عملات “ستيبل كوينز” ومستقبل المال

11 دقيقة
ستيبل كوينز ومستقبل المال
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: أصبح إخفاء الحقيقة حول موضوع عملات “ستيبل كوينز” ومستقبل المال أمراً غير ممكن، حيث من المُنتظَر أن تلعب العملات المشفرة دوراً مهماً في مستقبل النظام المالي، حتى إن نظام الاحتياطي الفيدرالي الأميركي دعا إلى وضع إطار قانوني شامل ينظّم تداول عملات “ستيبل كوينز” (Stablecoins)، ويعكف حالياً على دراسة إصدار عملة رقمية يقرها البنك المركزي. وفي حين أن الإصلاح الكامل لنظام الأموال يشكّل مسعى معقداً للغاية، فإن هناك 3 طرق قياسية، صحيحٌ أنها متباينة، ولكنها ليست متضاربة، ولها نتائج مُبشِّرة: 1) عملات “ستيبل كوينز” الحقيقية، وهي عملات خالية من الفائدة البنكية ومصممة لتكون لها قيمة ثابتة قياساً بعملة مرجعية. 2) عملات الطلب، وهي مطالبات إيداع تحت الطلب من البنوك التجارية المؤمَّنة استناداً إلى أسس تقنية “البلوك تشين”. 3) العملات الرقمية للبنوك المركزية، وهي عبارة عن نقود تستند إلى أسس التقنيات الرقمية، ويمكن أن تمثل استجابة القطاع العام لتراجع الطلب على النقد المادي.

 

أدلى رئيس هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية، غاري غينسلير، الأسبوع الماضي ببيان مزلزل عبّر فيه عن ضرورة تقنين أوضاع أسواق العملات المشفرة. ولم يكن غينسلير المسؤول الوحيد الذي يؤمن بحتمية هذا الأمر. فقد سبق لجيروم باول، رئيس نظام الاحتياطي الفيدرالي، أن وجّه دعوة عاجلة لتقنين أوضاع عملات “ستيبل كوينز”، ويُقصَد بها العملات المشفرة المرتبطة بأصل مرجعي مثل الدولار الأميركي، وأشارت محافظة الاحتياطي الفيدرالي، لايل برينارد، إلى أن نظام الاحتياطي الفيدرالي يدرس بجدية إنشاء عملة البنك المركزي الرقمية استجابةً لظهور عملات “ستيبل كوينز”.

وعادة ما توجِّه الجهات الرقابية هذا القدر من الاهتمام للقطاعات المهمة في النظام المالي، مثل البنوك وصناديق أسواق المال. وتمثّل هذه البيانات شواهد قوية تدعم الأدلة المتزايدة على أن عملات “ستيبل كوينز” قادرة على لعب دور مهم (وإن كانت ملامحه لم تتحدد بعد) في مستقبل الماليات العالمية، وذلك على عكس العملات المشفرة، مثل “بيتكوين” و”إيثيروم”، التي تشهد تقلبات عنيفة في القيمة. وقد تصبح عملات “ستيبل كوينز” العمود الفقري للمدفوعات والخدمات المالية.

وعلى سبيل التوضيح، فإن هذا يعني أن تغيرات كبيرة قد تطرأ على أنظمة البنوك المركزية والجهات الرقابية والقطاع المالي. وقد تحقق هذه التغيرات عدداً من الفوائد، ولكنها قد تجلب أيضاً بعضاً من المخاطر العنيفة للغاية.

ويرى خبراء الاقتصاد أن فوائد عملات “ستيبل كوينز” تشمل تنفيذ المدفوعات في الوقت الحقيقي بتكلفة منخفضة وبطريقة آمنة وأكثر تنافسية، مقارنة بما يشهده المستهلكون والشركات اليوم. وقد تسهم هذه التقنية في خفض تكلفة قبول الشركات للمدفوعات بسرعة وسهولة إدارة الحكومات لبرامج التحويلات النقدية المشروطة (بما في ذلك إرسال أموال الحوافز). وبمقدورها مساعدة الشرائح السكانية غير المتعاملة مع البنوك أو التي تجد صعوبة في الوصول إلى الخدمات المصرفية، من خلال ربطها بالنظام المالي. ولكن غياب الأطر القانونية والاقتصادية المُحكمَة سيؤدي حتماً إلى ظهور خطر حقيقي يهدد استقرار عملات “ستيبل كوينز”. فقد تتعرض للانهيار مثلما يحدث في مجالس النقد القائمة على أسس غير سليمة، أو تشهد “تراجع صافي قيمة الأصول” مثلما حدث لصناديق أسواق المال عام 2008، أو تدخل في دوامة انعدام القيمة. وقد تتسبب في تكرار اضطراب البنوك “الجامحة” الذي شهده العالم خلال القرن التاسع عشر.

وفي حين أن مزايا عملات “ستيبل كوينز” وعيوبها قد تكون قابلة للنقاش، فإن صعودها أمرٌ غير قابل للنقاش بالمرة. فقد شهد العالم فعلياً صدور عملات رقمية بقيمة تتجاوز 113 مليار دولار. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ما الذي يجب فعله حيالها، وما الجهة التي يجب أن تناط بهذه المسؤولية؟ تتراوح الإجابات ما بين القول بأن النظام الحالي على ما يرام، وتكثيف الأبحاث حول إنشاء عملات البنك المركزي الرقمية، وصولاً إلى التشديد على أن عملات “ستيبل كوينز” قد تكون تطوراً طبيعياً للمزيج المكوِّن للأموال العامة والخاصة التي لطالما اعتمدنا عليها لعدة قرون. وعلى الرغم من صعوبة الدفاع عن نظام يستثني 15% من البالغين في الولايات المتحدة الواقعين ضمن أدنى شريحة لتوزيع الدخل البالغة 40% من الأميركيين الذين لا يتعاملون مع البنوك، ويدفع فيه أصحاب الحسابات منخفضة الدخل، خاصة العملاء من ذوي الأصول اللاتينية، أكثر من 12 دولاراً شهرياً للوصول إلى النظام المالي، فمن الواضح أيضاً أن التكنولوجيا الجديدة يمكن أن تتسبب في وقوع مخاطر جديدة.

وبالحديث عن موضوع عملات “ستيبل كوينز” ومستقبل المال تحديداً، لا شك في أن إجراء تغييرات كبيرة على نظام الأموال أمرٌ معقد، لكن يتعين على الحكومات ألا تُقدِم على معالجة هذا كله دفعة واحدة. ومن غير المرجح أن ينجح مثل هذا النهج في واقع الأمر. فلم ينجح القطاع العام، سواءً في الولايات المتحدة أو في غيرها من دول العالم، في نشر الخدمات الرقمية. (باستثناء الصين التي نجحت فعلياً في تصفية أكثر من 5.3 مليارات دولار من المعاملات المالية من خلال الرنمينبي الرقمي). ولكن هناك أيضاً مخاطر تصاحب مشاركة القطاع الخاص في هذه الجهود، خاصة أن عملات “ستيبل كوينز” تتجاوز تداول العملات المشفرة والماليات اللامركزية. ويجب أن يراعي أي حل المسائل الماسة بحماية المستهلك والاستقرار المالي ومنع الجرائم المالية. وهذه هي المخاوف نفسها التي نواجهها دائماً في توفير المال.

فكيف يجب أن تتعامل البنوك المركزية والجهات الرقابية مع هذه المسألة إذاً؟ هناك 3 طرق بسيطة يمكننا من خلالها “تحديث” الأموال التي تلعب دوراً في قوة كل من القطاعين العام والخاص. وعلى الرغم من اختلافها، فإن هذه الطرق لا تضاد إحداها الأخرى، ويتيح كل منها فرصاً مهمة للمؤسسات المالية الحالية، فضلاً عن المنافسين الجدد من المؤسسات العاملة في مجال التكنولوجيا المالية والعملات المشفرة. وستواصل هذه الفرص تعزيز الشراكات بين المؤسسات الراسخة والمؤسسات الجديدة، ولكنها ستؤدي أيضاً إلى خلق منافسة أكثر شراسة.

تحديث الأموال

تشكّل الأموال الحديثة مزيجاً من المال العام والخاص. وتشمل الأموال العامة كلاً من النقدية الصادرة عن البنوك المركزية والمطالبات الرقمية من البنوك المركزية. وتشمل الأموال الخاصة مطالبات الإيداع من البنوك التجارية. وعلى الرغم من الحماية التي يوفرها القطاع العام لاستقرار الأموال، فإن ما يصل إلى 95% من الأموال في الاقتصادات المتقدمة عبارة عن أموال خاصة.

وتعتبر عملات “ستيبل كوينز” شكلاً من أشكال المال الخاص. ولا يعد هذا مفهوماً جديداً لأن فكرة الفصل بين الوظائف النقدية والائتمانية تعود إلى 80 عاماً مضت. ويمكن استخدام تقنية “البلوك تشين” لتوسيع دور كلٍّ من القطاعين العام والخاص في توفير الأموال من خلال خفض تكلفة التحقق الرقمي. وعلى الرغم من قدرة القطاع العام على محاولة التواصل مع المستهلكين والشركات مباشرة، فمن المرجح أن يكون القطاع الخاص أكثر كفاءة في تلبية احتياجات الجمهور وزيادة الخيارات المتاحة.

ويتطلب النجاح في هذا التحوّل ضرورة تحقيق التوازن الصحيح بين القطاعين العام والخاص. ومن المرجح أن ينتهي الأمر بالدول التي تغالي في التركيز على النهج العام إلى العجز عن مواكبة سرعة الطرح في السوق وعدم القدرة على المنافسة والابتكار. كما أنها ستعجز عن رعاية الجهات الفاعلة بمجال التكنولوجيا المالية في المستقبل. ومثلما استطاعت الدول إحراز قصب السبق باستغلالها لتكنولوجيا الإنترنت والاستفادة من هذه “الأداة التجارية القوية”، فإن طريقة التعامل مع الأسواق المالية ستحقق النتيجة ذاتها أيضاً: بمعنى أن الدول التي لا تمتلك أطراً تنظيمية مُحكمَة قد تشهد ظهور “عملات جامحة” تفتقر إلى الاستقرار وتفشل في توفير الحماية اللازمة للمستهلكين.

وباستقراء تاريخ الأموال الحديثة، يتبيّن لنا أن ثمة قيمة كبيرة في السماح بإجراء التجارب لاختيار أنسب الأساليب المتاحة. إذ تُعتبر التجارب العامة والخاصة مكملات قوية في هذا السياق، وليست مجرد بدائل. ويمكن استخدام القواعد التنظيمية المحايدة تكنولوجياً التي تتبع نهج “المخاطر ذاتها تستلزم فرض القواعد ذاتها” لرفع مستوى معايير الجودة وتشجيع المنافسة بين الحلول الآمنة.

ويقتضي التوصل إلى حلول مختلفة طرح تحديات مختلفة من حيث كيفية تسريع تفكيك المدفوعات والخدمات الائتمانية والمالية. وعلى الرغم من حتمية مثل هذا التفكيك في نهاية المطاف، فقد بدأنا نلمس بالفعل مآلات كل المنهجيات المختلفة ونتائجها. وقد كانت الصين أول دولة تصدر بياناً جريئاً حول مستقبل المدفوعات العالمية ونوعية البيانات التي ينبغي للحكومة الوصول إليها، وذلك عند نشرها الرنمينبي الرقمي. وبات الآن على الدول الأخرى، لا سيما الولايات المتحدة من واقع دورها المحوري في الحفاظ على الاحتياطي العالمي للعملات، أن تطور أطروحتها الخاصة حول الشكل الذي يجب أن يبدو عليه هذا المستقبل، والدور الذي ستلعبه فيه.

3 مسارات لسلامة الأموال

بعد أن أمضينا 3 سنوات في العمل على حل هذه المشاكل وجمع ملاحظات الجهات الرقابية، فإننا نعتقد أن هناك 3 طرق لتسخير التكنولوجيا بأمان: عملات “ستيبل كوينز” الحقيقية، وعملات الإيداع، وعملات البنك المركزي الرقمية.

عملات “ستيبل كوينز” ومستقبل المال

عملات “ستيبل كوينز” الحقيقية هي عملات خالية من الفائدة البنكية ومصممة لتكون لها قيمة ثابتة قياساً بعملة مرجعية، بقيمة 1 دولار أميركي، مثلاً. ويتحقق الاستقرار من خلال التزامين. أولاً: توافق جهة الإصدار على سك العملات وإعادة شرائها حسب السعر الأصلي. ثانياً: تحتفظ جهة الإصدار بالأصول اللازمة لدعم التزامها باسترداد عملات “ستيبل كوينز” المُصدَرة. يوفر هذا “الاحتياطي” عنصر الارتياح تجاه قدرة جهة الإصدار على إعادة شراء كل العملات المُصدَرة عند الطلب. ويجب أن تكون الأصول الاحتياطية مقوَّمة بعملة الأصل المرجعي وأن تظل عالية السيولة خلال الأزمات وتتكبد خسائر ضئيلة للغاية في ظل تقلبات السوق أو سيولتها.

وتعتبر عملات “ستيبل كوينز” الحقيقية أحد أشكال مفهوم البنوك الآمنة. إذ يجب أن تحتفظ بالاحتياطيات بنسبة 100% في صورة أصول سائلة عالية الجودة، مثل سندات الخزانة الأميركية أو النقد في نظام الاحتياطي الفيدرالي، مقابل التزاماتها المتعلقة بالعملة، بالإضافة إلى وسيلة حماية رأسمالية إضافية ضد الخسائر التشغيلية أو تراجع أسعار الأصول أو المخاطر. وعلى غرار البنوك الآمنة، يجب ألا تنخرط عملات “ستيبل كوينز” الحقيقية فيما يُعرف بتحوّل الاستحقاق، أي اقتراض الأموال على أطر زمنية أقصر من إقراضها. علاوة على ذلك، يجب عزل أصولها الاحتياطية عن أصولها الأخرى، بحيث يمكن إعطاء الأولوية لحاملي العملات على الدائنين الآخرين في حالات الإعسار المالي أو الإفلاس.

وكما هي الحال مع البنوك الآمنة، فقد تكون الفوائد الاقتصادية لعملات “ستيبل كوينز” الحقيقية ضئيلة. إذ يُعتبر الاحتفاظ بكل الاحتياطيات إجراءً باهظ التكلفة. وفي حين أن متطلبات رأسمال البنوك الائتمانية الحكومية قد تكون متوافقة مع نهج الاحتفاظ بكل الاحتياطيات، فإن البنوك الائتمانية الوطنية الخاضعة لإشراف “مكتب مراقب العملة” تواجه حالياً رافعة مالية بنسب تتراوح بين 4% إلى 5%، وبالتالي قد لا يكون هيكلها ملائماً لجهات الإصدار التي لا تنخرط في تحوّل الاستحقاق.

لكن عملات “ستيبل كوينز” الحقيقية لها ميزة كوسيلة للتبادل، حتى في ظل هذه القيود. ويمكن تحسينها لزيادة القيمة بكفاءة بدلاً من تخزين القيمة أو كسب فائدة بنكية. ويجعلها هيكل تكاليفها ذات جدوى اقتصادية عندما تكون سرعة تقلّب عملتها عالية ويمكن أن تدعم الأحجام الكبيرة من المدفوعات باحتياطي صغير. وعندما يتعلق الأمر بتخزين القيمة، فإن عملات الإيداع ستكون لها ميزة عليها لأن تكلفة رأس المال بها أقل بكثير.

عملات الإيداع

تُعرَّف عملات إيداع “ستيبل كوينز” بأنها مطالبات إيداع تحت الطلب من البنوك التجارية المؤمَّنة استناداً إلى أسس تقنية “البلوك تشين”. وتمثّل مبلغاً يحتفظ به الشخص عند إيداعه لدى بنك مؤمَّن عليه، وبالتالي فهو التزام إيداعي غير مضمون لدى هذا البنك. ويتم حماية حاملي هذه العملات بموجب الإطار القانوني الذي يحكم الودائع، بما في ذلك متطلبات رأس المال المصرفي وتأمين الوكالة الفيدرالية لضمان الودائع حتى 250,000 دولار.

وتجمع عملات الإيداع بين مزايا الوقت الحقيقي، و(ربما) المدفوعات المنخفضة التكلفة والقدرات الوظيفية الجديدة، إلى جانب الحماية التأمينية للودائع من قِبَل الوكالة الفيدرالية لضمان الودائع. ويمكن للبنك استخدام عائدات العملات المودعة في مجموعة متنوعة من الأغراض، بما في ذلك الإقراض. وبالتالي فإن عملات الإيداع تحافظ على حزمة المدفوعات وأنشطة تحوّل الاستحقاق.

وكما هي الحال مع التحسينات التي يتم إدخالها على الأنظمة الحالية، فإن عملات الإيداع تحافظ على الوضع الراهن وتحافظ على الترابط بين نظام الأموال الخاصة والمدفوعات وخدمات الصيرفة. لكنها تعاني أيضاً قيوداً مماثلة.

ففي غياب التقنيات التكنولوجية الحديثة والبنية التحتية القانونية، قد لا تكون عملات الإيداع قابلة للتشغيل البيني على النحو المرجو. إذ سيحتاج كل مالك للعملة إلى الحصول على اعتماد من جهة الإصدار البنكية، ويجب أن تكون التحويلات بين مختلف عملات الإيداع مدعومة بالسيولة والبنية التحتية داخل البنك، بالطريقة ذاتها التي تدعم بها “غرفة المقاصة الآلية” (ACH) و”شبكة فيدواير” (Fedwire) مدفوعات الإيداع.

وعلى الرغم من ذلك، فمن المرجح أن تكون تحديات قابلية التشغيل البيني مؤقتة. ويتمثل القيد الأكبر في أن مؤسسات الإيداع هي وحدها القادرة على تقديم عملات الإيداع وأن النماذج المدعومة بالكامل ليست ذات جدوى تجارية دون إجراء تعديلات على متطلبات رأس المال. في الواقع، ليس من الواضح سبب إقدام مؤسسة إيداع على إصدار “عملة ستيبل كوين” حقيقية على عملة إيداع.

عملات البنوك المركزية الرقمية

لكي تكون عملات البنوك المركزية الرقمية قابلة للتحويل بالمعنى الحقيقي، فيجب أن تستوفي شروط تحقيق مزايا النقد على أسس رقمية أكثر كفاءة، ويمكن أن تمثّل استجابة القطاع العام لتناقص الطلب على النقد المادي.

وينظر سكان الولايات المتحدة ممن يتعاملون مع البنوك ويملكون بطاقات الخصم وبطاقات الائتمان والمحافظ الرقمية إلى هذه الأشكال من الأموال على أنها نقود. لكنها ليست كذلك في الحقيقة، فهي عبارة عن التزامات على جهات إصدارها من مؤسسات القطاع الخاص. أما النقد، فهو التزام على البنك المركزي. وعلى الرغم من وجود أموال رقمية فعلياً لدى البنك المركزي في الولايات المتحدة، فإن المؤسسات المالية فقط هي التي يمكنها الوصول إليها.

ومن شأن عملة البنك المركزي الرقمية أن تجعل النقد الرقمي متاحاً للجمهور. ويدور النقاش حالياً حول ما إذا كان الدولار الرقمي ضرورياً أو مفيداً أو حتى منطقياً. وتعتمد الإجابة إلى حدٍّ كبير على قرارات التصميم الرئيسية حول كيفية توزيع عملة البنك المركزي الرقمية ولِمَنْ يتم إتاحتها وما إذا كان ينبغي أن تأتي مُحمَّلة بسعر فائدة بنكية.

وإذا تم توزيع عملة البنك المركزي الرقمية من خلال أعضاء نظام الاحتياطي الفيدرالي فقط، فلن يختلف الحل المُقترَح عن عملات الإيداع من حيث مدى الوصول وأساليب المقايضة. وسيضع نظام الاحتياطي الفيدرالي في منافسة مع أعضائه. وينشأ التوتر لأن عملة البنك المركزي الرقمية ستكون أكثر الأصول المتاحة أماناً. وفي حال لم يتم إدخال تعديلات، مثل حدود الرصيد (كحد تأمين الوكالة الفيدرالية لضمان الودائع، على سبيل المثال) أو تقديم فائدة بنكية صفرية أو سلبية على أرصدة عملة البنك المركزي الرقمية، فقد يفضّل المستهلكون عملة البنك المركزي الرقمية على الودائع المصرفية.

حتى عملة البنك المركزي الرقمية المصممة بطريقة تتلافى هذه المخاطر، ويتم توفيرها للجميع بتكلفة منخفضة، ويمكن استخدامها لتنفيذ المدفوعات الفورية، لديها القدرة على إحداث زعزعة لدى مقدمي الخدمة الذين يعتمدون على فرض رسوم مرتفعة. وفي حين أن هذه الرسوم قد تنخفض في النهاية على أي حال، فإن عملة البنك المركزي الرقمية ستؤدي إلى الإسراع بتفكيك خدمات الائتمان والدفع.

قد يعاني القطاع العام أيضاً في سبيل خدمة المواطنين والشركات على نحو فاعل بسبب موضوع عملات “ستيبل كوينز” ومستقبل المال. فنظراً لارتفاع المعايير بشكل جنوني فيما يتعلق بالقدرة على التحمل والأمان، فمن المحتمل أن يستغرق تطوير عملة البنك المركزي الرقمية واعتمادها سنوات. وقد يكون المثال الصيني استثناءً لهذه القاعدة بطبيعة الحال.

هذا هو الجانب الذي تشكّل فيه عملات البنك المركزي الرقمية وعملات “ستيبل كوينز” مكملات قوية، وليست بدائل حقيقية. ويمكن للقطاع العام أن يركّز على إصدار عملات رقمية وتقديم أموال مضمونة، في حين يمكن للقطاع الخاص بناء الأسس والتطبيقات الإلكترونية. وستضمن المنافسة مع الشبكات القديمة توفير درجة أعلى من القدرة على التحمل والابتكار.

إصلاحات بسيطة لمشكلة معقدة

يمكن لكلٍّ من عملات “ستيبل كوينز” الحقيقية وعملات الإيداع وعملات البنك المركزي الرقمية تقديم ما يشير إليه خبيرا الاقتصاد غاري غورتون، من كلية “ييل لإدارة الأعمال”، وجيفري زانغ، من مجلس محافظي نظام الاحتياطي الفيدرالي، بوصفه أموالاً “غير مشكوك فيها”. ويمكن معالجة أي حالة من الغموض القانوني المادي تجاه عملات “ستيبل كوينز” الحقيقية من خلال إدخال تغييرات تدريجية على القانون الحالي. وفيما يجري حالياً دراسة الموضوع من مختلف جوانبه، يجب أن تتضمن قوانين عملات “ستيبل كوينز” الحقيقية كلاً مما يلي: متطلبات الأصول الاحتياطية المسموح بها واحترام جهة الإصدار لمطالبات الاسترداد المباشر، والقيود المفروضة على أنشطة تحوّل الاستحقاق المحفوفة بالمخاطر. ويجب دراسة القوانين التي تدعم فصل الاحتياطي ومطالبات حامل العملة في حالات الإفلاس أو الإعسار المالي. ويمكن أن تفي عملات “ستيبل كوينز” الحقيقية بوعودها دون الحاجة إلى إضافة مخاطر جديدة، وذلك من خلال تبني نهج تنظيمي معقول.

وعندئذ يصبح السؤال المطروح على البنوك المركزية والجهات الرقابية حول موضوع عملات “ستيبل كوينز” ومستقبل المال تحديداً: أي الأساليب الثلاثة يمكنها تحسين المنافسة وخفض التكلفة وزيادة القدرة على الوصول إلى النظام المالي في الوقت ذاته؟ ففي حين أنه قد يكون من المغري الحفاظ على الوضع الراهن، فمن غير المرجح أن يحقق مثل هذا النهج الفوائد نفسها.

ويمكن استخدام تقنية “البلوك تشين” في إعادة تشكيل البنية الهيكلية للسوق وتحسين المنافسة. وتعد أسس عملة البنك المركزي الرقمية إحدى الطرق التي يمكن اتباعها لتحقيق ذلك، وقد تكون الطريقة الوحيدة لضمان حصول المستهلكين على الوصول المباشر إلى أموال البنك المركزي. ولكن من غير المرجح أن تُطرَح عملات البنك المركزي الرقمية في السوق على وجه السرعة، وهناك احتمال كبير لأن تكون قدراتها الوظيفية وقابليتها للبرمجة أكثر تقييداً.

وثمة مزيج أقوى بكثير يتألف من تركيز القطاع العام على تقنين أوضاع عملات “ستيبل كوينز” ومستقبل المال أولاً، ثم التركيز على إصدار عملة البنك المركزي الرقمية استناداً إلى أسس متعددة لاحقاً لتلافي أوجه القصور المحتملة. ومن المرجح أن تُلبي الدول التي تتبع هذا النموذج الهجين وتركّز على المخاطر الواضحة والعجز في السوق احتياجات المستهلكين والشركات بشكل أسرع، وتشهد ازدهار جيل جديد من المؤسسات المالية داخل حدودها. وتعد قابلية التشغيل البيني عبر مختلف أسس الحماية والخصوصية والهوية مجالات قد لا تتلاءم فيها حوافز القطاع الخاص مع الأهداف المجتمعية الأوسع. وقد تكون المبادئ الإرشادية للقطاع العام ووضع المعايير مفيدة بشكل لا يصدق في الترويج للحلول الصحيحة في هذه المجالات.

وفي حين أنه قد يكون من المغري وصف تقنية “البلوك تشين” بأنها مثال آخر على “البرامج المهيمنة على العالم”، فإن الأطر التنظيمية ستحدد ما إذا كانت التكنولوجيا قادرة على تحقيق إمكاناتها، ومتى يمكنها ذلك. ويمكن للقطاعين العام والخاص أن يستفيدا من قوتهما النسبية وتوطيد شراكتهما فيما يخص التعامل مع المال، إلى جانب تحسين النتائج المجتمعية من خلال هذه العملية المتعلقة بموضوع عملات “ستيبل كوينز” ومستقبل المال.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .