هل تجد نفسك عالقاً في حلقة الإلهاء والتوتر؟

6 دقائق
سلوكيات الإلهاء

ملخص: سلوك الإلهاء هو السلوك العصري الذي يعادل تجنب الخطر أو المجهول في العصور الأولى. فالغموض يجعلك تشعر بالتوتر، والتوتر يحثك على الفعل، وغالباً ما يتمثل هذا الفعل في جمع المعلومات. لكن عندما لا تتوفر معلومات جديدة حول الجائحة فلن تشعر بتحسن عندما تتفقد آخر الأخبار، وبالتالي يتعلم عقلك بسرعة أن سلوكيات الإلهاء هي بديل حقيقي. إنها من أساسيات النجاة. لكن المشكلة هي أن سلوكيات الإلهاء قد تؤدي إلى عادات غير صحية أو إدمان يصعب التخلص منه. إذا وجدت نفسك عالقاً في حلقة العادات التي تلهيك عن التوتر فعليك أن تحدد معالم عملية “المحفّز والسلوك والمكاسب” التي تؤدي إلى تشكيل العادات غير المرغوبة وإدامتها.

 

بوصفي طبيباً نفسياً متخصصاً في التوتر وإدارة العادات، شهدت كثيراً من التغييرات على مدى الأشهر الماضية، لكن كان القليل منها إيجابياً. يعمل أحد مرضاي في متجر مشروبات تملكه عائلته (وهو يعتبر من الأعمال الأساسية في ولاية رود آيلاند الأميركية). في جلساته معي عبر الإنترنت ضمن البرنامج الجديد للرعاية الصحية عن بعد، أخبرني أنه كان يعمل أكثر من 70 ساعة في الأسبوع، إذ ازدادت أعمال متجره على نحو غير مسبوق. كما انضم عدد من المرضى الآخرين إلى الأعداد المتنامية من المشاهدين النهمين لقناة “نتفليكس” على اعتبارها طريقة لإلهاء أنفسهم، في حين لا يزال آخرون قلقين بشأن “زيادة الوزن الناتجة عن الحجر الصحي” لأنهم يلجؤون إلى تناول الطعام طلباً للراحة المعنوية.

اللجوء إلى عادات الإلهاء

سواء كانت عادتك السيئة هي الإفراط في الطعام أو الشراب أو تصفح وسائل التواصل الاجتماعي أو مشاهدة التلفاز، لماذا يحثك عقلك للجوء إلى عادات الإلهاء عندما تواجه توتراً متزايداً؟

فلنبدأ بشيء من علم الأحياء.

يعرف التوتر على أنه “الشعور بالقلق أو العصبية أو الضجر الذي ينجم غالباً عن حدث وشيك أو أمر له نتيجة غير مؤكدة”. ومن المفهوم أن هذا الشعور قد ازداد على مستوى المجتمع بأكمله في هذه الفترة. من الناحية البيولوجية، فقد أُعد “عقل النجاة” لدى الإنسان للبحث في المنطقة المحيطة به عن الطعام والخطر على حدّ سواء. وعندما كان الإنسان البدائي يعثر على مصادر جديدة للطعام كانت معدته ترسل سلسلة إشارات لدماغه تؤدي إلى ارتفاع مستوى هرمون الدوبامين بدرجة كبيرة، ثم يشكل دماغه ذكرى عن مكان توفر الطعام من أجل مساعدته على فهم طريقة العثور عليه في المستقبل. وينطبق الأمر نفسه على الخطر. عندما كان الإنسان البدائي يستكشف أماكن جديدة كان عليه البقاء متنبهاً بدرجة شديدة والبحث عن أي حركة حوله كي لا يصبح هو مصدراً لغذاء كائن آخر. وقد ساعدته حالة الغموض في ذلك، ولذلك تمكن البشر من النجاة والاستمرار في الحياة.

لكن يجب الانتباه إلى تحذير مهم في فهم العلاقة بين التوتر والإلهاء، فما أن يصبح المكان مألوفاً بالنسبة للإنسان سواء كان خطراً أم لا تتناقص درجة الغموض لديه، أي أن عودة الإنسان البدائي إلى منطقة ما مرة تلو الأخرى أدت إلى منحه القدرة على الاسترخاء.

فلنطبق ذلك على وقتنا الراهن وعليك أنت: ما أن يتلاشى الغموض أكثر يصبح استخدام دماغك لهرمون الدوبامين مختلفاً، وبدلاً من ارتفاعه عندما تتناول الطعام أو تلاحظ خطراً، يرتفع عندما تترقب هذه الأحداث. هرمون الدوبامين ليس “جزيء متعة” كما تصفه المؤلفات الشائعة، وما أن يتعلم الإنسان سلوكاً معيناً يكون قد ارتبط بصورة دائمة مع النهم تجاهه والرغبة الملحة في فعله.

وهذا منطقي من منظور تطور الإنسان، فبمجرد معرفة الإنسان البدائي لمكان مصدر طعامه أصبح يشعر برغبة ملحة في الذهاب إلى هناك والحصول عليه.

يبدي مرضاي العملية ذاتها في استجابتهم للجائحة، سواء كانوا مدمنين على مادة معينة أو سلوك معين، فقد تعلموا أن يربطوا سلوكاً معيناً بنتيجة معينة. وكل من تتملكه رغبة ملحة في تناول وجبة خفيفة أو تفقد الأخبار أو زيارة موقع التواصل الاجتماعي عند الشعور بالملل أو التوتر يعرف معنى ذاك الشعور بالانقباض المتواصل في المعدة أو الصدر، فهو إشارة إلى أن ثمة أمراً خاطئاً. فيقول عقلك: “افعل شيئاً!” ويجعلك هذا الفعل، أو سلوك الإلهاء، تشعر بتحسن. قد تبدو لك مشاهدة مقطع فيديو عن الجراء اللطيفة (مجدداً) خياراً غريباً حين يجب عليك الاستمرار بالعمل على مشروع مهم، لكن هذا الخيار بديهي ومهم بالنسبة لعقلك، إنه من أساسيات النجاة.

سلوك الإلهاء هو السلوك العصري!

فكر بالأمر على النحو التالي: سلوك الإلهاء هو السلوك العصري الذي يعادل تجنب الخطر أو المجهول في العصور الأولى. الغموض يجعلك تشعر بالتوتر، والتوتر يحثك على فعل شيء ما، وذلك سيدفعك نظرياً إلى جمع المعلومات. لكن عندما لا تتوفر معلومات جديدة حول الجائحة فلن تشعر بتحسن عندما تتفقد آخر الأخبار، وبالتالي يتعلم عقلك بسرعة أن سلوكيات الإلهاء هي بديل حقيقي.

تكمن المشكلة في أن سلوكيات الإلهاء تكون في أغلب الأوقات غير صحية وغير مفيدة، فلا يمكن لأحد الاستمرار في الأكل أو الشرب المفرطين أو الإدمان على مشاهدة قناة “نتفليكس” إلى الأبد، بل هذا الأمر خطير في الحقيقة. لأن دماغك سيعتاد هذه السلوكيات، وستشعر بحاجة متزايدة إليها من أجل الحصول على النتيجة التي اعتدت عليها.

للأسف فإن “عقل النجاة” يحاول مساعدتك، لكنه لا يستطيع رؤية أنه يقودك إلى سلوك أو إدمان سيصعب التخلص منه. ما العمل إذن؟

قراءة هذا المقال هي خطوة أولى مفيدة. عندما تفهم طريقة عمل عقلك ستتمكن من العمل معه. إذا وجدت نفسك عالقاً في حلقة العادات التي تلهيك عن التوتر فعليك أن تحدد معالم عملية “المحفّز والسلوك والمكاسب” التي تؤدي إلى تشكّل العادات غير المرغوبة وإدامتها. وهذا يشمل ملاحظة المحفّز (التوتر) وسلوك الإلهاء (الأكل أو الشرب أو مشاهدة التلفاز) والمكاسب (الشعور بتحسّن بعد إلهاء نفسك عن المحفّز). وما أن تحدد حلقة العادات التي تلهيك عن التوتر، حدد الأوقات التي تظهر فيها. هل تظهر في سياق محدد أم في وقت معين من اليوم؟

ثم ابدأ باستكشاف حقيقة مكاسب هذه العادات. يختار عقلك واحداً من عدة سلوكيات بناء على مستويات مكاسبها، لذلك بدلاً من محاولة إجبار نفسك على عدم اللجوء إلى الإفراط في الأكل أو تفقد مواقع التواصل الاجتماعي عند الشعور بالتوتر، ركّز على النتائج النفسية والجسدية لسلوكك. أطلب من مرضاي أن يطرحوا على أنفسهم سؤالاً بسيطاً: “ما الذي سأجنيه من ذلك؟” هذا ليس سؤالاً فكرياً، وإنما أطلب منهم طرحه من أجل خوض تجربة. كيف تبدو هذه الراحة الموجزة؟ كم تدوم؟ هل لها تبعات تعود بآثار رجعية، مثل زيادة التوتر بسبب عدم إنهاء عملك؟

من المهم ملاحظة أن سلوكيات الإلهاء ليست جميعها سيئة، لكنها تتحول إلى مشكلة عندما تصبح المكاسب التي تسعى إلى الحصول عليها غير مجزية. يمكنك استكشاف شعورك بعد تناول قليل من الشوكولاتة عندما تكون متوتراً مقارنة بتناول الكثير منها، ويمكنك استكشاف شعورك بعد مشاهدة 5 حلقات من برنامجك المفضل مقارنة بمشاهدة حلقتين فقط. عندما تنتبه إلى هذه الأمور فعلى الأرجح أنك ستكتشف منحنى كلاسيكي على شكل حرف (U) مقلوب، حيث يستقرّ شعور الرضا الناتج عن سلوك الإلهاء نسبياً ثم ينحدر بك مجدداً لتعود إلى الشعور بالقلق والضجر، وهذا يدفع عقلك إلى البحث عن السلوك الأفضل التالي.

السلوكيات التي تعود عليك بالمكاسب

وهنا نصل إلى الخطوة الأخيرة من هذه العملية وهي العثور على “العرض الأفضل”. بما أن عقلك يختار السلوكيات ذات المكاسب الأكبر، فعليك تحديد السلوكيات التي تعود عليك بمكاسب أفضل من مكاسب العادات السيئة.

هذا لا يعني اختيار سلوك جديد كلياً كلّ مرة، بل قد يعني في بعض الأحيان التوقف عن عادتك الحالية عندما تتحول نتيجتها من إيجابية إلى سلبية. أبق عبارة “ما هو مقدار القليل الكافي؟” نصب عينيك عندما تنغمس في سلوك الإلهاء. طبقها على كلّ شيء، بدءاً من الطعام وصولاً إلى مشاهدة التلفاز، عن طريق تفقد شعورك بالرضا في جسدك وعقلك ببساطة. أعمل على دراسة هذا المبدأ في مختبري عن طريق دمج “أداة النهم” في تطبيق التدريب على اليقظة الذهنية (تناول الطعام في الحال “Eat Right Now”) الذي يساعد الناس على التخلص من عادة تناول الطعام أو الإفراط في الأكل عند الشعور بالتوتر. إذ أطلب من المشاركين الانتباه في أثناء تناول الطعام، ثم أسألهم عن مدى شعورهم بالرضا بعد ذلك، فيستطيعون بهذه الطريقة ربط مقدار الطعام الذي يتناولونه أو نوعه مع شعور الرضا في أجسادهم وعقولهم. وهذا يساعدهم في تشكيل رؤية واضحة عن أن الإفراط في تناول الطعام لا يعود عليهم بأي مكاسب، وأن التوقف عن الأكل عندما يشعرون بالشبع يعود عليهم بمكاسب كبيرة.

إذا كان هدفك هو كسر حلقة تكرار عادتك تماماً، فمن الضروري أن تسعى إلى استكشاف خيارات أخرى أفضل. مثلاً، عندما تشعر بالتوتر يمكنك الاستعانة بتمارين اليقظة الذهنية من أجل معالجة التوتر نفسه بدلاً من اللجوء إلى إلهاء نفسك عنه. (توصلنا في مختبرنا إلى أن اليقظة الذهنية تؤدي إلى انخفاض بنسبة 57% في معدلات التوتر لدى الأطباء الذين يعانون منه، وانخفاضاً بنسبة 63% في التوتر لدى أشخاص يعانون من اضطراب القلق المعمم). إن معالجة التوتر بدءاً من مصدر سلوك الإلهاء الذي تتبعه تشبه معالجة السبب الأساسي للألم الذي تشعر به في جسدك بدلاً من تناول مسكّن يخدرك مؤقتاً ويخفي أعراض المشكلة ويؤدي بك إلى التعود عليه.

في الختام، تتلخص هذه العملية في معرفة عقلك، ومعرفة الذات تمنحنا القوة دائماً، وهي فعالة لاسيما عندما يتعلق الأمر بالعمل مع عقولنا. عندما يزداد الغموض، اكسر حلقات عادات الإلهاء عن التوتر باستخدام الميزة التي تطورتَ كإنسان كي تجيدها، وهي التعلم.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .