دفاعاً عن المستثمرين الناشطين

5 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio
في العام 1926، بعث بينجامين غراهام برسالة إلى شركة “نرذرن بايبلاين” (Northern Pipeline) ضمّنها طلباً بسيطاً. فقد كان يمتلك حصة صغيرة في الشركة، ولاحظ بأنها تمتلك ملايين الدولارات المستثمرة في سندات وأوراق مالية في قطاع السكك الحديدية. الرجل الذي سيُعرف لاحقاً باسم عميد وول ستريت والأب الروحي لفلسفة الاستثمار في القيمة أو القيمي (Value Investing)، أراد من الشركة أن تبيع هذه الأوراق المالية وتوزّع العائدات على المساهمين في شكل توزيعات أرباح أسهم (Dividend).

لم يشعر المدراء التنفيذيون للشركة بالسعادة عندما تلقوا هذه الرسالة، وردّوا عليه قائلين: “إن إدارة الأنابيب -التي تتخصص الشركة بصناعتها للبنية التحتية- هي عملية معقدة ومتخصصة، ولا يمكنك أنت أن تعرف عنها الكثير، بينما نحن نعمل في هذا المجال طوال حياتنا”.

لكن هذا الجواب لم يشكّل رادعاً أمام غراهام الذي استمر في مساعيه تلك. وعلى مدار عام كامل، كان غراهام يلتقي بأي شخص يمتلك أكثر من 100 سهم في شركة “نرذرن بايبلاين”، كما حاول إقناع المستثمرين الخامدين (Passive Investors)، بمن فيهم “مؤسسة روكفلر” (Rockefeller Foundation) بالانضمام إليه في حملته تلك. وقد كتب إلى هذه المؤسسة رسالة قال فيها: “يجب أن تأتي المبادرة في هذا الاتجاه من المساهمين وليس من الإدارة. فالقرار المتعلق بمصير رأس المال الذي لا تحتاجه الشركة في أعمالها، سواء أن يبقى رأس المال هذا فيها أو يُسحب منها، هو قرار يجب أن يتخذه في المقام الأول مالكو رأس المال وليس من يشرفون على إدارته”.

لقد كانت المعركة هذه عبارة عن صراع حول أفكار متنافسة تخص معنى الرأسمالية. فبالنسبة لغراهام، لم يكن المدراء سوى أشخاص يستعين بهم المساهمون لإدارة شركتهم. أما بالنسبة للمسؤولين في شركة “نرذرن بايبلاين” فقد كانوا يعتقدون أن الشركة ملكهم، وأن المستثمرين لا يفهمون طبيعة عملها، وأن إسهام المستثمرين الوحيد في نجاحها كان من خلال تقديم الأموال النقدية. وفي نهاية المطاف، حصل غراهام على ما يُريد، وهكذا ولدت حقبة ما يسمّى بـ “المستثمر الناشط” (Activist Investor).

وبعد مرور 90 عاماً، ها هي “رأسمالية المساهمين” تتعرّض للهجوم بحق من قبل أولئك الذين يتهمونها بخلق اقتصاد مفرط التركيز على المدى القصير وإعطاء الأولوية للمستثمرين على حساب العمال والمجتمع. لكن النقد الموجه ضد المستثمرين الناشطين ليس واضحاً بشكل قطعي، كما يبيّن كتابان صدرا حديثاً في هذا المجال.

ففي كتاب “عزيزي رئيس مجلس الإدارة” (Dear Chairman)، الذي اقتبست منه المثال عن شركة “نرذرن بايبلاين”، عمد جيف غرام (Jeff Gramm)، وهو مدير لصندوق تحوّط ومحاضر في جامعة “كولومبيا”، إلى تجميع تاريخ الاستثمار الناشط من خلال التركيز على المراسلات الخطية بين المساهمين في الشركات المدرجة في البورصة وأعضاء مجالس إدارتها، والتي اعتبرها مقرّرات دراسية يشترط على طلابه قراءتها. يقول غرام: “إن الرسالة الجيدة تعلمنا كيف يتفاعل المستثمرون مع أعضاء مجلس الإدارة والمدراء، وكيف ينظرون إلى الشركات التي يستهدفونها، وكيف يخططون لتحقيق الأرباح منها”. وبالتالي، فإن هذه المراسلات هي مصادر للحكمة الاستراتيجية.

قد يبدو البحث في “رسائل طلب الفدية” التي كان يرسلها “قراصنة الشركات” (Corporate Raider)، (وهو المصطلح المفضل في ثمانينيات القرن الماضي)، أمراً غريباً، لكن جيف غرام جمع أكثر من مجرد مطالب بالحصول على توزيعات أرباح أسهم. ولنأخذ مثلاً رسالة روس بيرو (Ross Perot) إلى روجر سميث، رئيس مجلس إدارة شركة “جنرال موتورز”: “لا أعتقد أن “جنرال موتورز” يمكن أن تصبح شركة من طراز عالمي وقادرة على المنافسة في مجال التكلفة من خلال معالجة المشاكل باستعمال التكنولوجيا والمال. فاليابانيون لا يتغلبون علينا من خلال استعمال التكنولوجيا والمال، وإنما هم يستعملون معدات قديمة، ويصنعون سيارات أفضل وأرخص، من خلال الإدارة الأفضل سواء في اليابان أو من خلال الاستعانة بعمال اتحاد نقابات عمال السيارات في الولايات المتحدة الأميركية”. وسواء كنا نتّفق في الرأي مع بيرو أو نختلف معه، فهو كان يعرض استراتيجية هنا.

لكن الرسالة المفضلة لدي والأثيرة على قلبي هي تلك التي أرسلها دانيال لوب (Daniel Loeb) عام 2005 إلى إيريك سفين (Irik Sevin)، رئيس مجلس إدارة شركة “ستار جاس بارتنرز” (Star Gas Partners). ففي تلك الرسالة، عرض لوب نقطة بسيطة تتعلق بطريقة الحوكمة في الشركة: لا يجب عليك تعيين والدتك البالغة من العمر 78 عاماً في عضوية مجلس الإدارة. يقول لوب: “إذا تبين أنك أهملت في أداء مهامك وواجباتك التنفيذية، وهذا ما نرتئيه، فإننا لا نعتقد أن والدتك هي الشخص المناسب لطردك من وظيفتك”.

إذا كان كتاب “عزيزي رئيس مجلس الإدارة” يتبنّى أسلوب الدفاع المنطقي، حيث إنه يستخلص من الحالات الفردية في مجال الاستثمارات الناشطة دروساً وعبراً مفيدة للشركات وقطاع الأعمال، فيمكن اعتبار كتاب “القيمة العميقة” (Deep Value) لمؤلفه توبياس كارليسل، كمراجعة للأدبيات العلمية الموجودة في هذا الموضوع. ورغم أن الكتاب يزخر بالحواشي، يظل كتاباً مُمتعاً، وهو يدافع عن فلسفة الاستثمار في القيمة – أي البحث عن الأسهم المقومة بأقل من قيمتها الحقيقية – ويشرح لماذا تمكّن أشخاص من الممارسين من أمثال وارن بافيت (Warren Buffett) – والذي يعرض كتاب غرام رسالته المؤرخة عام 1964 إلى “أميركان إكسبرس” (American Express) –  والناشطون الأعلى صوتاً من أمثال “كارل آيكان” (Carl Icahn) – والذي تظهر رسالته المؤرخة عام 1985 إلى شركة “فيليبس بيتروليوم” (Phillips Petroleum) أيضاً في كتاب “عزيزي رئيس مجلس الإدارة” – من التفوق على السوق.

ففي بادئ الأمر، هم جميعاً يسيرون على خطى غراهام. فهم يدركون بأن الشركات العامة المدرجة في البورصة تكون في بعض الأحيان مقوَّمة برقم يقل عن مجموع أجزائها – أي المبلغ الذي يمكن أن تولده هذه الشركات فيما لو جرت تصفيتها. وكما كتب غراهام، فإن هذه الشركات “وفقاً لأفضل تقديرات المحللين في شارع وول ستريت للمال، تعتبر ذات قيمة أعلى وهي ميتة مقارنة مع قيمتها وهي حية”. فإذا كنت من المساهمين في هكذا شركة، فإن ما يدعو للقلق هو أنها سوف تبدد ما تبقّى من أموال نقدية بحوزتها، وسوف تسيء استعمال آلاتها، وستصبح قيمتها في نهاية المطاف أقل مما كانت عليه عندما استثمرت فيها. ولكن عند إقناع الإدارة بضرورة تفكيك الشركة وبيعها، أو على الأقل تقديم توزيعات نقدية سخية، فإنك سوف تحقق بعض العوائد على استثماراتك.

لقد عمل المستثمرون الناشطون على مر السنين، بطبيعة الحال، على توسيع ذخيرتهم. ففي الثمانينيات، كانوا ربما يهدّدون الإدارة بالاستحواذ، ويطلبون من الشركة إعادة شراء أسهمهم مقابل علاوة – كانت الدفعة الناتجة عن هذا الشراء تسمى “البريد الأخضر” (نسبة إلى لون الدولار)، وهي ظاهرة باتت اليوم غير قانونية في عدد من الولايات الأميركية، في حين أنها تخضع إلى ضريبة باهظة تفرضها الحكومة الفبدرالية الأميركية. أما اليوم، فإن المستثمرين الناشطين على الأرجح يدفعون الشركة إلى قبول عرض مقدّم للاستحواذ عليها، أو بيع بعض أقسامها التجارية، أو تحسين عملياتها.

هذا يعني بأنهم يساعدون في قيادة الاستراتيجية، كما يشير غرام. ولكن هل تعتبر أفكارهم جيدة ومفيدة؟ قد يكون مفاجئاً معرفة أن الإجابة عن هذا السؤال على ما يبدو هي “نعم”، على الأقل وفقاً لبعض المقاييس. فقد أظهرت الأبحاث أن المستثمرين الناشطين على ما يبدو يزيدون من المعدل الوسطي لربحية الشركات وإنتاجيتها – ليس فقط خلال الربع المالي التالي، ولكن حتى بعد مرور 3 سنوات على تقديم النصيحة. ورغم أن تدخلهم قد يترافق بتراجع في الإنفاق على عمليات البحث والتطوير، يبدو أن الشركات أصبحت أكثر ابتكاراً في السنوات التالية. فقد توصلت دراسة إلى أن المستثمرين الناشطين غالباً ما يستهدفون الشركات التي لاتزال متأخرة في مجال التقانة والمعلوماتية وبالتالي فهم يساعدونها على اللحاق بركب منافسيها.

لكن فهم التأثير الاجتماعي للمستثمر الناشط لا يزال قاصراً وغير مكتمل. ففي الدراسة السالفة الذكر، توصل الباحثون إلى أن الزيادة في أجور العمال لم تواكب الزيادة في الأرباح والإنتاجية في الشركات المستهدفة. وفي مجتمع يعاني من عدم المساواة وركود في الأجور، تعتبر هذه النتيجة أمراً يدعو إلى القلق العميق. (ومرة أخرى نجد هنا بأن المستثمرين الناشطين لديهم سجل حافل في وضع حد لأجور الرئيس التنفيذي). لكن المثير هنا هو أنه عندما نشر بيت الخبرة “معهد روزفلت” (Roosevelt Institute)، ورقتين ممتازتين حول ظاهرة “الاكتفاء بالنظرة القصيرة الأجل”، وذلك في نوفمبر/تشرين الثاني 2015، لم يذكر المستثمرون الناشطون في هاتين الورقتين ولو لمرة واحدة على الأقل.

يُعتبر أشخاص من أمثال آيكان ولوب في العالم أهدافاً سياسية سهلة المنال، لأنهم يشهرون سيوفهم ويحاربون علناً ويجنون المليارات من خلال دفع الحدود الحالية للاستثمار الناشط إلى مسافات أبعد. كما أن الحملة التي شنّها آيكان مؤخراً ضد شركة “آبل” (Apple) تذكّرنا بأن بعض هجماتهم لا تزال مجرد مطالبة بزيادة توزيعات أرباح الأسهم. ولكن ليس بوسعنا توجيه أصابع اللوم إلى المستثمرين الناشطين كمجموعة، وكأنهم هم المسؤولون عن جميع المشاكل الناشئة عن رأسمالية المساهمين. كما أن تقصير مدة بقاء الرؤساء التنفيذيين في مناصبهم، وتركيز المستثمرين الخامدين على الأرباح الفصلية، هي من الأمور المُلامة أيضاً. إضافة إلى ذلك، فإن التعويضات التي يحصل عليها المدراء التنفيذيون تعتبر مذنبة كذلك، كما بيّن ويليام لازونيك (William Lazonick) في مجلة “هارفارد بزنس ريفيو” عام 2014. فالرؤساء التنفيذيون الذين يحصلون على أجورهم في شكل أسهم لديهم حافز لتعزيز سعر السهم على المدى القصير من خلال برامج إعادة شراء الأسهم، سواء أكان المستثمرون الناشطون هم من يتولّى القيادة أم لا يتولونها.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .