مع تخفيف إجراءات الإغلاق العام المرتبطة بجائحة كوفيد-19 عام 2021، وجدت شركة ميرسك نورث أميركا (Maersk North America) نفسها في مهبّ الريح، وهي قسم تابع لعملاق الشحن والخدمات اللوجستية العالمية الكائن في الدنمارك، ميرسك. فقد أصبحت موانئها ومحطاتها ومستودعاتها ومراكز توزيعها في مأزق عالمي، كما زاد نقص العمالة الوضع سوءاً. وتمثّلت استجابة شركة ميرسك في إعادة توجيه السفن من الطرق النائية إلى ممرات التجارة عبر المحيط الهادئ، وزيادة ساعات العمل في منشآتها، وتحديث أنظمة التتبع، وفتح مواقع تخزين وتوزيع جديدة.

في الوقت نفسه، كانت شركة ميرسك تحقق أرباحاً قياسية من الحجم الهائل للطلب المتزايد، فضلاً عن الأسعار المرتفعة التي كانت تدفعها الشركات لتسريع عمليات التسليم. لقد كانت في أفضل حال وأسوئه على حد سواء، كما أنها حصلت على فرصة غير مسبوقة لاستكشاف الحلول التي عالجت الأزمة الفورية والتوجهات الطويلة الأمد وتمويل تلك الحلول حتى، ما أدى إلى زيادة القدرة على التحمّل في عملياتها، بما فيها عزل الكربون وزيادة رقمنة عملياتها، ونشر قدرات الذكاء الاصطناعي واستغلالها، ومعالجة قضايا التوظيف والاستبقاء المزمنة.

عادة ما تتبنى الشركات التي تواجه زعزعة كبيرة نهجاً محدوداً للابتكار يقتصر على تعيين رئيس تنفيذي للابتكار أو إنشاء صندوق مخصص للاستثمار في الشركات الناشئة. في المقابل، تبنى قادة شركة ميرسك نهجاً قائماً على الأنظمة يمكن لأي شركة لديها سلسلة توريد متعددة الجنسيات ومتطورة الاستفادة منه، وهو نهج يدمج الاستراتيجية والعمليات والمواهب بطريقة منسقة. يتطلب تجاوز أي صدمة مفاجئة أن تنفّذ الشركة حلولاً فورية، في حين تتمثّل الطريقة الوحيدة لضمان تحقيق المرونة والقدرة على التحمّل في المستقبل في معالجة المشكلات في الأنظمة بطريقة متعمدة تركز على المدى الطويل، وتوحّد الأولويات الواضحة، وتضع عمليات قابلة للتكرار وجيدة التصميم، وتتبنى نهج حوكمة قوي، وتُنفّذ من قبل فريق ماهر.

وأنشأت شركة ميرسك بالتعاون مع مركز إنوسايت (Innosight) مركزاً مخصصاً للابتكار عام 2021 استخدم مبادئ تصميم الأنظمة الثلاثة التالية:

1. التركيز على أولويات المؤسسة

غالباً ما تستسلم مجموعات الابتكار لإغراء مواصلة جهود الابتكار بهدف أن تحظى بسمعة الابتكار فقط، كأن تشتري أحدث أدوات التكنولوجيا سواء كانت متوافقة مع الأهداف العامة للشركة أم لا. لكن لا ينطوي الهدف من مركز الابتكار على مساعدة الشركة على “مجاراة المنافسين” فحسب، وإنما على دعم استراتيجيات الشركة الشاملة وتطويرها. وكان ذلك يعني في حالة شركة ميرسك تسريع عملياتها فيما يتعلق بالتكامل الشامل لسلسلة التوريد.

على سبيل المثال، فكّر قادة شركة ميرسك في دخول سوق التخزين المصغّر من خلال توسيع نطاق خدمات المحطة الأخيرة لتشمل المستهلكين الأفراد. لكن على الرغم من الإمكانات الواعدة لهذا النهج واحتمالية أن يصبح أكثر ملاءمة في المستقبل، لم يركز على كبار تجار التجزئة الأكثر تضرراً بأزمة سلسلة التوريد الذين يمثّلون أكبر زبائن شركة ميرسك وأهم العوامل الدافعة لربحيتها ونموها.

لذلك، حوّل مركز الابتكار تركيزه إلى عمليات تفريغ الحاويات في الموانئ، أي نقل محتويات الحاويات الدولية من ناقلات المحيطات إلى مقطورات شاحنات بطول 53 قدماً، وهي العمليات التي كانت تشكل عقبة رئيسية في ميرسك نورث أميركا. وأنشأ بالشراكة مع مشغلي شركة ميرسك الداخليين، وميناء فانكوفر، وشبكة السكك الحديدية كانيديان باسيفيك ريلوي (Canadian Pacific Railway)، منشأة باسيفيك ترانسلود إكسبريس (Pacific Transload Express)، وهي منشأة لنقل البضائع تبلغ مساحتها 117,000 قدم مربعة، وتضم 103 منفذ تفريغ وتقع على بُعد مسافة قصيرة نسبياً بالقطار من فوضى محطات الحاويات الرئيسية الثلاثة في فانكوفر. وقلّل هذا الحل من التقلّبات في أوقات توصيل شحنات الحاويات من المنتج إلى المستهلك مباشرة من 35-75 يوماً إلى 35-40 يوماً، ما جعل سلاسل التوريد أكثر موثوقية وقابلية للتنبؤ. وتمكّنت من خلال إلغاء أكثر من 100,000 رحلة شاحنة محلية سنوياً من خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بأكثر من 15%، ما أدى إلى تعزيز هدف شركة ميرسك المتمثّل في أن تكون محايدة للكربون بحلول عام 2040.

2. إنشاء نظام حوكمة فعّال وواجهات بينية واضحة مع الشركاء الداخليين والخارجيين

يتمثّل السبب الآخر الذي يجعل العديد من مجموعات الابتكار تفشل في تلبية التوقعات في انعزالها عن الزبائن الذين يُفترض أن تخدمهم. وتمثّل هؤلاء “الزبائن” في حالة مركز الابتكار التابع لشركة ميرسك في وحدات الأعمال الداخلية التي تُشرف على مراكز التخزين والتوزيع. وبالمثل، قد تتجاهل مجموعة الابتكار إنشاء واجهات بينية فعّالة مع الشركات الناشئة والجامعات والموردين المهمين الآخرين الذين يُعدّون شركاءها الخارجيين.

وتمتد خطوط الإبلاغ الخاصة بمركز الابتكار في حالة شركة ميرسك حتى المناصب التنفيذية العليا، ما يضمن حصوله على الاعتراف والدعم الكامل من الإدارة العليا، كما تشمل خطوط الإبلاغ قادة العمليات الرئيسيين الذين يُعد دعمهم وتأييدهم أمراً بالغ الأهمية عند اختبار المبادرات وتوسيع نطاقها. ولضمان أن يكون لوحدات الأعمال دور في تحديد الأولويات وأن تمارس السيطرة التشغيلية عند تجريب المبادرات التي تؤثر عليها، تم تأسيس مجلس الابتكار الذي يشمل أعضاؤه المدير الإداري الإقليمي لشركة ميرسك في منطقة أميركا الشمالية ونواب الرؤساء التنفيذيين للعمليات والعمليات المؤسسية في الوحدة. ويشمل أصحاب المصالح الخارجيون الذين يقدمون مساهماتهم إلى المجلس جامعات متعددة (كمركز معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا للنقل والخدمات اللوجستية)، وكيانات حكومية، مثل هيئة التنمية الاقتصادية في ولاية نيوجيرسي، وشركة الروبوتات التجارية بوسطن دايناميكس (Boston Dynamics)، والعديد من الشركات الناشئة. وتضمن وجهات نظر جميع هذه الأطراف الرئيسية أن يحافظ مركز الابتكار على تركيزه على المشكلات المهمة وأن يلتزم بإعادة توجيه تركيزه بسرعة عندما تخلق مبادرة ما مشكلات جديدة.

وعلى الرغم من امتلاك شركة ميرسك رأس مال استثماري مغامر قوي، ميرسك غروث (Maersk Growth)، تحافظ مجموعة الابتكار على علاقاتها مع شركات رأس المال المغامر (الجريء) والشركات الناشئة لزيادة وصولها إلى التكنولوجيا الجديدة المزعزعة والتماس وجهات نظر خارجية بشأن مبادراتها. على سبيل المثال، اكتست المشكلة المزمنة المتمثلة في “انكماش” المخزون أهمية كبيرة خلال الأزمة، أي منصات التحميل المفقودة أو المخزّنة في مكان آخر في المستودعات والتي تشكّل نسبة 6% من البضائع الموجودة. (معظم عمليات المستودعات عرضة للانكماش بنسبة تصل من 5% إلى 10%).

وتوصلت المجموعة بعد التفكير في حل مع عدد من الشركات المختلفة إلى نشر طائرات من دون طيار (الدرون) لتطير عبر المستودعات وتجمع الصور ومقاطع الفيديو وتُجري عمليات المسح الضوئي الثلاثي الأبعاد، لتبدأ بعد ذلك مرحلة معالجتها عبر تحليلات الفيديو المحوسبة والذكاء الاصطناعي لتحديد مواقع منصات التحميل المفقودة. وتمكّن المركز بفضل قنوات التواصل الواضحة التي طورها مع العديد من شركائه من تطوير الطائرات من دون طيار وتطوير برمجياتها بالكامل واختبارها ونشرها في المستودعات خلال أقل من أربعة أشهر. وتم تقليل الانكماش إلى ما يقرب من 0%، ليقرر المركز طرح النظام على نطاق واسع اليوم.

3. التأكد من امتلاك المركز الموارد الكاملة وتوظيفه عمليات واضحة وقابلة للتكرار

يضم العديد من مجموعات الابتكار في الشركات أشخاصاً أذكياء لكنهم منفصلون عن استراتيجيات مؤسساتهم وأهدافها التي يُفترض أن يعملوا لتحقيقها، ما يُسفر عن فشل المبادرات في إحداث الأثر المنشود. عيّنت شركة ميرسك مهندسين وعلماء بيانات ومتخصصين في الخدمات اللوجستية والعمليات داخلياً وخارجياً وتحققت من جودة التفكير الإبداعي لدى المرشحين واختبرته طوال عملية المقابلة.

كما فكّر قادة شركة ميرسك ملياً في موقع مركز الابتكار واختاروا حيّزاً مكتبياً في مدينة جيرسي سيتي في ولاية نيو جيرسي، بعيداً عن المقر الرئيسي لشركة ميرسك نورث أميركا الذي يقع في ضاحية فلورهام بارك في الولاية نفسها. وكانت المواهب التي سعوا إلى جذبها في منطقة مدينة نيويورك الكبرى، في حين كان الموقع الحضري على بُعد رحلة قصيرة بالقطار من مدينة مانهاتن. بالإضافة إلى ذلك، وفّرت المسافة بين المركز والمقر الرئيسي للوحدة الإقليمية في فلورهام بارك الفصل النفسي والمادي اللازم لضمان ألا يتقيّد مركز الابتكار بمنهجيات شركة ميرسك الراسخة.

ولكي يضمن المركز التزام فرقه باستراتيجية شركة ميرسك ويُلغي الحاجة إلى إعادة ابتكار نموذج تشغيل في كل مرة يتوصّل فيها إلى فكرة جديدة، صمّم قادته عمليات واضحة وقابلة للتكرار وشاركوها مع فرقهم. فبدلاً من طرح فكرة ومحاولة إثباتها، تحدد عملية الابتكار المشكلة وماهية أصحاب المصالح الأكثر تأثراً بها وتأثيراتها الاقتصادية والتشغيلية.

على سبيل المثال، وجد فريق الابتكار عند رغبته في تحسين كفاءة العمل أن الانتقاء اليدوي والتعبئة يستغرقان وقتاً طويلاً، فتوصّل إلى حل افتراضي تمثّل في استخدام روبوتات “البضائع إلى العامل”، وهي تكنولوجيا آلية مهمتها توصيل العنصر المناسب إلى العامل المناسب في الوقت المناسب. ويواصل المركز تطوير المبادرات من خلال عمليات قائمة على مراحل لأنها تنتقل من مرحلة التفكير إلى التصميم، تليها مرحلة التجريب ومن ثم تطبيق الحلول على نطاق واسع استناداً إلى مجموعة مقاييس معيارية واضحة وبيانات تُجمع بشكل فوري. وإذا لم تُسفر المرحلة التجريبية عن أي نتائج أو ثبت أنها غير قابلة للتطوير، فتُلغى المبادرة في حينها.

النتيجة

إن النتائج غنية عن البيان. فبحلول نوفمبر/تشرين الثاني 2022، تكون شركة ميرسك قد جرّبت أكثر من 23 مبادرة، سبعٌ منها أُطلق على نطاق واسع، في حين تم إلغاء اثنتين منها. والنتيجة هي انخفاض بنسبة 46% في تفاوت مهل تسليم الشحنات من آسيا إلى أميركا الشمالية، فضلاً عن تحقيق وفورات كبيرة. لكن في مؤتمر صناعي في الشهر نفسه، حذّر المدير الإداري الإقليمي لمنطقة أميركا الشمالية، نارين فول، من القناعة بالوضع الراهن قائلاً: “زعزعات سلاسل التوريد متواصلة، ولا يمكننا أن نضمن أي شيء”.

وتُظهر تجربة شركة ميرسك قدرة النهج القائم على الأنظمة على إضفاء الوضوح وتعزيز القدرة على التحمل وتوسيع الجهود لبناء سلاسل توريد المستقبل، فهو نهج يتوافق مع استراتيجية المؤسسة، ويحل مشكلات الزبائن الداخليين والخارجيين، ويطور واجهات بينية واضحة مع الشركاء، ويبني قدرات تنظيمية واسعة ويصونها، ونهج يمكن لأي شركة لديها سلسلة توريد متطورة تبنّيه.