هل يمكن لصناديق المؤشرات أن تكون قوةً دافعة للرأسمالية المستدامة؟

6 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تشهد صناعة الاستثمار تحولاً، ومن جملة أمور أخرى، هناك طلب متزايد من جانب صغار المستثمرين والمؤسسات الاستثمارية على التوفيق بين رأسمالهم والنتائج البيئية والاجتماعية الأفضل، وتوجيه قدر أكبر من الموارد إلى منتجات صناديق المؤشرات أو المنتجات شبه المؤثرة على المؤشرات. قد يبدو هذان التوجهان منفصلين، أو غير متوافقين كما يعتقد البعض، لكنهما معاً يتمتعان – في رأيي – بالقدرة على الارتقاء بدور الشؤون المالية في العالم. فمن الممكن أن تكون صناديق المؤشرات قوةً دافعة للرأسمالية المستدامة.

تنتشر ممارسة الاستثمار الذي يُراعي الأبعاد الاجتماعية انتشار النار في الهشيم، وأتوقع أنه في مرحلة ما سيكون من الصعب تمييزه كمنتج أو خدمة أو فئة. وستراعي الممارسات الاستثمارية جميعها المعايير البيئية والاجتماعية والإدارية، لأن بعض تلك المعايير ملموسة مالياً، أي أنها معلومات مفيدة لصنع القرار. لننظر وحسب إلى شركة “أوبر” (Uber) لنعي أهمية التنوع وأمان المنتج، أو إلى شركات تصنيع السيارات التي تتسابق لخلق ميزة تنافسية في السيارات الكهربائية بينما تسعى الدول إلى استئصال الكربون من اقتصادها ومكافحة التلوث. في الحالتين، تتجلى أهمية المعايير الاجتماعية والبيئية للنجاح المالي للشركات.

وهذا ليس بالدليل المستقى من حالات منفردة وحسب، فقد توصلت أبحاث زملائي المؤلفين وأبحاثي إلى أن الشركات التي تعكف على تحسين أداءها المتعلق بقضايا بيئية واجتماعية وإدارية صناعية ملموسة تتفوق على منافساتها، والشركات التي تفصح عن معلومات أكثر حول قضايا بيئية واجتماعية وإدارية صناعية ملموسة تعرض أسعار أسهم أكثر إفادة وبالتالي فهي تنطوي على تسعير أكثر كفاءة للمخاطر والفرص.

وفي الوقت نفسه، نجد أن صناديق المؤشرات سبب لنقاش محتدم، فالبعض يراها تطوراً طبيعياً وخياراً ذكياً لكثير من المستثمرين غير المحترفين. من الصعب التفوق على السوق، وعلى مدار فترة زمنية طويلة ثبت أن الربط بالمؤشرات يتفوق على غالبية المدراء النشطين. ومن جانب آخر، يرى المعجبون بالإدارة النشطة أنها توجه يمكن أن يدمر كفاءة السوق، ويؤدي إلى تشوهات في أسعارها. لو كان القسم الأكبر من السوق منغمس في استثمارات “سلبية”، فلن تنضبط الأسعار على النحو المناسب، وسوف يُخصص رأس المال بطريقة أقل كفاءة. والنقاش أبعد ما يكون عن الحسم، وسوف يستمر على الأرجح لفترة طويلة. ولكن الربط بالمؤشرات يمثل فرصة نادراً ما تحظى بالنقاش لتعزيز قضية الاستثمار المستدام.

تتمثل هذه الفرصة في استبعاد محفزات الانتفاع المجاني داخل الصناعات التي قد تستغل فيها أي شركة جهود شركة أخرى في التعامل مع مشكلة اجتماعية أو بيئية. ورغم أن الدليل القائم عموماً يقترح أن الشركات ذات الأداء البيئي والاجتماعي والإداري الأفضل تتفوق على منافساتها، إلا أن هناك حالات لا تسري عليها هذه الفرضية. أولاً، لدينا مشكلة أن الزبون لا يريد أن يدفع: في بعض الحالات، لا يبدي الزبائن رغبة في دفع أموال أكثر لقاء منتجات “صديقة للبيئة”، وفي أغلب الحالات لا تبدي سوى فئات ثانوية من قاعدة الزبائن لمنتجات محددة استعدادها لاختيار منتجات أكثر حفاظاً على البيئة. ونتيجة لذلك، فإن الشركات التي تخطو خطوات باهظة التكلفة للحصول على المنتجات بطريقة مستدامة يمكن أن تجد أن لديها هيكل تكاليف أعلى وهوامش أرباح أقل، ومن ثم يصل بها الحال إلى وضع تنافسي سلبي. ثانياً، ثمة مشكلة تتعلق بالأفق الزمني: فرغم أن زيادة الرواتب أو انتقاء موردين يقومون بممارسات عمالة أفضل في بعض الحالات قد يحقق منفعة مالية على المدى البعيد، نجد أن الضغوط قصيرة الأجل على الأعمال قد تجعل قادة الشركة ينصرفون عن مثل هذه الاستثمارات. ومن الممكن أن تكون سوق الهيمنة المؤسسية، وتصميم مجموعة تعويضات التنفيذيين وآفاق تقييم مجلس الإدارة من بين المعوقات أمام مثل هذه القرارات.

كيف يمكننا التغلب على مشكلات الانتفاع المجاني هذه لضمان توافر الحافز لدى الشركات لكي يكون لها أثر مجتمعي أكثر إيجابية؟ من بين الأجوبة عن هذا السؤال في رأيي ما أطلق عليه اسم “أوجه التعاون السابقة للمنافسة” التي تتآلف في سياقها الصناعات المختلفة، لوضع معايير صناعية، أو استخلاص بيانات، أو ابتكار معرفة صناعية، أو دفع عجلة تطوير المنتجات. قبل أن نشرح كيف يمكن لأشكال التعاون هذه أن تُجدي نفعاً، من الأهمية بمكان أن نشير إلى أننا نلاحظها تنتشر بالفعل في العديد من الصناعات من التعدين إلى التقنية. (تحدث أشكال التعاون هذه بطريقة شفافة، ولا ينبغي الخلط بينها وبين تكتيكات التواطؤ الضارة التي يجب أن نحتاط لها).

على سبيل المثال، اجتمع رواد صناعة الجينز في أمستردام، بدعم من جامعة “أمستردام للعلوم التطبيقية” (Amsterdam University of Applied Sciences)، لتشكيل تحالف من أجل صناعة جينز مسؤولة (ARD). ويهدف هذا التحالف إلى إنتاج الجينز بطريقة مستدامة عن طريق التعاطي مع ثلاث مشكلات بيئية أساسية تواجه هذه الصناعة وهي: الماء والطاقة والمواد الكيميائية. وفي مثال آخر، نجد أن الجمعية الدولية لشبكات الهاتف المحمول، وهي الكيان التجاري الذي يمثل شركات تشغيل الهاتف المحمول، قد وضعت إطاراً للتعاون على تعظيم إسهام الشركات في أهداف التنمية المستدامة، وخصوصاً تحسين البنية التحتية، والحد من الفقر، وتوفير خدمات التعليم عالي الجودة، واتخاذ إجراءات بشأن التغير المناخي.

ولقد وضع المجلس الدولي للتعدين والفلزات مبادئ شفافية لشركات التعدين، بينما يركز برنامج “الرعاية المسؤولة” لصناعة الكيماويات على النتائج التي تتراوح ما بين سلامة الموظفين والأثر البيئي. وبالمثل نجد أن التحالف العالمي لقطاع الزراعة يعكف على صياغة اتفاقية للشركات العاملة في أجزاء مختلفة من سلسلة القيمة الزراعية حول معايير السلوك لتحسين معيشة المزارعين، من بين نتائج أخرى.

تستطيع الشركات في الصناعة الواحدة، عندما تتحد فيما بينها، أن تجعل الحياة أكثر صعوبة للمنتفعين بالمجان الساعين إلى التصرف بطريقة أقل مسؤولية. وبوضع معايير واضحة، وإتاحة البيانات، تساعد أشكال التعاون هذه على أن تُظهر للسوق أي الشركات ملتزمة بالمعايير البيئية والاجتماعية والإدارية وأيها يتملص منها.

ولكن، ما هو دور المستثمرين؟ في أبحاثي، وضعت إطار عمل يقترح أن المستثمرين آلية محتملة لبناء مثل تلك الأنواع من التعاون السابق للمنافسة واستدامتها، لأنهم يتعاطون مع إزالة الغابات في صناعة الأغذية، أو ملوثات المياه في صناعة الملابس، أو البحث عن مصادر المواد في صناعة المعدات الإلكترونية، أو عوامل السمنة والصحة في مجال أماكن تناول الأطعمة والمشروبات.

وبالتوافق مع إطار العمل في أبحاثي، شرعت العديد من الشركات بالفعل في المشاركة على مستوى الصناعة، فإما أيدت وإما حتى ساعدت على إنجاز تلك الأنواع من التعاون السابقة للمنافسة”. على سبيل المثال، أشركت صناديق المعاشات التقاعدية السويدية، بالتعاون مع مستثمرين آخرين عام 2016، 10 شركات في إدارة الأسماك والمحار في شتى مراحل سلاسل التوريد والعديد من الشركات التي تشتري مناجم الكوبالت في الكونغو. ومنذ أسابيع قلائل فقط، أقام أضخم صندوق استثماري في العالم، وهو صندوق المعاشات التقاعدية النرويجي، شراكة مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسيف) لإنشاء شبكة، بالتعاون مع بعض أبرز شركات الموضة، للارتقاء بحقوق الأطفال في سلسلة التوريد. وستركز هذه المبادرة أيضاً على جوانب مثل تعليم الأطفال وصحتهم وتغذيتهم، بدايةً من التحاقهم بالمدرسة وحتى قدرة الأمهات العاملات على إرضاع أطفالهم رضاعة طبيعية.

لقد حددتُ صفتين للمستثمرين الذين أرجح تعاونهم مع الشركات على مستوى الصناعة فيما يتعلق بقضايا ذات أهمية بيئية واجتماعية: أن يكون لديهم أفق زمني مديد للاستثمارات، وأن يتمتعون بملكية مشتركة كبيرة للشركات داخل الصناعة أو سلسلة التوريد نفسها. وكلما كان الأفق الزمني أطول، بدت جوانب عديدة من القضايا البيئية والاجتماعية والإدارية أكثر جاذبية، كما سبق وذكرنا أعلاه. وكلما زاد عدد الشركات التي يملكها المستثمر داخل صناعة ما، زاد اهتمامه بالصناعة ككل، وباتت نظرته لسلوك المنتفعين بالمجان أقل استحساناً.

هناك ثلاثة أنواع من المستثمرين يستوفون المعيارين. النوع الأول يتمثل في الشركات الكبرى لإدارة الأصول المربوطة بالمؤشرات، مثل شركة “بلاك روك” (Blackrock) وشركة “ستيت ستريت” (State Street) وشركة “فانغارد” (Vanguard). تمتلك هذه الشركات الاستثمارية حصصاً كبيرة من الأسهم، ولو ظلت شركة ما عند مؤشر بعينه، فسوف تواصل الشركات الاستثمارية امتلاك أسهمها. والنوع الثاني هو المؤسسات الاستثمارية النشطة الكبيرة بما يكفي لأن تصبح شبه متحكمة في المؤشرات (محافظ استثمارية منوعة وذات حجم أعمال منخفض) إذ تسعى إلى تقييد أخطاء رصد المؤشرات أمثال “جيه بي مورغان” (JP Morgan)، وبنك نيويورك ميلون (بي إن واي) (BNY Mellon)، و”نرذرن تراست” (Northern Trust). والنوع الثالث يتمثل في صناديق المعاشات التقاعدية الكبرى أمثال صندوق استثمار معاشات الحكومة، وإدارة الاستثمارات المصرفية النرويجية، وصندوق “آيه بي” للمعاشات، وصندوق التقاعد المشترك لولاية نيويورك. تميل هذه المؤسسات الاستثمارية أيضاً إلى امتلاك كمية كبيرة من أسهم الكثير من الشركات، بينما تربط في الوقت ذاته ما بين الأصول والالتزامات طويلة الأجل. لقد شكّلت المؤسسات الاستثمارية المرتبطة، وشبه المرتبطة، بالمؤشرات الآن الفِرق التي تنخرط مع الشركات في محافظها الاستثمارية، بينما كان كبار مُلاك الأصول من بين أوائل المنخرطين مع الشركات حول قضايا بيئية واجتماعية.

وهذا لا يعني أن المستثمرين الآخرين ليس لديهم دور يؤدونه. حقيقة الأمر أنني أقترح أن هناك نوعين آخرين من المستثمرين سيؤدون دوراً محورياً: وهما الصناديق الاستثمارية المسؤولة اجتماعياً والمستثمرون الأفراد. لقد كانت الصناديق الاستثمارية المسؤولة اجتماعياً والمؤسسات الاستثمارية، مثل “سيريس” (CERES)، فعالة في طرح القضايا البيئية والاجتماعية على العامة، فمارست بذلك ضغوطاً على الشركات والمستثمرين الكبار وحثتهم على التصرف. فضلاً عن ذلك، كلما زاد عدد المستثمرين الأفراد الذين يكترثون بالسمات البيئة والاجتماعية لاستثماراتهم، تضاءلت احتمالات انتفاع مدراء الأصول بالمجان من جهود غيرهم من مدراء الأصول. ويتسق مع هذا الطرح أنه بينما ازداد اهتمام المستثمرين الأفراد بالخصائص البيئية والاجتماعية والإدارية لاستثماراتهم، شهدنا زيادة في عدد مدراء الأصول الذين ينخرطون مع الشركات.

لقد اصطبغت صناعة إدارة الاستثمارات إلى حد كبير بصبغة سلعية. ومارست التقنية ضغوطاً على الأتعاب الإدارية، الأمر الذي سيستمر في المستقبل. علاوة على ذلك، فقد أفضى تكامل هذه الصناعة وحجمها الكبير إلى أن غالبية الصناديق الاستثمارية أمست شبه مرتبطة بالمؤشرات، إن لم تكن مرتبطة بها صراحةً. ووفق تقديراتي لكل دولار يُدار بفعالية، سواء عن طريق المحافظ المتنوعة ذات حجم الأعمال الكبير، أو عبر المحافظ المركزة ذات حجم الأعمال المحدود، تُخصص ثلاث دولارات للربط المباشر أو شبه المباشر بالمؤشر. في مثل هذه السوق، ستكون هناك مكافآت جمة للمشاركين في السوق، والذين بوسعهم تقديم خدمة متمايزة. إن الانخراط مع الشركات، بغية تعزيز النتائج البيئية والاجتماعية، والقدرة على توثيق أثر تلك الانخراطات، قد يثبت مستقبلاً أنهما ضمن عوامل التميز تلك.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .