نحيا جميعاً في عالم باتت فيه المؤسسات والحياة بشكل عام فائقة الترابط. ويستخدم الموظفون اليوم مجموعة مذهلة من التكنولوجيات التعاونية التي تساعدهم على التعاون أكثر من أي وقت مضى. ولقد أدى هذا إلى إهدار قدر كبير من الوقت في الجوانب التعاونية للعمل، مثل المراسلات الفورية والبريد الإلكتروني والاجتماعات، بنسبة 50% تقريباً على مدار الـ 12 عاماً الماضية.

وعلى الرغم من وجود فوائد مهمة لأداء العمل بهذه الطريقة التعاونية المبالغ فيها، مثل تحسين معدلات الابتكار وسرعة صناعة القرار والاستجابة للمتغيّرات السوقية، فثمة جوانب سلبية غير ملحوظة تتمثّل في تشتّت جهود الموظفين بين المتطلبات التعاونية لعملهم. ويترتب على هذه الظاهرة خسائر فادحة، يتمثّل أهمها في إصابة الموظفين بالاحتراق الوظيفي نتيجة تضارب الكثير من الأولويات المتضادة، إضافة إلى أن الروابط التي تقيم “الجسور” بين الأفكار بطريقة تساعد على توليد الابتكار آخذة في التدهور، كما أن استنزاف الموظفين آخذ في الارتفاع، في ظل مغادرة الموظفين المرتبط بعضهم مع بعض بعلاقات قوية في أغلب الأحيان، ما يضر بإنتاجية أولئك الذين كانوا مرتبطين بهم في شبكة العلاقات المهنية.

ولا يكمن التحدي في عبء العمل بشكل عام، بل في العمل التعاوني نفسه الذي يجب على الموظفين أداؤه في الآونة الحالية. وللأسف، لا يبدو أن ثمة نهاية تلوح في الأفق لهذه الظاهرة، لأن البصمة التعاونية للعمل تتم إدارتها بشكل سيئ في معظم المؤسسات. وقد لاحظنا في إحدى شركات صناعية الأدوية التي درسناها أن نصف مواعيد اجتماعات الموظفين تتعارض مع مواعيد اجتماعات أخرى.

وتتسبب التكنولوجيات التعاونية في إلحاق المزيد من الضرر؛ فقد أثبت بحث أُجري مؤخراً أن الموظفين في 3 شركات مدرجة على قائمة “فورتشن 500” يتنقلون بين التطبيقات أكثر من 1,200 مرة يومياً في المتوسط، ما يتسبب في أوجه قصور معرفية خطرة من خلال تكاليف التحويل المرتبطة بإهدار الوقت وزيادة التوتر الجزئي في لحظات تبدو صغيرة، ولكنها تتسبب في عواقب مدمرة تراكمية على مدار الأيام والأسابيع.

ويُعد تقليل تكلفة الإفراط في العمل التعاوني تحدياً تحليلياً في المقام الأول. ويمكن للقادة تتبع النفقات المالية وصولاً إلى رقمين عشريين، لكنهم يمتلكون في الغالب الحد الأدنى من الفهم لكيفية تنظيم الموظفين لمعظم وقتهم في الأعمال التعاونية كل أسبوع. ولا يبالغ المدراء عادةً في إنفاق الميزانيات المالية عمداً، لكنهم يبالغون في تبديد جهود موظفيهم من خلال مطالبتهم بالتعاون على نطاق واسع وبشكل متكرر في مختلف أشكال العمل دون فهم التكاليف الفعلية.

الحاجة المُلحة إلى الذكاء التعاوني

لتقييم فاعلية الاستراتيجيات المختلفة في مكافحة الإفراط في العمل التعاوني، أجرينا دراسة في مختبر الابتكار في العمل (The Work Innovation Lab)، وهو مركز تفكير تابع لشركة أسانا (Asana) يساعد الشركات على مواجهة تحديات العمل المتزايدة. وقد أنشأنا لوحة متابعة “الذكاء التعاوني” لموظفي شركة أسانا الذين وافقوا على الانضمام إلى دراستنا التي تناولت مقاييس التعاون اليومية الرئيسية التالية:

  • عدد المرات التي خاضوا فيها عملاً تعاونياً مع موظف آخر.
  • عدد المرات التي خاض فيها موظف آخر عملاً تعاونياً معهم.
  • عدد الفِرق التي تعاونوا معها.

تم أيضاً مقارنة كل من المقاييس المعيارية الثلاثة المذكورة أعلاه مع أقرانهم. وقد قسّمنا المشاركين بشكل عشوائي إلى 3 مجموعات. طُلب من المجموعات كلها تدوين مذكراتهم اليومية لمدة أسبوعين، من الثلاثاء إلى الجمعة، والتفكير في ذكائهم التعاوني الجديد. ولقد استوفى أفراد المجموعة الأولى تدوين مذكراتهم اليومية فقط. واستوفى أفراد المجموعة الثانية تمرين ترتيب الأولويات الشخصية؛ حيث دونوا أهم 3 إلى 5 أولويات كل يوم. واستوفى أفراد المجموعة الثالثة تمرين ترتيب الأولويات الكلية للمجموعة الذي تضمن أيضاً إخبار اثنين من أصحاب المصالح في العمل بأولوياتهم.

اعتمد تصميم دراستنا على بحثنا السابق الذي أظهر أن ازدياد عبء الأولويات بات أحد أخطر العوامل التي تعرقل نجاح الفريق. ووجدنا أن 49% من الموظفين في المؤسسات التي درسناها يعانون ازدياد عبء الأولويات؛ إذ يجد الموظفون أنفسهم مشتتين بين أهداف مُبالغ فيها أو متضاربة وضعتها أطراف عديدة من أصحاب المصالح الخارجيين ذوي الاحتياجات والمتطلبات المتضادة. ويؤدي ازدياد عبء الأولويات إلى عجز الموظفين عن تكوين صورة واضحة المعالم لأهم الأولويات المنوطة بهم والمنجزات المطلوب منهم تحقيقها، ما يسفر عن وقوعهم ضحايا لظاهرة الإفراط في العمل التعاوني نتيجة انخراطهم في أعمال غير مهمة.

وقد وجدنا من خلال الدراسة أن الذكاء التعاوني أدى إلى زيادة وعي المشاركين بالعمل مع الآخرين بطرق تقلل من الإفراط في العمل التعاوني الواقع على كواهل الآخرين. وقد نجح أفراد المجموعة المختصة بترتيب الأولويات الشخصية في تحقيق هذه الغاية بشكل أكثر فاعلية. فقد نجحوا في زيادة عدد الإجراءات التعاونية في شركة أسانا (مثل إرسال الرسائل وتعيين المهمات وإضافة الزملاء إلى مشروع مشترك) بنسبة 28% في أثناء الدراسة، لكنهم خفضوا عدد الإشعارات التي أرسلوها للآخرين بنسبة 7% (عبر إجراءات مثل توحيد تعليقاتهم وقصر عدد الزملاء الذين أضافوهم كمتعاونين في المهمات ذات الصلة على أصحاب المصالح المعنيين فقط). وكما أوضح أحد المشاركين: “عندما رأيت لوحة المتابعة لأول مرة، قلت إنني سأكون على دراية بكيفية تفاعلي مع الآخرين. ويبدو أن هذا قد آتى ثماره وأن الآخرين كانوا يفعلون الشيء نفسه”.

ويمثّل الإفراط في العمل التعاوني جانباً سلبياً غير ملحوظ في كثير من الأحيان، ولكنه شيء يمكننا التحكم فيه، كما سنوضح لاحقاً. فقد وجدنا أن الأفراد يستطيعون السيطرة على هذه الظاهرة بصورة أكبر مما كانوا يعتقدون في بداية الدراسة.

معالجة الإفراط في العمل التعاوني

يقع عبء معالجة الإفراط في العمل التعاوني في أغلب الأحيان على عاتق الموظفين أنفسهم من خلال التركيز على نهجهم في العمل بصورة أدق، لكن مسؤولية هذه الظاهرة تقع على عاتق المؤسسات أيضاً. وإذا تسبب قادة الشركات والبنى التنظيمية في زيادة عبء العمل، فإن القدر الهائل من الوقت الذي يمضيه الموظفون في أنشطة العمل التعاوني سيظل متفشياً في المؤسسات.

وقد توصلنا من خلال بحثنا إلى تحديد 4 طرائق رئيسية يمكن للمؤسسات من خلالها الحد من الإفراط في العمل التعاوني الذي يشتّت جهود موظفيها. ويتضمن كلٌ من الطرائق الأربع ضرورة أن تصبح المؤسسات أكثر ذكاءً حول كيفية حدوث العمل التعاوني.

1. الاستثمار في الأدوات والمنصات التي تحافظ على تركيز الموظفين وتأثيرهم

شهدت الفترة من عام 2019 إلى عام 2021 نمو عدد الموظفين الذين يستخدمون التكنولوجيات التعاونية بنسبة 44%، وفقاً لبحث أجرته مؤسسة غارتنر (Gartner). ويجب ألا تتسبّب أدوات العمل التعاوني في مكان العمل في تشتيت انتباهك. ويجدر بالمؤسسات أن تستثمر في أدوات التعامل التجاري بين الشركات ومنصاتها، مثل منصات أتمتة سير العمل والأدوات التي تتيح قدرات “الوقت المخصص للتركيز”، التي تمكِّن الموظفين من الحفاظ على تركيزهم، لا تشتيته.

ويجب على القادة أيضاً أن يعطوا الأولوية لدمج أدوات العمل التعاوني التي استثمروا فيها. وقد أنشأت إحدى المؤسسات التي درسناها “مركزاً” للمعرفة يدمج المعلومات المستقاة من أدوات البرمجيات كخدمة بمختلف أنواعها وأشكالها (أكثر من 300 منها)، بحيث تظهر المعلومات ذات الصلة بالفرق المتعددة وتبرز في المركز. وتم استبعاد المعلومات التي لم تكن ذات صلة بالفرق المتعددة من المركز لتقليل كثافة المعلومات غير المهمة والحد من الإفراط في العمل التعاوني.

2. تسليح الموظفين بالذكاء التعاوني

ثانياً: يجب على المؤسسات أن تزوّد الموظفين بالذكاء التعاوني، مثل لوحات المتابعة. وقد منحت لوحة متابعة الذكاء التعاوني التي ابتكرناها للمشاركين القدرة على تكوين فهم واضح كانوا في أمسِّ الحاجة إليه فيما يخص سلوكيات العمل التعاوني، وهو الوضوح الذي كانوا يفتقرون إليه من قبل.

ويحتاج الموظفون كجزء من الذكاء التعاوني إلى مقاييس معيارية ونقاط مقارنة لتقييم “صحة” تعاونهم. وقد قال أكثر من نصف المشاركين (55%) في دراستنا إن مقارنة إجراءاتهم بالآخرين كانت أكثر الأجزاء قيمة في لوحة المتابعة (مقارنةً بالطريقة التي يمضون بها وقتهم بشكل فردي).

وعندما نظر المشاركون إلى لوحات المتابعة، بدؤوا التفكير بشكل أعمق في كيفية تخصيص وقتهم. وعندما رأى أحد المشاركين أنه كان يمضي جزءاً صغيراً فقط من وقته في العمل على المشروع المكلَّف به في شركة أسانا، حرص على تكريس وقته بطريقة جديدة للتركيز “المكثَّف” على الأعمال ذات الصلة بالمشروع. وعندما رأى مشارك آخر أن عدد الأعمال التعاونية التي بدأها ذاتياً كان أقل من أقرانه، أدرك أنه يتسبب في معوقات للآخرين، واستجابة لذلك، بدأ تكثيف عمله التعاوني. وما لم يكن لدى الموظفين بعض المقاييس المعيارية لجودة العمل، فسيجرفه التيار دون وعي في أمواج متلاطمة من العمل التعاوني دون معرفة كيفية إدارتها.

3. وضع معايير العمل التعاوني على مستوى المؤسسة

ثالثاً: يجب على المؤسسات أن تتحرك وفق خطة استراتيجية فيما يتعلق بوضع معايير تعاونية في العمل. يجب عليها تطوير المعادل الموضوعي لنظام الطرق السريعة حتى يعرف الموظفون بها قواعد السير على الطريق لتجنب حدوث فوضى كاملة.

وقد لاحظنا في إحدى الشركات التي درسناها أنهم يوثّقون الغرض من كل أداة معتمدة للعمل التعاوني في الشركة. كانت الوثائق صريحة، فعلى سبيل المثال، يجب ألا يتم استخدام البريد الإلكتروني للاحتفاظ بالمعلومات المهمة بسبب محدودية وظائف البحث على هذه المنصات. ويجب على الشركات أيضاً أن تضع معايير حول مستوى إلحاح المعلومات؛ لأن الموظفين لديهم ميل طبيعي للاعتقاد بأن آخر إشعار أو طلب يتم تلقيه هو الأكثر إلحاحاً. ويحتاج الموظفون إلى معرفة موعد تصعيد المخاطبات وكيفيته (على سبيل المثال: البريد الإلكتروني ← منصة “سلاك” ← المكالمات الهاتفية مع زيادة مستوى الإلحاح).

4. إعادة الضبط

تحتاج المؤسسات في بعض الأحيان إلى إجراء إعادة ضبط كاملة وإعادة بناء الممارسات التعاونية من الألف إلى الياء. وقد درسنا في بحثنا السابق هذه النقطة في سياق “إعادة النظر في جدوى الاجتماعات” التي تضمنت إقدام المشاركين على شطب الاجتماعات المتكررة والمصّغرة مؤقتاً من جداول مواعيدهم. وقد أسهمت عملية إعادة النظر في جدوى الاجتماعات في مساعدة المشاركين على إعادة التفكير في كيفية إهدار وقتهم في الاجتماعات وأجبرتهم على إعادة النظر في اجتماعاتهم وإعادة ضبطها بالكامل بحيث تتماشى البنية التنظيمية لكل اجتماع (عدد الحاضرين في الاجتماع ومدته وإيقاعه وعدد المشاركين فيه) مع الغرض منه.

ويجب على المؤسسات أن تبذل جهوداً أوسع لمساعدة موظفيها على إدارة الإفراط في العمل التعاوني. فنحن نميل إلى الاعتقاد بأن المزيد من التعاون هو الخيار الأمثل، دون الاعتراف بجوانبه السلبية. ونتناسى مراقبة إنتاجية الموظفين أو نتائج العمل نفسه. ولمساعدة الموظفين على إبراز أفضل ما لديهم في العمل، يجب على القادة والمؤسسات زيادة الاستثمار في الذكاء التعاوني من خلال تطبيق النصائح المذكورة أعلاه.