام 1922، حرص دونام على التركيز على تخصص واحد فقط هو الاقتصاد، وأوضح أن “المجلة يجب أن تعمل وسيطاً يوضح العلاقة بين النظرية الاقتصادية الأساسية كما تم التوصل إليها من قبل الاقتصاديين والخبرة اليومية والمشاكل التي يواجهها المسؤولون التنفيذيون في عالم الأعمال”. وسرعان ما أصبح علماء الاجتماع وعلماء النفس جزءاً من المزيج التحريري للمجلة، ثم ازداد تنوّع هذا المزيج ليضم المؤرخين وعلماء الأنثروبولوجيا وعلماء الأعصاب والاقتصاديين السلوكيين والمنظّرين الذين يبحثون الموضوعات المعقدة مثل العميد دونام نفسه.

ويرى محررو هارفارد بزنس ريفيو، الذين يركّزون دائماً على مزيجها الفريد من المواد العلمية والإعلامية، أن وظيفتهم تتمثّل في اختيار الأسئلة العملية الأكثر إلحاحاً التي تواجه المدراء وإيجاد أفضل الإجابات القائمة على الأبحاث لتلك الأسئلة. وقد تجد في بعض الأحيان آراء مدرّسي كلية هارفارد للأعمال ضمن المجلة، ولكن بالتأكيد ليس دائماً. وعلى الرغم من الانطباع -الذي لا يزال يحتفظ به البعض- بأن هارفارد بزنس ريفيو هي “لسان” الكلية، إلا أن أساتذة كلية هارفارد للأعمال في الواقع يمثلون نسبة قليلة من الكتّاب. وقال كروكشانك إن إحصاءً في عام 1931 كشف عن أن “عدد المقالات التي كتبها أساتذة من الكلية قد بلغ 63 مقالاً حتى ذلك الحين، بينما بلغت مساهمات الكتّاب الآخرين (من خارج الكلية) 216 مقالاً”. وأفاد إدوارد بورسك من هارفارد بزنس ريفيو لاحقاً في عام 1955 بأن المقالات الحديثة ضمن المجلة تتوّزع كالآتي: 20% من كلية هارفارد للأعمال، و20% من كليات أخرى، و40% من مسؤولين تنفيذيين في مجال الأعمال، و20% من محامين ومسؤولين حكوميين وقادة شركات. وما يزال المزيج مماثلاً نوعاً ما حتى يومنا هذا، على الرغم من أن المحررين الحاليين يعملون أيضاً مع مستشارين إداريين، وهي فئة كانت نادرة في المجلة قبل 60 عاماً.

ملتقى روّاد الفكر

اتّجهت هارفارد بزنس ريفيو بمرور الوقت إلى فئة متخصصة من القراء، وأصبحت المجلة واجبة القراءة بالنسبة لروّاد الفكر الذين يسعون إلى تحفيز وجهات النظر والأفكار. أما بالنسبة للباحثين الإداريين الذين يأملون في التأثير على الممارسات (أو بحسب المصطلح الذي صاغه رئيس تحرير هارفارد بزنس ريفيو السابق، جويل كورتزمان، “قادة الفكر”)، فقد كانت المجلة هي الوجهة الأولى لعرض أفكارهم وآرائهم. وكانت هارفارد بزنس ريفيو هي أيضاً المكان الذي اختاره بيتر دراكر وبيتر بيرنستاين ووارين بينيس وتشارلز هاندي وغيرهم الكثير لنشر أعمالهم. وأصبحت بؤرة ما أسماه قائدا الفكر الإداري المتمرّسان، ستيوارت كرينر وديس ديرلوف بـ “مصنع الخبراء”.

واكتسبت المجلة سلطة ليس فقط في إرشاد قادة القطاعات الصناعية، ولكن في بعض الأحيان انتقادهم وحتى توبيخهم. ولنأخذ مثالاً على ذلك مقالة روبرت هايز وبيل أبيرناثي الصادرة عام 1980 بعنوان: إدارة طريقنا إلى الانحدار الاقتصادي (Managing Our Way to Economic Decline)، التي حمّلت قادة الشركات الأميركيين مسؤولية تراجع القدرة التنافسية للولايات المتحدة. ووصف كرينر وديرلوف المقالة قائلين: “لا تثير المقالات المنشورة في هارفارد بزنس ريفيو الاهتمام أو الجدل إلى حد ملحوظ، لكن هذه المقالة فعلت ذلك”. وبعد بضع سنوات، قال مدير التحرير في هارفارد بزنس ريفيو، ديفيد إوينغ لأحد المراسلين إن السؤال الذي تجيب عنه هارفارد بزنس ريفيو هو “ما هو التفوّق في ميدان الأعمال؟” ثم أضاف سريعاً: “أعتقد أن أهم دور للمجلة هو أن تكون ضمير الشركات الواعي، وهذا الدور يتنامى شيئاً فشيئاً”.

وكانت هارفارد بزنس ريفيو حينئذ تنمو بصفتها شركة قائمة بحد ذاتها. وعندما تولى أستاذ التسويق المشهور في كلية هارفارد للأعمال، تيد ليفيت، رئاسة التحرير في عام 1985، اعتبر أن المجلة تشكّل علامة تجارية غير مستثمرة بما يكفي، وأنه يفضّل إدارتها على أنها منتج استهلاكي. وبدأ هذا التغيير من خلال اقتراحه عمل تصميم جديد للمجلة، بل اقترح أيضاً إدخال رسومات كاريكاتورية بها، وشجّع مجموعة جديدة من المحررين على كتابة المزيد من المقالات التي قد تثير الجدل. كما رفع سعر الاشتراك إلى الضعف تقريباً، وزاد تكلفة الإعلان على الصفحة الكاملة بأكثر من 50%.

دفعة قويّة 

التقى ليفيت بعد فترة وجيزة من تولّيه المنصب زملاءه في كلية هارفارد للأعمال لشرح منظوره للتحدّي، وأشار إلى أن محتوى المجلة كان دائماً نتاج خبراء مثلهم، حيث كان المحتوى عندئذ أكاديمياً ومتخماً بالمراجع البحثية. وفي الوقت نفسه، كانت قاعدة عملاء المجلة مكوّنة من مدراء ذوي توجه عملي ووقت محدود. ولخّص نظرته لهارفارد بزنس ريفيو حينها بأنها “مجلة كتبها أشخاص لا يتقنون الكتابة ليقرأها آخرون ليس لديهم وقت للقراءة”.

وأجرى ليفيت تغييرات مثيرة في هارفارد بزنس ريفيو، وربما يكون من العدل أن نقول إنه غيّر مسارها تماماً، وذلك من خلال الدفع لتصبح مجلة فعلية بعد أن كانت معلّقة بين هذه الهوية وهوية الدورية العلمية الأكاديمية على مدار ستة عقود، مؤكداً بذلك على أن العميل هو حجر الأساس. ولكن باعتبارها مطبوعة تابعة لمؤسسة مرموقة للتعليم العالي، فإن المساهم الوحيد في هارفارد بزنس ريفيو سيكون دائماً هو عميد كلية هارفارد للأعمال، وقد ارتبطت التغييرات المثيرة التي أدخلها ليفيت بإثارة الذعر أحياناً، إذ فرضت بعض الأزمات الصغيرة التساؤل حول ما إذا كان التوفيق بين نمو هارفارد بزنس ريفيو بصفتها مجلة شهيرة وعلاقتها بكلية هارفارد للأعمال أمراً ممكناً.

كان التحدي الأول هو قرار ليفيت في عام 1989 بنشر مقال “النساء في ميدان الإدارة وملامح الواقع الجديد” (Management Women and the New Facts of Life)، حيث حذّرت الكاتبة فيليس شوارتز الشركات من تجاهل نمو الوجود النسائي في مناصبها الإدارية واعتبار ذلك يمثّل مجموعة واحدة فقط من القضايا الخاصة بالمرأة. ولاحظت شوارتز أن التوقعات والاستجابات المناسبة كانت مختلفة تماماً وفقاً لما إذا كانت المرأة أيضاً أُماً أم لا، وسرعان ما انتقد النسويون المقال لدعوته إلى “مسار عمل منفصل للأمهات” من شأنه أن يحرم النساء من “المساواة الكاملة”.

ومن غير المرجّح أن ليفيت، الذي توفي عام 2006، لم يتوقّع أن المقال سوف يشعل الجدل، بل على العكس رحّب به، وكان معروفاً عنه حبّه للجدل. ويشتكي مايكل جنسن حتى يومنا هذا من أن ليفيت قد تجاوز في مقالته الأشهر “كسوف المؤسسات العامة” (Eclipse of the Public Corporation) الأفكار التي كان يؤمن بها شخصياً وصولاً إلى الحديث عن موضوع شائك. وعلى الرغم من عدم تصريح أحد بذلك في ذلك الوقت، إلا أن تلك المقالة كانت الضربة القاضية في مسيرته التحريرية الجدلية، والتي انتهت في العام نفسه 1989.

أما الأزمة الثانية فكانت بسبب مقال ألغي نشره. وحينها كان تي جورج هاريس (T. George Harris)، أول رئيس تحرير لهارفارد بزنس ريفيو من خارج الهيئة التدريسية (على الرغم من أنه لم يتم تعريفه على هذا النحو في العناوين الرئيسية للمجلة)، وهو صانع المجلات الذي أسس مجلة سيكولوجي توداي (Psychology Today) وقادها للشهرة. وبعد فترة وجيزة من انضمامه إلى هارفارد بزنس ريفيو في أغسطس/آب عام 1992، أصدر موافقته على نشر مقال لأحد المحللين في قطاع التكنولوجيا ينتقد فيه شركة آي بي إم لخروجها عن مسارها الصحيح إلى درجة ربما تعجز فيها عن العودة. وعندما سُحب المقال قبيل طباعة العدد بقليل، انتشرت شائعات مفادها أن السبب كان مكانة شركة آي بي إم كأحد المانحين الرئيسيين للكلية وعلاقة الصداقة التي تربطهما. وهنا أعلن هاريس تحمله مسؤولية القرار، لكنه خسر منصبه بعد أربعة أشهر فقط من توليه.

استقلالية متنامية

وكان من الواضح حينها أن مثل هذه الأزمات لن تتوقف وستشكل قيوداً على مجلة شُجعت على النمو لكنها مُنعت من المخاطرة بمصالح المؤسسة الأم. وتمثّل الحل الواضح لتلك المشكلة ولو نُفذ متأخراً وبشكل مفاجئ في منح هارفارد بزنس ريفيو مزيداً من الحرية دون تقييدها. ولم يقتصر الحل على عدم عودة رئاسة التحرير إلى أيدي أعضاء الهيئة التدريسية فحسب، بل في حل المجلس الاستشاري للتحرير بأكمله. وفي عام 1994 تم الاعتراف بهارفارد بزنس ريفيو كمؤسسة تابعة لجامعة هارفارد ومملوكة لها بالكامل. وظلت أرباحها مخصصة لتمويل أبحاث كلية هارفارد للأعمال كما هي العادة. لكن المجلة حصلت على الاستقلالية المؤسسية التي تتيح لها اتخاذ مواقفها المستقلة وخوض معاركها الخاصة.

في عالم الأعمال الذي غيرت مفاهيمه الشركات التي تمارس نشاطها عبر الإنترنت، بدت هارفارد بزنس ريفيو “نشاطاً اقتصادياً عريقاً” للغاية والمجلة المفضلة للمدراء الهرمين.

في عام 1990، نشر ديفيد إوينغ كتابه “كلية هارفارد للأعمال من الداخل” (Inside the Harvard Business School). وأفرد في هذا الكتاب فصلاً موجزاً عن المجلة التي شغل سابقاً منصب مدير تحريرها، واتسم هذا الفصل الذي أسماه “حياة هارفارد بزنس ريفيو السعيدة والقصيرة” (The Short، Happy Life of HBR) بالغرابة، حيث كانت فقرته الأولى عبارة عن دراسة نقدية لاذعة، حينما قال: “لا تعبر قصة هارفارد بزنس ريفيو عن عدم الكفاءة، كما يعتقد الكثيرون” وادعى إوينغ أن ترتيب البيت الداخلي للمجلة الذي أدى إلى رحيله في عام 1986 كان “قراراً مدروساً بعناية من الإدارة لسحق مؤسسة كانت تهدد بالتفوق على الكلية”. لقد أظهرت كلية هارفارد للأعمال للعالم ما هي أولوياتها على حد وصفه: “بتدمير هارفارد بزنس ريفيو”.

وعبر قراءة غير متأنية لكلمات إوينغ قد تتبادر للذهن الجملة الشهيرة التي وصف بها الأستاذ بجامعة كولومبيا والاس ساير (Wallace Sayre) الأوساط الأكاديمية قائلاً: “تمتاز سياسات الجامعات بالصرامة لأن المكاسب ضئيلة”. في الواقع كانت المكاسب مرتفعة جداً في تلك المرحلة. وكانت هارفارد بزنس ريفيو ذات ربحية عالية، وشغل رئيس تحريرها مكانة ذات سلطة متنامية. لقد جانب إوينغ الصواب؛ وكانت الشائعات التي أطلقها عن نهاية هارفارد بزنس ريفيو مبالغ فيها إلى حد كبير. فبعد رحيله حققت المجلة المزيد من المكاسب في قدرتها على التأثير وعلى تحقيق الأرباح. تلك هي السنوات التي نشر فيها مايكل بورتر الكثير من أعماله حول الاستراتيجية التنافسية. والتي ابتكر فيها بوب كابلان (Bob Kaplan) وديف نورتون (Dave Norton) بطاقة قياس الأداء المتوازن؛ والتي أطلق فيها مايكل هامر (Michael Hammer) القوة الجبارة لإعادة هندسة الأعمال؛ والتي بلورا فيها توم دافنبورت (Tom Davenport) ولاري بروزاك (Larry Prusak) علم إدارة المعرفة. وعندما تعرض ازدهار هارفارد بزنس ريفيو للخطر، لم تكن هيمنة المؤسسة الأم هي السبب، بل كان تطور السوق.

وفي وقت كانت فيه مجلة ذي إيكونوميست تشيد بمكانة هارفارد بزنس ريفيو باعتبارها المصدر الذي تنطلق منه أحدث اتجاهات الأعمال والإدارة، حان وقت التغيير في هارفارد بزنس ريفيو. أدى التحديث الذي جرى في عام 2001 إلى تحديث التصميم من جديد وإصدار المجلة شهرياً عوضاً عن إصدارها كل شهرين بحيث تتناسب مع الطابع العام لإصدار المجلات. وعلى الرغم من ذلك واجهت هارفارد بزنس ريفيو تحدياً على مستوى أعمق، ذاك التحدي الذي لطالما واجهه العديد من المؤسسات العريقة والشركات الكبرى الذي يتمثل بالقدرة على جذب أنظار الجيل الجديد على الرغم من النجاح وربما التفوق في أنظار الجيل القديم. ففي عالم الأعمال الذي غيرت مفاهيمه الشركات التي تمارس نشاطها عبر الإنترنت، بدت هارفارد بزنس ريفيو “نشاطاً اقتصادياً عتيق الطراز” للغاية والمجلة المفضلة للمدراء الهرمين. وفي سوق عالمية تتزاحم فيها الاقتصادات الناشئة، بدت المجلة كإذاعة كلاسيكية في فضاء إلكتروني يعج بالمجلات والمنتديات والمواقع الإلكترونية الجديدة التي تتسابق لإرضاء شهية غير مسبوقة لأفكار الإدارة ونظرياتها.

هارفارد بزنس ريفيو إلى القرن الحادي والعشرين

تخلفت هارفارد بزنس ريفيو لفترة من الزمن عن ركب العديد من المجلات في نشر المحتوى الرقمي على الإنترنت، وذلك نظراً لإصرارها على نموذج الأعمال الذي جذب الكثير من الأرباح عبر الاشتراكات بنسبة أعلى من الإعلانات، وربما صرف انتباهها الاضطرابات في صفوف كبار المحررين (ليس بقرارات أخرى حول المحتوى هذه المرة). وفي أواخر عام 2004، أعلن أحد كبار المحررين أن “هارفارد بزنس ريفيو لن تقوم بنشر محتوى رقمي”، معتقداً أن مثل هذا المحتوى لن يدوم طويلاً ولا يتمتع بالحصافة المهنية ولا يناسب اسم الشركة. وعلى الرغم من ذلك كله مرت هارفارد بزنس ريفيو بتحول كبير آخر في السنوات القليلة الماضية. ففي عام 2010 أعيد تصميم المجلة مرة أخرى، وأعيد تنظيم فريق التحرير كاعتراف بالقوة المتصاعدة للإنترنت. وفي حين كان التركيز فيه صريحاً على المقالات “الخالدة”، بدأت هارفارد بزنس ريفيو في تبني المحتوى المناسب “للوقت الراهن” أيضاً، فنشرت تحليلات إخبارية عبر الإنترنت بالإضافة إلى مقالات المجلة على غرار مقال والتر إيزاكسون (Walter Isaacson) “دروس القيادة الحقيقية لستيف جوبز” (The Real Leadership Lessons of Steve Jobs). استجاب قراء هارفارد بزنس ريفيو على نحو إيجابي ووصلت مبيعات المجلة إلى مستويات قياسية، واستمرت أرباح الإعلانات في النمو.

ثمة جيل جديد من المدراء اليوم، والعديد منهم يعمل في اقتصادات ناشئة، متعطش للأفكار التي تقودهم إلى النجاح. وتواجه الشركات العالمية اليوم نقصاً في المواهب نفسه الذي واجهته الشركات الأميركية في عشرينيات القرن الماضي. ويتملك المدراء المفكرون الشغف نفسه في أن يحققوا أفضل النتائج في مجالهم المهني. هارفارد بزنس ريفيو إلى جانبهم، ما تزال تنمو، وما تزال تتطور.

تدخل المجلة اليوم في عقدها العاشر محاطة ببحر من مجلات الأعمال المنافسة، متسلحة بقيمها وأصالتها، ونقاط قوتها المميزة، وفكر مستنير يرسم المسار الصحيح لجدول أعمال الإدارة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .