حان الوقت لمواجهة واقع جديد: حالة سوق الوسائط الإعلامية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

13 دقيقة
shutterstock.com/meandre
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

هذا هو الجزء الثاني من تحليل يتكون من ثلاثة أجزاء لسوق الوسائط الإعلامية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ويمكن الاطلاع على الجزء الأول بالضغط هنا.

سبل المضي قدماً

تختلف ديناميات قطاع الإعلام اليوم اختلافاً جوهرياً عن تلك التي كانت موجودة في عصر ما قبل ظهور شبكة الإنترنت. ويجب على الشركات الإعلامية التي تخلفت عن الركب التحرك الآن وتطوير أنشطتها قبل فوات الأوان. ولم يعُد كافياً تبني المنصات الرقمية من خلال تقديم حلول رقمية أفضل للمستهلكين. إذ إن الأمر الأهم من ذلك هو جعل نماذج الأعمال ملائمة للمستقبل.

القيمة الحقيقية لجودة المحتوى

وأول سؤال يتعلق بالنشاط التجاري يتعين على أي شركة إعلامية اليوم الإجابة عنه هو: هل ينبغي أن يكون مصدر الإيرادات، في الغالب، هو شركات أخرى (مثل المعلنين) أو المستهلكون بشكل مباشر (مثل المشتركين)؟

وللإجابة عن هذا السؤال، من المهم أن نكون صادقين بشأن قيمة محتوى الوسائط الإعلامية، لاسيما “المحتوى الجيد” باهظ الثمن. ولا شك أن المحتوى ذا الجودة المتفردة يُعد مهماً للمستهلكين والمجتمع بشكل عام، ولكن ماذا عن القيمة الحقيقية للمحتوى ذي الجودة المتفردة بالنسبة إلى المعلنين؟ حيث أن المعلنين لا يَودون أن ترتبط أسماؤهم بمحتوى ذي جودة ضعيفة من شأنه تشويه علاماتهم التجارية، فضلاً عن الفوائد التي يجنيها المعلنون من ارتباطهم بالمحتوى ذي الجودة العالية. بيد أنه، بعد بلوغ حد معين من الجودة، تتباطأ الفوائد الإضافية التي يحصل عليها المعلنون، لاسيما أن الجودة تأتي غالباً على حساب الوصول إلى المستهلكين، وهو المقياس الذي يوليه المعلنون الكثير من الاهتمام.

يكمن تعريف جودة محتوى الوسائط دائماً في أعين الملاحِظين. وأنا أفرّق بين المحتوى الجيد والمحتوى غير الجيد بالسؤال عما إذا كان هذا المحتوى يحقق قيمة حقيقية للمستهلكين أو الشركات أو المجتمع بشكل عام. وعلى الأرجح، فإن أبلغ تعبير للمستهلكين عن قيمة المحتوى هو استعدادهم لدفع ثمن المحتوى المذكور لأنه ذو طابع ترفيهي أو لأنه مفيد. وفي حالة الشركات، تتحق القيمة من المحتوى إذا كان من شأنه تحسين الأداء التجاري. وفي حالة المجتمع، يحقق المحتوى قيمة عندما تكون له آثار جانبية إيجابية، على سبيل المثال، من خلال جعل أفراد المجتمع أكثر تعلماً واطلاعاً.

ولذا، فإن القيمة المحققة من ظهور إعلاناتك بجانب محتوى عالي الجودة باهظ الثمن، محدودة. والأمر الأكثر أهمية بالنسبة إلى المعلنين هو الوصول إلى جمهورهم المستهدف على نطاق واسع من خلال الحلول الإعلانية المؤثرة بصورة جلية.

ومن المهم أيضاً أن نكون صادقين بشأن نوع “المحتوى الجيد” الذي يرغب المستهلكون فعلاً في دفع ثمن الحصول عليه، وما يعنيه تحقيق مكاسب مالية على هذا المحتوى مباشرة من المستهلكين. ولا تقتصر أهمية هذا الأمر فحسب على أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كانت تواجه، في العادة، صعوبات في تحقيق الوسائط الإعلامية مكاسب مالية عن طريق الاشتراكات، بل تعزى أهميته أيضاً إلى المنافسة الضارية التي أصبح عليها سوق الاشتراكات. ويصبح من الأهمية بمكان، في مثل هذه البيئة، تقديم منتج متفرد، وأن تكون أفضل من الآخرين في اكتساب العملاء والاحتفاظ بهم. وما فتئت صحيفة “نيويورك تايمز”، على سبيل المثال، تأخذ هذا الأمر على محمل الجد في الآونة الأخيرة، وأثبتت أن حدوث تحول في الأعمال التجارية أمر ممكن، حتى بالنسبة إلى إحدى أقدم الصحف في العالم.

إساءة تفسير مبدأ باريتو

وثمة حقيقة أخرى مهمة ينبغي لجميع العاملين في سلسلة التوريد لمجال الوسائط الإعلامية والإعلانية أخذها بعين الاعتبار. وهي تتعلق بالعالِم الاقتصادي الذي عاش في القرن التاسع عشر، فيلفريدو باريتو، وبإساءة تفسير مبدأ الأعمال الذي سُمي باسمه.

حيث ينص مبدأ باريتو (المعروف أيضاً باسم قاعدة 80/20 أو قانون القلة الحيوية)، على أن حوالي 80% من التأثيرات، بالنسبة إلى العديد من الأحداث، مصدرها 20% من الأسباب. وقد أدى هذا المبدأ إلى اعتقاد واسع النطاق في صناعة الإعلانات بأن الظفر بعدد قليل من العلامات التجارية الكبرى هو مفتاح النجاح. وعلى الرغم من أن الظفر بكبار العملاء قد كان أمراً ناجحاً في عصر ما قبل الإنترنت، الذي كان فيه عدد العملاء المحتملين محدوداً، إلا أنه لم يعد كافياً في عالم يعج بملايين الزبائن المحتملين.

بيد أن غالبية الشركات الإعلامية والوكالات القائمة على الإعلانات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تركز بشكل أساسي على الحلول المقدمة للعلامات التجارية الكبرى. وهي بهذا تهمل سوق الشركات الصغيرة والمتوسطة الضخم، الذي يُعد أيضاً أحد أسرع القطاعات نمواً في سوق الإعلانات، والذي تقتصر المنافسة فيه تقريباً على شركتي “جوجل و”فيسبوك”.

حان الوقت لتبني نماذج أعمال جديدة

أهملت العديد من الشركات الإعلامية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نماذج أعمالها لفترة طويلة للغاية، ويتعين عليها أن تتحرك الآن في هذا الشأن.

جهات النشر المتخصصة

ينبغي لجهات النشر المتخصصة، بما فيها المؤسسات التي تقدم الأخبار المحلية، التوقف عن إنشاء محتوى عام مفتعل الغرض منه دعم نموذج أعمال قائم على الإعلانات وعلى الرصيد من المحتوى. إذ يمتلك المعلنون في الوقت الحاضر بدائل أفضل، كما أن المستهلكين ليسوا على استعداد للدفع من أجل الحصول على محتوى عام.

وينبغي لجهات النشر هذه، بالأحرى، استثمار الأموال التي توفرها عن طريق التخلص من الوظائف التي عفا عليها الزمن، في القدرات التي تهم شركات المستندة إلى الاشتراكات، والمتمثلة في المحتوى المتفرد حقاً الذي يرغب الزبائن في دفع ثمن الحصول عليه، فضلاً عن الخبرة في الحصول على الزبائن والاحتفاظ بهم.

وتتمثل الميزة الرئيسة لهذا النموذج في أن السوق المستهدفة للمحتوى المتفرد تصبح عالمية بدلاً من أن تكون مقيدة بدولة أو منطقة. وخير مثال على ذلك هو النشرة الإخبارية “ستراتشري” (Stratechery)، التي يكتبها بن طمسون، والتي أشرت إليها سابقاً. إذ إن في جعبة نشرة “ستراتشري” مشتركين في أكثر من 85 دولة يدفعون 10 دولارات شهرياً مقابل ثلاثة مقالات في الأسبوع يكتبها شخص واحد مقيم في تايوان. وأنا واحد من المشتركين في هذه النشرة الإخبارية، وقد ألهمتني نشرة “ستراتشري” الكثير من الأفكار (بما فيها الأفكار التي دفعتني لكتابة هذا المقال).

وإذا كان ثمة مجال لصحافة ذات جودة وتُدر أرباحاً من شركة صغيرة الحجم مثل “ستراتشري”، فبالضرورة أن يوجد مجال لمزيد من المحتوى الجيد من دول صغيرة مثل البحرين أو الكويت. وفي الواقع، ينبغي أن تتيح الاشتراكات في عصر الإنترنت التنوع الصحفي الذي تستحقه منطقة متنوعة مثل منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بل والذي لا يمكن لنماذج الأعمال القائمة على الإعلانات، التي تركز بصورة أساسية على أكبر الأسواق (السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر)، أن تستمر فيه.

جهات النشر ذات النطاق الواسع

يمكن لجهات النشر ذات النطاق الواسع بالقدر الكافي التركيز على نموذج أعمال قائم على الإعلانات، بيد أنه يتعين عليها أن تكون واقعية بشأن التوقعات المتعلقة بتحقيق المكاسب المالية وبنية التكاليف.

وقد ذكرنا سابقاً أن نطاق وصول الإعلانات وقوالبها وتوجيهها ونظم قياسها هي العوامل الرئيسة التي يهتم بها المعلنون. وتتخلف معظم جهات النشر في المنطقة عن الركب في هذه المجالات، كما أن تطوير أفضل أنواع الحلول على الصعيد الداخلي يعد باهظ التكلفة دون نطاق واسع. وهنا يأتي دور الشراكات والحلول التي تقدمها جهات أخرى. إذ تقوم شركة “دي إم إس”، وهي الذراع الرقمي لشركة “الشويري غروب”، على سبيل المثال، بتجميع قوائم جهات النشر لبلوغ النطاق المطلوب، وقد استثمرت الشركة في القدرات المتعلقة بتوجيه الإعلانات وقياسها. كما توفر شركات “جوجل” و”فيسبوك” و”تويتر” حلولاً لجهات النشر للاستفادة من القدرات المتعلقة بتوجيه الإعلانات والطلب المقدّر على الإعلانات من جانب الشركات الصغيرة والمتوسطة.

لنأخذ حالة موقع “فيسبوك”، على سبيل المثال. إذ يوجد أكثر من 90 مليون شركة صغيرة وأكثر من 7 ملايين معلن نشط على موقع فيسبوك في الوقت الحالي.

ومن المؤسف أن عائدات الإعلانات التي تحققها العديد من جهات النشر في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا عبر الحلول الخاصة بها أو الحلول التي تقدمها الجهات الخارجية ليست مرتفعة بما يكفي لدعم أنشطتها التجارية. وإذا كان هذا هو الحال، فقد حان الوقت لمواجهة حقيقة مرة، وهي أنه إما خفض التكاليف بالقدر الذي يكفي لجعل نموذج العمل ناجعاً، أو أن نموذج العمل القائم على الإعلانات كان، منذ البداية، نهجاً خاطئاً لشركة بهذا الحجم وببنية التكاليف هذه.

المبدعون

وينطبق المنطق نفسه على “المبدعين” (الذين يُعرفون بالمؤثرين) أيضاً. إذ يمتلك المبدعون ميزة أن مؤسساتهم غالباً ما تكون صغيرة الحجم للغاية، وأن التأييد الذي يُظهرونه يمكن أن يؤثر على الانطباع عن العلامة التجارية وعلى سلوك الشراء أكثر من العوامل الظرفية الأخرى. بيد أنه، مع اعتياد المستهلكين على حقيقة أن التسويق عبر المؤثرين فعلياً هو الإعلان، ومع بدء العملاء في المطالبة بمزيد من الشفافية، فإن الأمور التي تهُم جهات النشر التي تحصل على التمويل من الإعلانات، ستكون بذات الأهمية للمؤثرين أيضاً، وهي: نطاق وصول الإعلانات وتوجيهها وقوالبها وقياسها. وبالتالي، يتعين على المبدعين الذين يفتقرون إلى هذه القدرة إما تطويرها بأنفسهم أو العمل مع الشركات الأخرى التي يمكنها توفيرها لهم.

ويتمتع المبدعون الناجحون بميزة أخرى على العديد من جهات النشر التقليدية، وهي ميزة تحقيق المكاسب المالية. ففي نظر المستهلكين، فإن محتواهم متفرد وكذلك علاماتهم التجارية، ما يتيح للمؤثرين تحقيق تدفقات إيرادات من نماذج العمل القائمة على العلاقة المباشرة مع المستهلكين (D2C). وقد توسعت شركة “هدى بيوتي” (Huda Beauty)، وهي شركة تتبع نموذج العمل القائم على العلاقة المباشرة مع المستهلكين، لتشمل أكثر من 200 منتج عبر خمس فئات، وهي مثال رائع على الفرص العالمية المتاحة للمبدعين الناجحين من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الوقت الحاضر. وتدرك شركات التواصل الاجتماعي أهمية المؤثرين لمنصاتها ولا يسعها سوى محاولة دعم هذه الجهود بشكل أكبر. وينبغي لجهات النشر المتخصصة وذات النطاق الواسع متابعة هذه التطورات عن كثب واستكشاف ما إذا كان ثمة مجال لتحقيق تدفقات إيرادات جديدة من نماذج العمل القائمة على العلاقة المباشرة مع المستهلكين أيضاً.

قدمت كل من شركات “يوتيوب” و”إنستغرام” و”تيك توك”، في هذا العام، منتجات تحقيق المكاسب المالية القائمة على العلاقة المباشرة مع المستهلكين (بدءاً من العضوية والتسويق إلى الدفع مقابل التعليقات).

القنوات التلفزيونية التي تعتمد على الإعلانات

يتعين على القنوات التلفزيونية في المنطقة، على غرار جهات النشر ذات النطاق الواسع، إدراك أن المستهلكين يهتمون بشدة بتجربة المستخدم وأن المعلنين يهتمون بشكل كبير بالنتائج. ويعني هذا أن القنوات التلفزيونية التقليدية بصفتها القيمة المقدمة للمستهلكين، وأن الإعلانات باعتبارها نموذج الإيرادات الأساسي على الأرجح لا يمثلان النهج الصحيح للمستقبل.

وقد حاولت شركات التلفاز والوكالات الإعلانية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا معالجة بعض أوجه القصور خلال السنوات الماضية، حيث أطلقت مجموعة قنوات “إم بي سي”، على سبيل المثال، قنوات لبلدان شمال أفريقيا، كل على حدة، وهو ما أتاح لها تحسين توجيه المواد الإعلامية وخلق فرص جديدة لتحقيق إيرادات من المعلنين المهتمين بدولة معينة فحسب. بيد أنه سيكون من الصعب للغاية على القنوات التلفزيونية التقليدية، بسبب مساوئها الهيكلية، اللحاق بالمستوى الذي بلغته الشركات الإعلامية الرقمية فيما يتعلق بتوجيه الإعلانات وقياسها وفيما يتعلق بتجربة المستخدم.

ماذا، إذن، عن آفاق مواد الفيديو الإعلانية المتوفرة عند الطلب (AVOD)؟ إذ إنها يمكن أن توفر الأمان للعلامة التجارية والرصيد المتميز من الإعلانات وقوالب الإعلانات القوية وفي الوقت نفسه حل العديد من المشكلات المتعلقة بتجربة المستخدم وإضفاء الطابع الشخصي وتوجيه الإعلانات وقياسها. والسؤال المطروح هنا هو: ألا ينبغي أن تكون مواد الفيديو الإعلانية المتوفرة عند الطلب هذه خياراً جاذباً للمستهلكين والمعلنين على حد سواء؟ والإجابة المختصرة هي أنها توفر بالفعل بديلاً جاذباً للمعلنين وللعديد من العائلات ذات الدخل المنخفض والمتوسط في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي لا تستطيع تحمل تكاليف الاشتراكات الباهظة. بيد أن الأمر لا يخلو من محاذير مهمة ينبغي التطرق إليها. إذ إن مواد الفيديو الإعلانية المتوفرة عند الطلب لا تغيّر حقيقة أن المعلنين يولون قدراً أقل من الاهتمام للمحتوى مقارنة باهتمامهم بالنتائج. وفي عالم تحدد فيه شركات تجميع المعلومات أسعار الإعلانات، وتحقق هذه الشركات نتائج طيبة للمعلنين وبتكاليف منخفضة للمحتوى، سيتعين على مقدمي مواد الفيديو الإعلانية المتوفرة عند الطلب تقديم تنازلات على الأرباح التي يحققونها أو على تكاليف المحتوى الذي يقدمونه وعلى جودته.

القنوات التلفزيونية التي تعتمد على المستهلكبن

بالنسبة إلى القنوات التلفزيونية التي تقدم محتوى عالي الجودة، لاسيما المحتوى الترفيهي المرتكز على القصص بتكاليف محتوى مجدية، يبدو أن تحقيق مكاسب مالية عبر المستهلكين يمثل نهجاً أفضل، إما بأن تصبح هذه القنوات إحدى أفضل الشركات الإعلامية القائمة على الاشتراك في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أو عن طريق إنشاء محتوى يساعد الشركات الكبرى على تمييز العروض التي تقدمها عن عروض الشركات الأخرى. ومن الأمور المشجعة رؤية أن مجموعة قنوات “إم بي سي”، التي كانت تعتمد في العادة على الإعلانات، ما فتئت تُضاعف في الآونة الأخيرة كلاً من الاشتراكات والمحتوى المحلي المتميز على حد سواء.

ووفق تحليل حديث، من المتوقع أن ترتفع إيرادات مواد الفيديو بالاشتراك المتوفرة عند الطلب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (باستثناء تركيا وإسرائيل) من حوالي 300 مليون دولار في عام 2018 إلى 1.2 مليار دولار في عام 2024. وينبغي أن تزداد إمكانية السيطرة على القرصنة في نهاية المطاف، لاسيما وأن العروض التي تقدمها مواد الفيديو بالاشتراك المتوفرة عند الطلب بدأت في تقديم مزايا وسائل الراحة الحقيقية أكثر من الحلول المقرصنة. وفي حين أن 300 مليون دولار و1.2 مليار دولار لا تزال مبالغ قليلة نسبياً، إلا أنها تعد جزءاً من سوق الوسائط الإعلامية ذات المستقبل الواعد.

ومن حسن الحظ أن تحقيق مكاسب مالية من المستهلكين لا يعني أن الاشتراكات هي مصدر الإيرادات الوحيد الذي يُعتمد عليه. إذ إنه بالنسبة إلى القنوات التلفزيونية المرتكزة على القصص، فإن تحقيق المكاسب المالية عن طريق حقوق الشخصيات والمبيعات على متجر التطبيقات “آي تيونز” ومدن الملاهي والسلع يجب أن يؤدي دوراً كبيراً أيضاً. وأعتقد أن هذا ساهم مساهمة بارزة في قرار شركة “ديزني” باستحداث خدمة الاشتراك الخاصة بها وتحديد سعر لها أقل مما كان يتوقعه الكثيرون. وبالنسبة إلى شركة “ديزني”، فإن تحكّمها في الترويج لممتلكاتها الرئيسة وفي عرضها (وهو أمر لم يكن ممكناً على شركة “نتفليكس”)، وبالتالي التحكم في مصير الإيرادات المحققة من نماذج العمل القائمة على العلاقة المباشرة مع المستهلكين وغير المستندة إلى الاشتراكات، كان يحظى بالأهمية نفسها التي تحظى بها الإيرادات المحققة من مبيعات المحتوى والاشتراكات.

حالة البث التلفزيوني المباشر والرياضة

يعتبر كل من البث التلفزيوني المباشر والرياضة هما الحالتان الوحيدتان في استخدامات جمهور التلفاز “التقليدي” اللتان لم تجد لهما شركات تجميع المعلومات حلاً حتى الآن.

وغالباً ما تكون حقوق بث الرياضة والبث التلفزيوني المباشر حصرية ومكلفة للغاية ومن غير المرجح أن يكون بمقدور شركات تجميع المعلومات استرداد تكاليفها من خلال الإعلانات وحدها. إذ تجعل حصرية المحتوى إلى جانب القبول الجماهيري له الجمع بين تحقيق الإيرادات عبر برامج شركاء التسويق أو الاشتراكات والإعلانات حلاً تجارياً عملياً. ولهذا السبب، لم يكن من المفاجئ حصول شركة “أبوظبي للإعلام” مؤخراً على الحقوق الحصرية لبث مباريات الفنون القتالية المختلطة “يو إف سي” (UFC) في المنطقة، وكذلك شراء مجموعة قنوات “إم بي سي” الحقوق الحصرية لبث سباقات “فورمولا 1” (F1) في المنطقة للسنوات الخمس القادمة. وهذا المحتوى متفرد وجاذب للغاية، بيد أن إتاحة سباقات “فورومولا 1” على القنوات التلفزيونية المجانية بدلاً من محاولة استخدامه لاستحداث اشتراكات وبرامج لشركاء التسويق وأنشطة تجارية مرتبطة بالفعاليات، بصورة دائمة، والاعتماد على تحقيق الإيرادات من الإعلانات فحسب، سيكون أمراً خاطئاً حسب رأيي المتواضع. وعلى الرغم من أن القرصنة تمثل تحدياً حقيقياً في الوقت الحاضر، إلا أنها من المأمول أن تصبح مشكلة أقل شأناً في عالم يتجه نحو حلول بث المحتوى عبر شبكة الإنترنت. وتبدو حقيقة أن المحتوى المتفرد والمكلف ينطوي على تحقيق قيمة للمستهلكين أكبر من التي يحققها للمعلنين، من ناحية أخرى، حقيقة يتعذر تغييرها.

أشكال الوسائط الإعلامية الأخرى

على الرغم من أن النشر والقنوات التلفزيونية لا يمثلان سوى نوعين فحسب من أنواع الوسائط الإعلامية المتعددة، إلا أن منطق نموذج العمل الأساسي والاتجاهات السائدة هي نفسها بالنسبة إلى أشكال الوسائط الإعلامية الأخرى.

ففي مجال الوسائط الإعلامية المسموعة، على سبيل المثال، يتعين على المحطات الإذاعية التقليدية الآن التنافس مع شركات تجميع المعلومات مثل شركة “أنغامي” (Anghami) وشركة “سبوتيفاي” (Spotify) وشركة “يوتيوب”، وذلك على الرغم من أن سوق المحتوى الموسيقى يختلف بشكل ملحوظ عن أشكال الوسائط الأخرى؛ إذ يسيطر عدد قليل من الشركات على المعروض من المحتوى الموسيقي فيه. ويعني هذا أن شركات تجميع المعلومات لديها سلطة أقل في هذه السوق على المعروض من المحتوى وتتكبد تكاليف هامشية أعلى في شكل مدفوعات هامشية لشركات التسجيلات الموسيقية.

وهذا ما يفسر أيضاً سبب دخول شركات تجميع المعلومات الرائدة مثل شركتي “أنغامي” و”سبوتيفاي” بقوة في سوق المدونات الصوتية (Podcasts). ولا تقتصر خصائص سوق المدونات الصوتية على أنه يقدم خدمات مثلما تفعل شركتا “أنغامي” و”سبوتيفاي” بمحتوى حصري ومتميز فحسب، بل كذلك أنه يسيطر عليه إلى حد كبير المدونون الصوتيون من الأفراد. ومن شأن هذا تحسين القدرة التفاوضية لشركات تجميع المعلومات وتحسين اقتصاديات الأعمال والقدرة على تحقيق مكاسب مالية على إجمالي المعروض من المحتوى الصوتي من خلال الاشتراكات والإعلانات.

وتقع على عاتق جميع الشركات الإعلامية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مسؤولية تكييف نماذج أعمالها مع القواعد الجديدة للمنافسة. إذ إن المستقبل سيكون أكثر إشراقاً مما قد يبدو عليه، إذا أحسنت هذه الشركات القيام بذلك.

نماذج الأعمال  في مجال التعامل بين الشركات

تتعلق معظم توصياتي بشأن الشركات الإعلامية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حتى الآن، بالشركات ذات العلاقة المباشرة مع المستهلكين. لكن توجد العديد من نماذج الأعمال في مجال التعامل بين الشركات، التي تؤدي دوراً مهماً في بيئة العمل المتكاملة للوسائط الإعلامية. والبعض من هذه النماذج آخذ في التطور ليظل مواكباً (على سبيل المثال، نموذج أعمال الوكالات)، بينما ما يزال البعض منها في مراحله الأولى وينطوي على الكثير من الإمكانات غير المستغلة.

ولاستخلاص تشبيه تمثيلي لنموذج العمل الأخير من عالم التجارة؛ فإن أكبر منافس للفلسفة التجارية لشركة “أمازون” ليس هو شركة “وول مارت” (Walmart) أو شركة “علي بابا” (Alibaba)، بل هو شركة “شوبيفاي” (Shopify). إذ إن شركة “شوبيفاي” تستفيد من وفورات الحجم التي تستمدها من خدمة أكثر من 800 ألف شركة لتوفر للعلامات التجارية المتميزة للغاية أدوات وبنية تحتية فعالة من حيث التكلفة تجعل النهج المتخصص القائم على العلاقة المباشرة مع المستهلكين (الذي يتجنب التنافس مع شركات مثل شركة أمازون) قابلاً للتطبيق. وفي المقابل، تمكنت شركة “شوبيفاي” من بناء عمل تجاري تبلغ قيمته ما يقرب من 40 مليار دولار (بتأريخ 11 سبتمبر/ أيلول من عام 2019).

وينبغي أن يتيح هذا النموذج التمكيني الذي لا يحمل طابعاً مميزاً الكثير من الفرص غير المستغلة في سوق الوسائط الإعلامية القائمة على العلاقة المباشرة مع المستهلكين أيضاً. ويُعد الاستثمار الأخير لشركة “أيه 16 زد” (A16Z)، وهي إحدى شركات رأس المال المغامر (أو شركات رأس المال الجريء)، في شركة “سابستاك” (Substack)، وهي شركة تهدف إلى مساعدة الكتّاب في نشر النشرات الإخبارية وفي تحقيق مكاسب مالية لهم عن طريق الاشتراكات، دليل على ذلك.

مسؤولية شركات تجميع المعلومات

وماذا بشأن شركات تجميع المعلومات، إذن، وهي الشركات التي حُظيت بأكبر قدر من اهتمام المستهلكين ومن هوامش الربح في هذا العصر؟ ألا تقع على عاتق هذه الشركات مسؤولية تحقيق قدر أكبر من المساواة ودعم الأشكال الأخرى من الوسائط الإعلامية؟

وعلى غرار الرابحين في السابق من المحطات التلفزيونية والصحف والوكالات الإعلانية الرائدة، لا تقع على الشركات الرابحة في العصر الحالي مسؤولية تصميم سوق تنافسية أو عادلة، في حد ذاتها. إذ إن هذا الدور يقع على عاتق الحكومة (المزيد بشأن ذلك في الجزء الثالث من هذا التحليل). بيد أنه تقع على عاتق هذه الشركات مسؤولية الالتزام بالقواعد والتصرف بحسن نية في حالة عدم وجود قواعد بعد. ويعني هذا ما يلي:

  • كبح جماح السلوك المُخل بالمنافسة.
  • الحد من “التماس المنفعة الشخصية” عند تقاسم الإيرادات مع شركات إعلامية أخرى. ويحدث “التماس المنفعة الشخصية”، في هذا السياق، عندما تحاول شركة ما الاستفادة من مواردها أو مكانتها في السوق للحصول على مكاسب مالية دون وجه حق من طرف ثالث دون أن تخلق ثروة إضافية للمجتمع.
  • الحفاظ على أمن بيانات المستهلكين وتوفير الشفافية (وتوفير تعدد الخيارات قدر المستطاع) بشأن استخدام البيانات.
  • أن تدفع هذه الشركات نصيبها العادل من الضرائب في البلدان التي تعمل فيها (وهي، بالمناسبة، مسؤولية تقع بالمثل على عاتق جميع الشركات متعددة الجنسيات وليس فقط على عاتق شركات التقنية).

ويعني هذا أيضاً أن شركات التقنية يجب أن تفكر في العوامل الخارجية السلبية المحتملة (مثل احتمال قيام جهات فاعلة سيئة بحملات التضليل) أكثر مما كانت تفعل في الماضي. وتحقق الوسائل الجديدة التي تيسّرها شبكة الإنترنت للتواصل وتوزيع الوسائط الإعلامية واستهلاك خدماتها، فوائد مذهلة للمجتمع. ويمكن القول إن الفوائد التي تعود على المستهلكين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أعلى من الفوائد التي يجنيها المستهلكون في الولايات المتحدة أو أوروبا. بيد أنه يمكن أن يكون للأشكال الجديدة من الاتصالات والوسائط الإعلامية عواقب وخيمة لا تؤخذ في الاعتبار في الأسواق الخاصة ولم تضع لها الحكومات قواعد بعد. وتقع على عاتق الشركات الرائدة في مجالَي التقنية والإعلام مسؤولية خاصة عن التفكير في الكثير من الاستخدامات السلبية هذه لكي تتسنى مضاعفة المنافع التي  تجلبها التقنية وتقليل المضار المحتملة الناجمة عنها.

الآثار الخارجية السلبية هي آثار سلبية على المجتمع لا تحظى بالاعتبار الكافي في الأسواق الخاصة. ومن الأمثلة على ذلك التأثير السلبي الذي يمكن أن يُحدثه التدخين على الأشخاص من حولك.

ولا تقع مسؤولية إنشاء بيئة عمل متكاملة سليمة للوسائط الإعلامية بالكامل على عاتق القطاع الخاص. إذ إن للحكومات دوراً مهماً تؤديه، وهو ما سنشرح المزيد بشأنه في الجزء الثالث من هذا التحليل.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .