كيف أثرت التكنولوجيا على طريقة البشر في التحليل؟

7 دقائق
طريقة البشر في التحليل
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: لا شك أن التكنولوجيا الحديثة، إلى جانب الرقمنة المنتشرة على نطاق واسع في بيئة العمل والسلوكيات المرتبطة بالعمل، قادرة على مساعدة المؤسسات على مراقبة سلوكيات الموظفين (وأفكارهم) والتنبؤ بها وفهمها بصورة دقيقة لم نشهدها من قبل. إلا أن هذه التقنيات نفسها التي تُستخدَم بطريقة غير أخلاقية أو غير قانونية، تسمح أيضاً لأصحاب العمل بالسيطرة على الموظفين والتلاعب بهم، وهو ما يدمر الثقة المتبادلة ولا يهدد حريتهم ومعنوياتهم فحسب، بل يهدد خصوصيتهم. وتتمثل الطريقة الوحيدة للحيلولة دون الوقوع في هذا المنزلق في التطبيق الصارم للقوانين واللوائح المناسبة التي تضمن تحكم الموظف في مجريات الأمور وقدرته على إعطاء الإذن لأصحاب العمل باستخدام بياناته (أو عدم استخدامها) والاستفادة من أي أفكار ومعارف مستمدة منها. لا يوجد تعارض منطقي بكل تأكيد بين مصلحة صاحب العمل ومصلحة الموظف، لكن إغراء إجبار الفرد على اتباع سلوكيات معينة، أو استخدام بياناته الشخصية ضده، أكبر مما يظن المرء.

 

وضعت نظرية الإدارة العلمية لفريدريك تايلور أسس الموارد البشرية الحديثة قبل قرن من الزمان، إذ كانت فرضيته الأساسية تقوم على ضرورة تحويل أماكن العمل في المؤسسات إلى ما يشبه مختبرات علم النفس التي تقيس كل حركات وسكنات الموظف وتراقبها من أجل تعزيز أدائه وتقليل مستويات التوتر لديه. كان هذا النموذج ثورياً، وأسهم في توصل عدد من رواد الصناعة المعروفين، من أمثال هنري فورد، إلى ابتكارات غير مسبوقة في مجال الهندسة البشرية من خلال إنشاء خط التجميع المُبتكَر ووضع صيغة قائمة على العلم من أجل تحسين الأدوار والمهمات وتصميم الوظائف بما يلائم تعزيز إنتاجية الموظف، حتى غدت الشركات الكبرى، مثل شركة “فورد” لصناعة السيارات، ساحة لاختبارات علم النفس التطبيقي، ووُلِد من رحمها منهج الموارد البشرية القائم على الأدلة.

طريقة البشر في التحليل

ولا تزال نظرية تايلور تشكل محوراً أساسياً بعد ما يقرب من 100 عام، حيث تعمل بعض كبرى الشركات وأكثرها نجاحاً، مثل “جوجل” و“مايكروسوفت”، على تكثيف جهودها للاستفادة من علم البيانات وتوظيف جيش من حملة الدكتوراه في علم النفس الصناعي وعلم النفس التنظيمي، وتسريع التحول الرقمي بغرض نشر التقنيات الذكية ذات الصلة بالذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة من أجل تحسين أنظمة إدارة المواهب. وهكذا، يمكن القول إن عصر تحليل بيانات الأشخاص وُجِد ليبقى، بل وكان يتقدم بخطوات حثيثة قبل الجائحة، ولكن في عالم يتحول فيه العمل إلى المنصات الافتراضية على نحو متزايد (وربما يقتصر حتى على المنصات الافتراضية فقط)، سيتواصل نمو حجم البيانات المتاحة لفهم سلوكيات الموظفين والتنبؤ بها، وهو ما يتيح المزيد من الفرص للإدارة من خلال التكنولوجيا والبيانات.

لا يمكن التشكيك بحال من الأحوال في أن تحليل بيانات الأشخاص من اختصاص الموارد البشرية التي تكرس كل جهودها لمتابعة الرؤى والأفكار المستندة إلى البيانات وثيقة الصلة بقوة العمل في المؤسسة، وهذا هو الوجه المشرق للموارد البشرية. انظر إلى البيانات كسجلات رقمية لسلوكيات الموظفين، وانظر أيضاً إلى تحليل بيانات الأشخاص كعلم يترجم هذه البيانات إلى رؤى وأفكار قابلة للتنفيذ تعمل على تحسين فاعلية المؤسسة. حيث يمتلك معظم المؤسسات ثروة من البيانات، ولكم سمعنا مراراً وتكراراً أن “البيانات هي الثروة النفطية الجديدة”، ولكن البيانات دون إحصاءات مجرد أرقام لا معنى لها. وستحتاج هنا إلى إطار العمل الصحيح أو النموذج الملائم أو الخبرة المناسبة للتأكد من أن البيانات تكتسب معنى، وتتمثل المرحلة التالية من العملية في العمل على أساس تلك الرؤى والأفكار لاتخاذ قرارات وإجراء تغييرات قائمة على البيانات وإنشاء ثقافة مستندة إلى البيانات في المؤسسة. ومن هذا المنطلق، يعتبر تحليل بيانات الأشخاص محاولة متعمدة ومنهجية لجعل المؤسسات أكثر استناداً إلى الأدلة وتتمحور حول المواهب وتتسم بالجدارة التي نأمل أن تجعلها أكثر فاعلية.

خذ على سبيل المثال، تجربة الموظف، والتي جرت العادة على تقييمها من خلال الاستقصاءات السنوية التي تركز على الرضا الوظيفي أو اندماج الموظف. وعلى الرغم من وجود علاقة طردية بين هذه المقاييس والأداء الوظيفي، فإن هذه العلاقة الترابطية عادة ما تتصف بالضآلة (تُقدَّر العلاقة بين الاندماج والإنتاجية بأقل من 20%)، وتختلط بعوامل غير ذات صلة، مثل السمات الشخصية للموظف، كما أنه من غير المعقول الانتظار لمدة عام كامل لتقييم ما إذا كانت المعنويات قد ارتفعت أم انخفضت، فلماذا لا نراقب هذا الأمر بانتظام؟

استقصاءات نبض الشركة

بدأت “استقصاءات نبض الشركة” المنتظمة وأدوات الاستماع إلى الموظفين تكتسب شعبية عند هذه النقطة تحديداً، وبات بالإمكان استخدامها على جناح السرعة لاتخاذ إجراءات حقيقية تفيد كلاً من الموظف والشركة، وبمقدور شركات مثل “غلينت” (Glint) و”كلتشر آمب” (CultureAmp) و”كوالتريكس” (Qualtrics) و”بيكون” (Peakon) مساعدة المؤسسات على استقصاء “نبض” موظفيها بانتظام للتعرف على مستوى اندماج الموظف وميوله في الوقت الحقيقي. وعلى الرغم من ظهور فكرة الاستماع إلى الموظفين منذ فترة من الزمان، فقد اكتسبت شعبية أكبر إثر أزمة “كوفيد-19″، وتستخدم شركات، مثل “رابو بنك” (Rabobank) و“ميرك” (Merck) و“البنك الوطني الأسترالي” (National Australia Bank)، الاستماع إلى الموظفين لفهم كيفية تعاملهم مع الترتيبات الجديدة للعمل عن بُعد والوقوف على مدى تغير احتياجهم إلى الدعم والتعرف على تفضيلاتهم حيال العودة إلى العمل.

ويمكن للشركات التوصل إلى رؤى ثاقبة قيمة حول ما هو مهم لموظفيها في بيئة سريعة التغير دون الحاجة إلى إجراء استقصاءات مجهدة، مع الحفاظ على إخفاء الهوية على المستوى الفردي، وذلك من خلال استخدام أساليب معينة مثل أخذ العينات الطبقية (كبديل لأخذ العينات العشوائية التي تمكن علماء البيانات من تقسيم عينة محددة إلى “طبقات” من أجل التوصل إلى تنبؤات حول المشاركين) والتحليلات النصية المحوسبة للتعليقات الحرة على النصوص (برنامج يفك تشفير الكلمات ومعدلات تكرارها ويحولها إلى ميول عاطفية أو سمات نفسية مختلفة) ولوحات المناقشة.

ثمة مسألة أخرى مهمة، لاسيما في السياق الحالي، وهي ما إذا كان بالإمكان استخدام التقنيات الجديدة للحفاظ على سلامة العنصر البشري ومراقبة رفاهته العقلية والجسمانية، فمع فتح باب النقاش على مصراعيه في الوقت الراهن حول كيفية تمكين أصحاب العمل من جعل أماكن عملهم آمنة وضمان إعادة فتح مقار العمل بشكل يراعي المعايير الصحية في مرحلة ما بعد الإغلاق، فلن تسعفهم التدابير المعتادة، مثل فحص درجة الحرارة أو تطبيق قواعد التباعد الاجتماعي.

وهناك العديد من الطرق التي تستخدم بها الشركات التقنيات الجديدة لدعم موظفيها، إذ يمكن للأجهزة القابلة للارتداء الآن مراقبة مستوى التوتر والقلق في حال قرر الموظف مشاركة هذه البيانات، مثل روبوتات الدردشة التي يمكن استخدامها للسؤال عن حالتك العاطفية وتقديم المشورة. ويمكن بالطبع استخدام المعلومات نفسها لدعم الأفراد أو السيطرة عليهم؛ لأنك ببساطة إذا عرفت شعور شخص ما في لحظة معينة، وحالته الفسيولوجية والنفسية، فسيكون بمقدورك استخدام هذه المعلومات لمساعدته وتشجيعه، أو حتى التلاعب به والسيطرة عليه، وهو ما لا نتمنى حدوثه. وهذا ينطبق عليك أنت أيضاً عندما تمكّن التكنولوجيا الأطراف الأخرى من اكتساب رؤى ثاقبة حول حالتك العاطفية بصورة أعمق.

ويستطيع أصحاب العمل بسهولة استخدام تطبيقات “التعقب والتتبع”، مثل تلك التي طورتها شركات “جوجل” و”آبل” في الولايات المتحدة والتي تم إقرارها على الفور من قبل بعض الحكومات (مثل الصين وسنغافورة) استجابة لتبعات الجائحة من أجل مراقبة الأفراد والحفاظ على صحتهم، وبالمثل، يعقد الأكاديميون اتفاقيات شراكة مع الشركات الناشئة المتخصصة في صناعة الأجهزة القابلة للارتداء، كما هو الحال بين شركة “آورا” (Oura) المصنعة للخاتم الذكي “آورا رنغ” (Oura Ring) و”جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو”، لترجمة بيانات الاستدلال البيولوجي التي يشاركها الأفراد، طواعية بكل تأكيد، إلى ملف تعريفي لمخاطر “كوفيد-19”. انظر إلى هذه الابتكارات كمكافئ رقمي لقياس درجة حرارتك عند وصولك إلى مقر العمل، أو استدعاء طبيب إلى الموقع للتحقق من الأعراض الرئيسية. وعلى الرغم من أن هذه الإجراءات مثيرة للجدل لأنها قد تتدخل في الحياة الشخصية للفرد وتنتهك خصوصيته وتسلب حريته في إخفاء هويته، فإن تبنيها يتزايد يوماً بعد يوم من قبل الشركات الكبرى، وبات من الصعب التمييز بين الإجراءات الرقمية والإجراءات التناظرية أو المادية، حيث بدأت تتلاشى الخطوط الفاصلة بين حياتنا المادية والرقمية نفسها.

الهدف من التحليلات

قد يتمثل الهدف الرئيسي الآخر في تعزيز أداء الموظف أو إنتاجيته، حيث سيظل هذا دائماً الهدف الرئيسي في معظم المؤسسات، حتى عندما تهتم الشركات كثيراً بالمعنويات والرفاهة لأنها ترى أن هذه الأشياء ترتبط إلى حد بعيد بالأداء، لكن عند هذه هي النقطة يمكن أيضاً أن يتسلل عامل المراقبة “المخيف”، فمع قدرة الهواتف وأجهزة الاستشعار ومنصات “أليكسا” والأجهزة القابلة للارتداء وإنترنت الأشياء على اكتشاف كل حركاتنا وسكناتنا وتسجيلها، وتقلص فرص عدم الاتصال بالإنترنت والخروج من دائرة المراقبة، قد تغدو قادرة على انتهاك خصوصيتنا إلى حد ما وتتحول إلى ما يشبه الأخ الأكبر بسرعة كبيرة، وتتطلع بعض الشركات الآن، على سبيل المثال، إلى طرح برامج مراقبة أكثر قدرة على التطفل يمكنها أخذ لقطات لشاشات أجهزة الكمبيوتر في أثناء عمل الموظفين، ويمكنها تتبع تحركات الأفراد كوسيلة لتتبع الإنتاجية ومراقبة قوة العمل التي أصبحت تعمل عن بُعد بين عشية وضحاها. وقد تلقت شركة “بي دبليو سي” (PwC) في وقت سابق من هذا العام انتقادات واسعة لتطويرها عملية المراقبة من أجل تتبع ما إذا كان الموظفون بعيدين عن أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم من عدمه.

وتفكر شركات أخرى في أدوات المراقبة التي ستراقب انتشار فيروس كورونا داخل مقار العمل، ولكن ما التنازل التي سيتعين على الموظفين تقديمه حينما نشهد توسعاً في استخدام تكنولوجيا المراقبة استجابة لجائحة “كوفيد-19″؟ إذا أصبحت هذه الأدوات إلزامية تحت ستار حماية صحة قوة العمل، فكيف يمكن للموظفين التأكد من حماية خصوصيتهم وعدم استخدام بياناتهم لأغراض أخرى؟ هذه هي النقطة التي يجب أن تتدخل عندها أقسام الموارد البشرية وتدير نقاشاً يتناول ثقة الموظف ومسؤوليات الشركة والآثار الأخلاقية لأي تقنية جديدة، وتحقيق توازن بين احتياجات الموظف والمدير والشركة.

فعلى الرغم من أننا ما زلنا في بدايات هذه الثورة، فقد حدثت تطورات ضخمة في كل من القطاعات الرئيسية لإدارة المواهب بالتزامن مع ظهور مجموعة من الأدوات والتقنيات الجديدة المدعومة بالعلم في بعض الحالات. وإذا تمكن القادة من غرس ثقافة الثقة والاحترام والإنصاف في مؤسساتهم، ونشر هذه المبتكرات الناشئة وفق معايير أخلاقية وقانونية صارمة (وهو “شرط” لا يمكن الاستخفاف به بحال من الأحوال)، فهناك فرصة حقيقية لإنجاز العمل بصورة أفضل بكثير.

ولا يكفي أن نأمل وضع الأخلاقيات على رأس أولوياتنا عندما تفكر الشركات في استخدام التكنولوجيا الحديثة أو تنفيذ مشاريع تحليل بيانات الأشخاص. ونحن نرى من وجهة نظرنا أنه يجب على الشركات اعتماد ميثاق أخلاقي لتحليل بيانات الأشخاص يساعدها على حوكمة ما يجب وما لا يجب عليها فعله بوضوح وبالطريقة نفسها التي تُرسي بها المبادئ التوجيهية لاستخدام بيانات العملاء أو البيانات المالية. ويجب على المؤسسات التعامل بصورة مباشرة مع موضوع الأخلاقيات والخصوصية، ومخاطبة الموظفين بانفتاح وشفافية حول كيفية استخدامها لبياناتهم من أجل بناء الثقة المتبادلة مع الموظف والحفاظ عليها فيما يخص استخدام بياناتهم.

لا شك أن التكنولوجيا، إلى جانب الرقمنة المنتشرة على نطاق واسع في بيئة العمل والسلوكيات المرتبطة بالعمل، قادرة على مساعدة المؤسسات على مراقبة سلوكيات الموظفين (وأفكارهم) والتنبؤ بها وفهمها بصورة دقيقة لم نشهدها من قبل، إلا أن هذه التقنيات نفسها التي تُستخدَم بطريقة غير أخلاقية أو غير قانونية، تسمح أيضاً لأصحاب العمل بالسيطرة على الموظفين والتلاعب بهم، وهو ما يدمر الثقة المتبادلة ولا يهدد حريتهم ومعنوياتهم فحسب، بل ويهدد أيضاً خصوصيتهم.

وتتمثل الطريقة الوحيدة للحيلولة دون الوقوع في هذا المنزلق في التطبيق الصارم للقوانين واللوائح المناسبة التي تضمن تحكم الموظف في مجريات الأمور وقدرتهم على إعطاء الإذن لأصحاب العمل باستخدام بياناتهم (أو عدم استخدامها) والاستفادة من أي أفكار ومعارف مستمدة منها. لا يوجد تعارض منطقي بكل تأكيد بين مصلحة صاحب العمل ومصلحة الموظف، لكن إغراء إجبار الفرد على اتباع سلوكيات معينة، أو استخدام بياناته الشخصية ضده، أكبر مما يظن المرء.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .