فرضت الظروف خلال السنوات الثلاث الماضية تحديات كبيرة على القيادة، إذ كشف عجز العديد من القادة عن الارتقاء إلى مستوى الحدث أن أزمة المواهب التي اعتقدت المؤسسات أنها تعاني منها قبل الجائحة هي أسوأ مما كانت تتصوره في الواقع.

أظهر البحث الذي أجريناه في المراحل الأولى من تفشي فيروس كورونا أن القادة ذوي القدرات المحدودة النطاق تعرضوا لضغط شديد بسبب صعوبة توجيه مؤسساتهم وموظفيهم لتجاوز التغييرات المفاجئة وغير المسبوقة التي رافقت الجائحة. بالمقابل، تمتع القادة ذوو القدرات الأوسع والأكثر تنوعاً بفعالية أكبر في مساعدة مؤسساتهم وموظفيهم في إعادة تجميع صفوفهم واستعادة التركيز ومواصلة الإنتاج على الرغم من الاضطرابات.

تشير البيانات التي تم جمعها منذ السنة الأولى للجائحة، التي اتسمت بموجات من الاضطرابات الاجتماعية والتحديات الاقتصادية، وبتغيرات رئيسية في مكان العمل وسلوك الموظفين، إلى أن تنوع القدرات اكتسب أهمية أكبر من ذي قبل على اعتباره من مكونات القيادة الفعالة. ازدادت قوة العلاقات الترابطية بين تنوع القدرات القيادية ونتائج القيادة المختلفة، مثل اندماج الموظفين ومرونة الفريق وإنتاجية وحدة العمل والفعالية الإجمالية.

في الواقع، وخلال السنوات الـ 26 التي درسنا فيها القيادة المتنوعة القدرات اعتماداً على تقييمات زملاء العمل وعلى أداة تقييم متعددة المصادر تُدعى “مؤشر تنوع القدرات القيادية“، اتضح أن أهميتها زادت بمرور الوقت. مثّل تنوع القدرات ما يزيد قليلاً عن ثلث التباين في فعالية القيادة منذ أواخر التسعينيات وحتى منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بينما ارتفعت هذه النسبة إلى النصف في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وفي السنة الأولى من الجائحة، زادت هذه النسبة إلى الثلثين تقريباً ثم انخفضت بشكل طفيف منذئذ ولكنها بقيت أعلى من مستويات ما قبل الجائحة.

بات العالم اليوم أكثر عرضة للتقلبات، لذلك أصبحت القيادة المتنوعة القدرات عاملاً حاسماً يميز المؤسسات التي تزدهر من التي تصمد بالكاد، أو التي تفشل تماماً.

تعريف تنوع القدرات

نعتقد أن تنوع القدرات هو المهارة الأساسية للقيادة في ظل عالم الـ “فوكا” (VUCA)، أو العالم الذي يتسم بالتقلب وعدم اليقين والتعقيد والغموض، ونعرّف تنوع القدرات على أنه القدرة على قراءة التغييرات والاستجابة لها من خلال مجموعة واسعة من المهارات والسلوكيات التكميلية. على سبيل المثال، يجب أن يكون القادة قادرين على تحمل المسؤولية ومعالجة القضايا الشائكة واتخاذ القرارات الصعبة في بعض الظروف، بينما يجب عليهم تمكين الموظفين ودعمهم وإشراكهم في ظروف أخرى. وبالمثل، يتعين على القادة في بعض الأحيان التركيز على التوجهات الاستراتيجية المستقبلية لمؤسساتهم، وفي أحيان أخرى يتعين عليهم التركيز على العمليات اليومية والتنفيذ.

تجدر الإشارة إلى أن سلوكيات القيادة هذه عند اقترانها تشبه مفهوم “ين ويانغ” (Yin and Yang) في علم الطاقة؛ أي أنها متعارضة ولكنها تُكمّل بعضها بعضاً: توفر السلوكيات القوية والتمكينية مزيجاً متوازناً من السلوكيات الشخصية التي تؤثر في الآخرين، وبالمثل، توفر السلوكيات الاستراتيجية والتشغيلية النطاق المطلوب لمعالجة مجموعة متنوعة من القضايا التنظيمية. لا يكفي أي من النهجين وحده، بل يحتاج إلى نهج آخر يكمله.

يتمتع القائد المتنوع القدرات بالقدرة على التبديل بين السلوكيات المتعارضة بسهولة، ويمكنه تولي المسؤولية واتخاذ القرار بالسهولة نفسها التي يجمع بها الآخرين لصنع قرارات جماعية. ويمكنه فهم الحالة المزاجية للآخرين ومواقفهم وتعديل سلوكه وفقاً لها، بدءاً من طرح الأسئلة والاستماع بعقلية منفتحة وصولاً إلى إقناع الآخرين بفكرة أو وجهة نظر لا تحظى بقبول الآخرين مرة أخرى. ولديه القدرة أيضاً على تصور التغيير من منظور الصورة الشاملة والتركيز على التفاصيل التكتيكية لتنفيذه، كما يمكنه فهم التغييرات في مشهد الأعمال والتخطيط لها بشكل استباقي والتحضير للخطوة التالية بسرعة وبدقة.

تنوع القدرات نادر

من المؤسف ألا نجد قائداً متنوع القدرات إلا نادراً، قيّمنا أكثر من 24 ألفاً من كبار المدراء عبر مجموعة متنوعة من القطاعات على مستوى العالم منذ عام 2013 باستخدام مؤشر القيادة المتنوعة القدرات المتعدد المصادر. استناداً إلى التقييمات الواردة من زملائهم في العمل حول سلوكهم، فإن أقل من 10% من هؤلاء القادة يبرع في الموازنة بين القيادة القوية والتمكينية والموازنة بين القيادة الاستراتيجية والتشغيلية. يميل معظم المسؤولين التنفيذيين إلى إجادة مجموعة واحدة من السلوكيات في كل زوج منها، وبالتالي يميلون إلى الإفراط في الاعتماد عليها على حساب السلوكيات التكميلية. ونتيجة لذلك، تصبح مواطن قوتهم نقاط ضعفهم، ما يخلق قصر نظر في رؤيتهم ويحد من تنوع قيادتهم.

يفرط المزيد من القادة في الاعتماد على سلوكيات القوة أكثر من السلوكيات التمكينية، ويعتمد الكثيرون على السلوكيات التشغيلية ويهملون السلوكيات الاستراتيجية. يوضح الجدول أدناه نسبة القادة الذين يتمتعون بمجموعات مختلفة من مواطن القوة النسبية في هذه السلوكيات القيادية الأربعة بناء على بيانات العقد الماضي. كان النمط التشغيلي -القوي هو الأكثر شيوعاً، بينما كان النمط التمكيني- الاستراتيجي الأقل شيوعاً؛ أقل شيوعاً بقليل من القادة المتنوعي القدرات الذين يوازنون بين استخدامهم للسلوكيات القوية والتمكينية بالإضافة إلى الموازنة بين السلوكيات الاستراتيجية والتشغيلية.

الشخصية والقيادة وتنوع القدرات

تشير الأبحاث حول الروابط بين الشخصية وسلوك القائد إلى أن تنوع القدرات هو إلى حد كبير قدرة مكتسبة يمكن تعلمها. قد يبدو البحث للوهلة الأولى متناقضاً لأن الشخصية ترتبط بشكل وثيق بسلوكيات القيادة بطرق يمكن توقعها. على سبيل المثال، يتنبأ مقياس الطموح في اختبار هوغان للشخصية (Hogan Personality Inventory) بتقييمات زملاء العمل للسلوكيات القوية، ويتنبأ مقياس الحساسية الشخصية بالسلوكيات التمكينية، بينما يتنبأ مقياس الفضول بالسلوك الاستراتيجي ومقياس الاحتراز بالسلوك التشغيلي، وتشير الدرجات العالية في هذه المقاييس إلى أن القادة سيفرطون في استخدام سلوك معين. تشير الارتباطات الإحصائية القوية إلى أن معظم القادة يتصرفون بطرق تعكس ميولهم الفطرية.

لنأخذ على سبيل المثال الملفات التعريفية الشخصية لـ 1,655 من كبار المدراء الذين يبدون أنماطاً مختلفة من السلوك القيادي، إذ تم تقييمها على مدار السنوات الـ 5 الماضية باستخدام اختبار هوغان للشخصية وفقاً لتقييم زملائهم في العمل لهم. من بين نوعي القادة الذين يبدون سلوك القيادة القوية، يبدي القادة الذين يركزون على السلوكيات التشغيلية على حساب السلوكيات الاستراتيجية درجة أعلى من الاحتراز، ولكن درجتهم كانت أقل في الفضول ونهج التعلم والتواصل الاجتماعي، وخاصة الحساسية الشخصية. يتسم من يبدون السلوكيات القوية التشغيلية بأنهم تقليديون وعمليون أكثر واجتماعيون بدرجة أقل وعنيدون، بينما يتحدى من يبدون السلوكيات القوية الاستراتيجية التقاليد وهم أكثر إبداعاً وذكاءً وانخراطاً اجتماعياً.

من بين نوعي القادة التمكينيين، يتمتعون القادة الذين يركزون على السلوكيات التشغيلية على حساب السلوكيات الإستراتيجية بدرجات أعلى في الاحتراز وأقل في الفضول، لكن درجاتهم هي الأدنى على الإطلاق في التواصل الاجتماعي والطموح مقارنة ببقية القادة. يتسم القادة التمكينيون التشغيليون بأنهم تقليديون وعمليون أكثر من التمكينيين الاستراتيجيين، ولكن أكثر ما يميزهم هو أنهم يبتعدون عن الآخرين أكثر ولا تحفزهم المنافسة بالقدر نفسه.

ومع ذلك، فإن الجزء المتناقض يكمن في أن الشخصية، وعلى عكس السلوكيات المحددة، ليست مؤشراً قوياً على مجموعة السلوكيات التي تحدد تنوع القدرات. كان ارتباط تنوع القدرات مع نهج التعلم هو الأقوى، لكنه لا يميز القادة المتنوعي القدرات عن غيرهم، أي ببساطة لا توجد سمة شخصية واحدة تتماشى مع القيادة المتنوعة القدرات.

عندما نفحص النسبة الصغيرة من المسؤولين التنفيذيين المتنوعي القدرات بالفعل، نجد أن شخصياتهم تتنوع بدرجة كبيرة، ولكنهم يشتركون بخصائص أخرى مثل التاريخ المهني الذي يتميز بشغل مجموعة متنوعة من الوظائف وتجارب العمل التي تطلبت اكتساب مهارات التعلم والسلوكيات التي لم يتمتعوا بها بطبيعتهم. تنقل هؤلاء القادة ذهاباً وإياباً بين وظائف ووحدات عمل وحتى قطاعات ومؤسسات مختلفة، وتم تكليفهم بمهام أكثر خارج بلدهم الأصلي، وغالباً ما كانوا يحرصون على تنفيذ مهمات “إنمائية” في أدوار بارزة عالية المخاطر لم يكونوا مستعدين لها بعد. عملوا مع مجموعة متنوعة من موظفين يتمتعون بخبرات ووجهات نظر متنوعة ومن تركيبات سكانية مختلفة وقادوهم أيضاً، ولديهم أيضاً ولع بالتعلم الرسمي والمنهجي مكّنهم من مراكمة الخبرات والمهارات والقدرات الجديدة التي اكتسبوها ببذل جهد كبير.

تنوع القدرات هو مجموعة من الكفاءات الشاملة

يقودنا ذلك إلى استنتاجنا بأن تنوع القدرات ليس مجرد كفاءة قيادية أخرى، بل هو مجموعة من الكفاءات الشاملة؛ أي أنه يعكس نمطاً متوازناً وشاملاً من الكفاءات يشير إلى القدرة الأساسية على إتقان مهارات وسلوكيات معينة وتمكين تعلم مهارات جديدة باستمرار. ننظر إلى تنوع القدرات على أنها قدرة عالية المستوى تظهر عندما يكتسب القائد كفاءته عبر مجموعة واسعة من المهارات والسلوكيات المحددة وتعلم الموازنة بين السلوكيات المتعارضة والتكميلية بشكل ملائم وتنمية الحكمة واتخاذ القرارات السياقية لمعرفة الوقت المناسب لاستخدام سلوك ما ودرجته.

في الواقع، يمثل اكتشاف كيفية الجمع بين الكفاءات والسلوكيات التكميلية تحدياً كبيراً، ما يجعل من تنوع القدرات قدرة عالية المستوى ناشئة تتطور بمرور الوقت. عندما نحلل نتائج القيادة المرتبطة بالسلوكيات القوية والتمكينية والاستراتيجية والتشغيلية في معادلة واحدة، فإنها تفسر إحصائياً الاختلافات الكبيرة في تلك النتائج. ومع ذلك، عندما نضيف إلى المعادلة متغيراً يمثل مدى توازن القادة في سلوكيات القوة والتمكين والاستراتيجية والتشغيل، يتحسن التنبؤ الإحصائي بنتائج القيادة بشكل كبير. إذاً لا يمكن فهم تنوع القدرات تماماً بالنظر إلى مكوناته الفردية، فهو أكثر من مجرد مجموعها.

علاوة على ذلك، ومع تطوير القادة للتنوع، يسهل عليهم اكتساب مهارات وكفاءات جديدة في دورة محمودة، ومع توسيع منظوراتهم وخبراتهم، يصبح من الأسهل عليهم مواصلة توسيعها. في المقابل، لدى المسؤولين التنفيذيين الذين يعتمدون فقط على مواهبهم واستخدام مواطن قوتهم لبناء مسارهم المهني نطاق أضيق وقدرة محدودة على توسيعها، ويواجهون خطورة فقدان مهاراتهم وقدراتهم أهميتها وفعاليتها عندما تتغير الظروف.

تطوير تنوع القدرات

هناك عدة طرق يمكن لمختلف القادة من خلالها تطوير تنوع القدرات، لكن هناك ثلاثة مبادئ تنطبق على الجميع. الأول، يجب على القادة فهم ميولهم -سلوكياتهم الفطرية وسلوكياتهم المكتسبة- من خلال الخضوع إلى تقييم الشخصية الاختصاصي. من المفيد أيضاً طلب تقييمات زملاء العمل حول سلوكك وتأثيره، حيث سيساعد ذلك في قياس فعالية عملك وما يمكنك فعله لزيادتها من خلال إضافة مهارات وسلوكيات جديدة بالإضافة إلى انتقاء المهارات والسلوكيات التي قد تفرط في الاعتماد عليها بعناية.

بعد فهم ذاتك، لكي تصبح قائداً متنوع القدرات أكثر، يجب أن تتعلم أداء المهام التي قد لا تألفها وتجنب تحول مواطن القوة إلى نقاط ضعف من خلال الإفراط في استخدامها. وأفضل طريقة لتعلم هذه الدروس هي خوض مجموعة متنوعة من تجارب العمل الصعبة، خاصة تلك التي تدفعك للخروج من منطقة راحتك؛ لن تتعلم الكثير في منطقة الراحة، ولا راحة في منطقة التعلم. ولا يكفي خوض التجارب، بل يجب أن تتعلم منها. يبدو أن الإنسان الذي يتبنى عقلية التعلم وسرعة الاستجابة والتفكر والتواضع هو الأقدر على تعلم الدروس من تجاربه.

أخيراً، كي تصبح متنوع القدرات أكثر يجب أن تطور مفهومك عن ذاتك أو هويتك؛ أي أن تغير رؤيتك لنفسك. غالباً ما يعرّف القادة الذين يفتقرون إلى تنوع القدرات أنفسهم بطريقة مستقطبة؛ يقولون عن أنفسهم مثلاً “أنا شخص حاسم وقوي ولست ضعيفاً أو متردداً” أو “أؤمن بممارسة صلاحياتي من خلال الآخرين، وليس ممارسة صلاحياتي عليهم”. فهم يبالغون في تقدير ما يتميز به أسلوب قيادتهم ويعدونه مثالياً، بينما ينأون بأنفسهم عن الجانب التكميلي ويصفونه بعبارات متطرفة وساخرة غالباً، وبالتالي يصبحون غير قادرين على رؤية كل ما يقع في الجانب الذي يبتعدون عنه.

بالمقابل، ينظر القادة القادرين على تنويع قدراتهم إلى أنفسهم بطريقة أكثر دقة وتمايزاً وتكاملاً، فيقولون على سبيل المثال: “أنا قائد قوي أؤمن بالقيادة عبر الآخرين”. إنهم يفهمون الاعتماد المتبادل الضروري بين طرق القيادة المتعارضة ويمكنهم تخيل استخدامها معاً بطريقة تبدو صادقة وحقيقية، وهو نهجٌ يشعرون بالراحة والرضا تجاهه. يتيح لهم هذا التحول في العقلية تطوير أنفسهم ليصبحوا قادة أفضل وأوسع أفقاً ويتمتعون بقدرات أكبر.

لا أحد يعلم ما يخبئه عالمنا المضطرب للقادة في المرة القادمة، وحتى القادة أنفسهم لا يعلمون ذلك. ولكن القادة الذين يمتلكون مجموعة متنوعة من الكفاءات والمهارات والسلوكيات التكميلية، والقدرة على استخدامها بشكل مناسب في مواقف معينة، هم الأقدر على قيادة موظفيهم وفرقهم ومؤسساتهم بفعالية أكبر في الأوقات المضطربة. وهذه القدرة السامية؛ مجموعة الكفاءات الشاملة أو القدرات المتنوعة، يمكن تعلمها والتدرب عليها وتطويرها بمرور الوقت.