حل مفارقة الإبداع الجماعي

4 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ظل الباحثون يدرسون الإبداع لما يربو عن 150 عاماً، إلا أن مفهومه لا يزال محيّراً. ولا يبدو أننا أقرب كثيراً إلى فهم الأمور التي تقدح شرارة الأفكار المتفردة. ويمكن أن يكون أحد الأسباب الكامنة وراء هذا الافتقار إلى المعرفة بهذا المجال هو أن غالبية الأبحاث تركز على الجوانب الخاطئة بشأنه. فقد كان الإبداع يُدرَس، حتى عهد قريب نسبياً، من افتراض مفاده أنه وظيفة أفراد بعينهم وفق الصفات التي يتحلون بها. وقد تساءل الباحثون: ما الأمر المميز بهؤلاء الأشخاص المحددين، الذي يجعلهم مصدراً لطرح الأفكار المتفردة؟ لكنّ بعض الطلاب الذين يدرسون الإبداع بدؤوا يُدركون في الوقت الحاضر أن هذا التساؤل يتجاهل عوامل أخرى بالغة الأهمية، من شأنها تعزيز أنماط التفكير المستحدثة التي تؤدي إلى أعمال متفردة وإبداعية، أو عرقلتها.

ويُعد أحد الدوافع التي تُحفز الأشخاص في حياتهم المهنية ومساعيهم الشخصية هو الحاجة إلى التميّز، وإلى ترك بصمة على العالم من خلال الإنجازات الشخصية. ويُشير المحلل النفسي أوتو رانك في كتابه “الفن والفنانون” (Art and Artist) إلى أن رغبة الأشخاص في أن يكونوا مبدعين تنبع من حاجتهم إلى الشعور بالخلود، بصورة رمزية على الأقل، وإلى ترك بصمة لا تُمحى لدى الأجيال المستقبلية في شكل الأعمال الفنية التي ينتجونها. وإذا كان ما ذكره أوتو رانك صحيحاً، فإن هذا الدافع إلى التفرد يمكن أن يكون هو الحافز الرئيس لأغلبنا للمضي في طريق الإبداع.

ومن الناحية الأخرى، فإننا معشر البشر بمثابة كتلة من التناقضات، ويوجد دافع آخر ينطوي على إمكانية تقويض تحفيزنا للبحث عن التفرّد، يتمثل في حاجتنا إلى بناء علاقات مع الآخرين. وكما أشار عالم النفس أبراهام ماسلو، فإننا جميعاً نحتاج إلى الانتماء إلى جماعات وإلى الشعور وإلى أن نكون موضع الاهتمام وإلى امتلاك أشياء مشتركة مع الآخرين. ويمكن أن تقل القدرة على التكيف لدى الأشخاص الذين لا يُشبعون هذه الحاجة إلى الانتماء من حيث الثبات الانفعالي، لأن الرابط بين الإبداع واعتلال الصحة النفسية قد أكدته الدراسات، ويمكن أن ينشأ من الشعور الكامن لدى المرء بأنه حالة شاذة.

وعندما نتخذ منحى الانتماء إلى الجماعات، ونحظى بالأمان والشعور بالرفقة اللذين تتيحهما لنا عضوية هذه الجماعات، فإن تشابُهنا مع الآخرين هو العامل البارز هنا. وعندما نتمادى في حاجتنا للكينونة الفردية، مغتنمين الشعور بالتفرد، فإن اختلافنا عن الآخرين هو العامل المهم في هذه الحالة. وكما يُبيّن البحث الذي أجريته، فإن حالة الاختلاف هذه هي ما يساعدنا على استكشاف السبل المعرفية التي لم نسلكها نحن، ولم يسلكها الأشخاص من حولنا في السابق. ويعمل هذان الدافعان الإنسانيان المتأصلان في اتجاهين متعاكسين، إذ إن مفهومنا عن الانتماء إلى جماعة يشجع العمليات المعرفية التي تتشابه مع أعضاء الجماعة الآخرين وتقوّض الحافز للتفكير بصورة متفردة، أي أنه يقوّض الإبداع نفسه.

وتقدم العديد من الدراسات دعماً عملياً لهذا المفهوم النظري. فإننا، عند تعرضنا للصدمات النفسية والضغوط المحتملة، ننجذب إلى البقاء مع الآخرين والتماهي بشكل وثيق داخل الجماعات، على سبيل المثال، عبر رفع العلم الوطني أو الذهاب إلى دار العبادة بشكل أكبر. لكنْ يبدو أن الإبداع ينخفض في ضوء هذه الظروف.

إذاً، ما الذي يمكن أن تفعله للمساعدة في تشجيع التفكير الإبداعي، عندما تكون مديراً لفريق أو عندما تعمل ضمن مجموعة؟

في حالات الفِرق، تعتمد دينامية “الجماعة مقابل الكينونة الفردية” على ما إذا كان الفريق يتحلى بتوجّه جماعي يُتوقع أن تسود فيه مصلحة الجماعة، أو يتحلى بتوجّه فردي يُتوقع فيه أن يسعى الأفراد لتحقيق مصلحتهم الشخصية ومصلحة عائلاتهم المقرّبة. وليس من قبيل المصادفة أن الولايات المتحدة، التي يقال إنها إحدى أكثر البلدان ميلاً إلى الفردية على مستوى العالم، تُعد أيضاً البلد الأكثر إبداعاً من ناحية عدد براءات الاختراع الصادرة والابتكار ومنشورات البحث العلمي. وعلى الأرجح، ستكون المحصلة الناتجة عن عمل الأشخاص ذوي النزعة الفردية في إطار ثقافة ذات نزعة فردية هي تحقيق مستوى عال من الابتكار. لكن على أي حال، دعونا ننظر في حالة الثقافة البرتغالية أو الآسيوية، والاثنتان لهما توجّه جماعي مقارنة بالثقافة السائدة في الولايات المتحدة، مثل حالة شركة برتغالية تابعة لشركة متعددة الجنسيات تعمل في الولايات المتحدة. ومن الشائع أن تنقل الشركة الأم أساليب عملها المؤسسية إلى بيئة شركاتها التابعة، بصفتها مسألة من مسائل السياسة العامة للشركة في بعض الأحيان، وفي أحايين أخرى فقط لأن فريق الإدارة في المقر الرئيس هو الذي وضع هيكل الشركة التابعة وعملياتها. وفي ضوء هذه الظروف، يجد الموظفون الذين ينتمون إلى سكان المنطقة المحلية أنفسهم في بيئة عمل ذات توجّه جماعي في موطنهم، ولكن في مكان عمل ذي توجه فردي. ويصبح من الصعب توقع الانعكاسات المترتبة على الإبداع في ضوء ظروف مثل هذه. وفي حين توجد حاجة إلى إجراء المزيد من الأبحاث لتحديد الكيفية التي تؤثر بها هذه الظروف “المختلطة” على الإبداع، إلا أن من المنطقي الافتراض أن الأشخاص سوف يتأقلمون مع الأعراف الثقافية المختلفة في مختلف الأحوال.

وثمة مثال آخر بشأن كيفية تأثير الدينامية الفردية مقابل الدينامية الجماعية على الإبداع، يتمثل في عملية العصف الذهني. فخلال النصف الثاني من القرن العشرين، اعتمدت الشركات، التي كانت ترغب في تشجيع التفكير الإبداعي، على العصف الذهني، وبناء الفِرق باعتبارهما وسيلتين مهمتين ضمن مجموعة الوسائل التي تستخدمها. إلا أنه في الحالتين، تصبح الجماعة هي الأمر المهم، ولعل ذلك هو سبب عدم تحقيق عملية العصف الذهني للغاية التي أنشئت من أجلها قط. وعندما طرح مدير الإعلانات أليكس أوزبورن مفهوم العصف الذهني في كتابه الصادر في عام 1953 “التخيّل التطبيقي” (Applied Imagination)، كان يتوقع أن يُضاعف العصف الذهني عدد الأفكار التي سوف تتوصل إليها مجموعة من الأشخاص عند التصدي لمشكلة أو تحدٍ. لكنّ العصف الذهني برهن أنه لم يرتقِ إلى مستوى توقعات أليكس بشأنه. وكما بيّنت الأبحاث التي أُجريت فيما بعد، يقلل العصف الذهني عدد الأفكار التي تتوصل إليها الجماعة عند مقارنتها بعدد الأفكار التي يمكن أن يتوصل إليها هؤلاء الأشخاص أنفسهم، كل على حدة.

إذاً، إذا لم يكن بوسعك التعويل على العصف الذهني والعمل الجماعي لاستنباط مزيد من الأفكار الإبداعية، فما الذي يمكنك فعله؟ والإجابة هي أن إحدى سبل تدارك ذلك تتمثل في التأكد من أن الأفراد لديهم حيّز واسع للتأمل والإسهامات. ويمكن أن يعني ذلك، في حالة العصف الذهني، قضاء أعضاء الفريق وقتاً في التوصل إلى أفكار، كل على حدة (وليس بحضور أعضاء الفريق الآخرين). ومن ثَم يُمكن للأشخاص الالتقاء مجدداً لمشاركة أفكارهم ومناقشة أوجه الصلة بين إسهاماتهم وبين المهمة المطروحة، ومن الممكن أن يختلفوا مرة أو أكثر من مرة قبل التوصل إلى أفكار تستند إلى الإسهامات الأولى التي طرحها كل فرد منهم، وتُعتبر هذه القدرة على إيجاد الوقت والحيز الشخصيين، في بيئات العمل اليومي، عاملاً بالغ الأهمية في تشجيع التفكير الإبداعي.

إلا أن الإبداع، حتى عند توفر الحيز والحرية لنجاحه، يمكن أن يكون ظاهرة هشة ومحيرة وتؤثر فيها عوامل مثل أسلوب القيادة والضغوط والثقافة التنظيمية. فمن الأهمية وجود فلسفة مؤسسية يعرف من خلالها الأشخاص أنه لا مشكلة في أن يكون المرء مبدعاً، وينطبق ذلك أيضاً على القيادة التي تعزز فكرة أن الإسهامات الإبداعية للجميع ستؤخذ بعين الاعتبار. وفي ضوء أهمية الابتكار في المؤسسات المعاصرة، ألم يحِن الوقت لنبدأ جميعنا في إيلاء الإبداع المزيد من الاعتبار؟

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .