تفكيك شركة “فيسبوك” لن يصلح وسائل التواصل الاجتماعي

6 دقائق
تفكيك شركة "فيسبوك" وإصلاح وسائل التواصل الاجتماعي
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يعتبر فيلم “المعضلة الاجتماعية” (The Social Dilemma) أحد أشهر الأفلام على منصة “نتفليكس” (Netflix). ولمن لم يشاهده، هو دعوة للانتباه إلى مخاطر وسائل التواصل الاجتماعي، وأنا من أشد المعجبين به. يجب أن نركز انتباهنا على هذه القضية، فقد بدأت التحذيرات منذ صُنعت أفلام مثل “الاختراق الكبير” (The Great Hack) ونُشرت كتب مثل “رأسمالية المراقبة” (Surveillance Capitalism) و “زكد: الاستيقاظ على كارثة فيسبوك” (Zucked: Waking Up to the Facebook Catastrophe). يبدأ كتابي الجديد “آلة الخداع” (The Hype Machine) بالسؤال الذي توقفت عنده تلك الأفلام والكتب، وهو: “ما الذي يمكننا فعله تحديداً كي نصلح أزمة وسائل التواصل الاجتماعي التي وجدنا أنفسنا فيها؟”.

هل تفكيك “فيسبوك” سيصلح مستنقع وسائل التواصل الاجتماعي؟

إحدى الأفكار التي ناقشتها بصورة مطولة في الكتاب هي ما إذا كان تفكيك شركة “فيسبوك” سيصلح مستنقع وسائل التواصل الاجتماعي. يتوق مراقبو أنظمة مكافحة الاحتكار إلى تفكيك أكبر شبكة اجتماعية في العالم، ويستشهدون في حجتهم بسلسلة من الأضرار الحقيقية، وهي تشمل تآكل الخصوصية وانتشار المعلومات المضللة وخطابات الكراهية، وتسريع الاستقطاب السياسي وتهديد نزاهة الانتخابات، ويزعمون أن المنافسة ستجبر شركة “فيسبوك” على إصلاح هذه المشكلات. لكن إجراءات مكافحة الاحتكار غير المدروسة بصورة جيدة والتي لا تترافق مع الإصلاح الهيكلي، لن تتمكن من إصلاح هذه المشكلات، بل ستزيد الأمور سوءاً. ومن أجل فهم السبب في ذلك، يجب أن نفكر بالمنطق الاقتصادي لهذه الشركات.

تتجه أسواق وسائل التواصل الاجتماعي نحو الاحتكار بسبب الآثار المترتبة على وجود الشبكات، إذ إن قيمة المنصة الشبكية هي إحدى نتائج تزايد أو تناقص عدد الأشخاص المشاركين فيها، وكلما ازداد عدد الأشخاص الذين يستخدمون المنتج، ازدادت قيمته بالنسبة للجميع. وكلما أصبح عدد الأشخاص على الشبكة أكبر، ازدادت قوة جاذبيتها. وكلما ازدادت قوة جاذبيتها، ازدادت سيطرتها على عملائها الحاليين. قد يتسبب تفكيك شركة “فيسبوك” إلى أجزاء بإبطاء هذه العملية، لكنه لن يغير شيئاً من حقيقة أنه على المدى الطويل، تؤدي الآثار المترتبة على وجود الشبكات إلى نشوء الشركات المحتكرة أو شبه المحتكرة.

يعزز من يديرون شركات وسائل التواصل الاجتماعي الميل نحو الاحتكار من خلال زيادة صعوبة مغادرة المستخدمين للمنصات، حيث يتعمدون ألا تكون هذه المنصات متوافقة فيما بينها، ويمسكون البيانات التي نرفعها إليها (والتي يجمعونها عنا) بقبضة حديدية. وإذا تخلينا عن حساباتنا على “فيسبوك” أو “إنستغرام”، فسنخسر صورنا ومحادثاتنا وذكرياتنا. لكننا لا نريد التخلي عن هذه الأشياء، ولا نريد أيضاً أن نخسر العلاقات المرتبطة بها. ومنصات التقنية الفائقة المغلقة هذه، التي تصعب مغادرتها، تندمج مع الآثار المترتبة على وجود الشبكات لدفع هذه الشركات أكثر باتجاه الاحتكار.

خلق المنافسة أمر أساسي في اقتصاد وسائل التواصل الاجتماعي. تخيل الآثار الإيجابية على المستهلكين إذا كانت شركات التواصل الاجتماعية العملاقة تتنافس لحماية خصوصية المستهلكين مثلاً. لكن، في حين يمكن أن تساعد المنافسة في إرغام المنصات على التنافس لجذب اهتمامنا بواسطة تصاميم تحمي قيمنا الاجتماعية، إلا أن قوى السوق التي تدفع شركات وسائل التواصل الاجتماعي نحو الشركات الاحتكارية ستبقى حتى وإن تم تفكيك شركة “فيسبوك”. فتفكيك شركة “فيسبوك” لن يفيد شيئاً في تعزيز الظروف اللازمة لاستدامة المنافسة في السوق، لأن الآثار المترتبة على وجود الشبكات ستدفع بالشركات شبيهة “فيسبوك” التي ستأتي بعدها نحو مركز مهيمن. وتفكيك شركة واحدة لن يغير الأنظمة الاقتصادية الأساسية في السوق.

وسيكون ارتكاب خطأ في ذلك مكلفاً. فالآثار المترتبة على وجود الشبكات تخلق فوائد اقتصادية كبيرة لمليارات الأشخاص في العالم. وبما أن هذه الفوائد تعتمد على الاتصالات التي نقوم بها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فتفكيك الشبكات سيؤدي إلى تقليصها من دون معالجة القوى الاقتصادية التي تدفع الاقتصاد الاجتماعي نحو التمركز. لا يمكن للمقاييس الاقتصادية، مثل الناتج المحلي الإجمالي ونمو الإنتاجية، فهم قيمة المستهلك التي تنشئها منصة “فيسبوك”، لأن المستخدمين لا يدفعون المال مقابل استخدامها. (ولأن هذه القيمة لم تُفهم، يسهل على الجهات الرقابية تجاهلها). لكن هذه القيمة حقيقية، فالباحثون في “معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا” (إم آي تي) وجامعة “ستانفورد” سألوا عن المبلغ الذي يمكن أن يُدفع للناس كي يتخلوا عن “فيسبوك”، وتبين أن الناس العاديين منحوا الخدمة قيمة كبيرة جداً. يقدّر البحث أن “فيسبوك” تولد قرابة 370 مليار دولار سنوياً كمنافع للمستهلكين في الولايات المتحدة وحدها. تخيل تحقيق هذه المنافع على نطاق العالم بأسره.

اقرأ أيضاً: علاج إدمان السوشيال ميديا

تتجاهل قضية مكافحة الاحتكار المقامة ضد “فيسبوك” هذه الظروف الاقتصادية، وهي لا تفعل شيئاً على نحو مباشر لحماية الخصوصية أو التمييز بين حرية التعبير وخطاب الكراهية أو ضمان نزاهة الانتخابات أو التخفيف من الأخبار الزائفة. في الحقيقة، ستزيد من صعوبة معالجة هذه الأضرار من خلال إنشاء مزيد من المنصات الاجتماعية التي تحتاج إلى التنظيم والمراقبة. وبدلاً من خرق الثقة على المستوى السياسي، نحن بحاجة إلى إصلاح بنيوي، أولاً لحشد المنافسة التي سيعجز التفكيك عن تحقيقها، ثم للعمل على حل مواضع العجز في السوق التي أحدثها الاقتصاد الاجتماعي، واحداً تلو الآخر. فلننظر إلى بعض الإصلاحات الهيكلية التي يمكن أن تساعدنا على تحقيق ما تعدنا به وسائل التواصل الاجتماعي وتفادي مخاطرها.

أهم الإصلاحات الهيكلية لوسائل التواصل الاجتماعي

جعل الشبكات الاجتماعية قابلة للتشغيل المتبادل ومنح المستهلكين الحق في تصدير بياناتهم. من أجل تعزيز المنافسة، نحن بحاجة إلى قانون جديد يجعل وسائل التواصل الاجتماعي قابلة للتشغيل المتبادل ويتيح للمستهلكين أخذ بياناتهم وشبكاتهم الاجتماعية إلى شركات منافسة، كما يحدث في قطاع الاتصالات السلكية واللاسلكية. فقابلية نقل رقم الهاتف زادت تنافسية شركات الهواتف الخلوية. عندما أصر الاتحاد الأوروبي في بدايات العقد الأول من القرن الواحد والعشرين على منح المستهلك إمكانية نقل رقم هاتفه، وبالتالي نقل شبكة الأشخاص الذين يعرفونه بهذا الرقم إلى شركة أخرى، أدت هذه السياسة إلى زيادة الرفاهية الاقتصادية بنحو 880 مليون يورو كل ربع عام في 15 دولة أوروبية، ما ساهم بنسبة 15% من الزيادة الملحوظة في الفائض الاستهلاكي ما بين 1999 و2006. كما أدت قابلية التشغيل المتبادل إلى تسوية ميدان التنافس في مجال خدمة المراسلة النصية. مثلاً، عندما أرغمت لجنة الاتصالات الفيدرالية شركة “أيه أو إل” (AOL) على جعل خدمة الرسائل النصية التي تقدمها “أيه آي إم” (AIM) قابلة للتشغيل المتبادل بينها وبين منصتي “ياهو” و”إم إس إن مسنجر” (MSN Messenger) وغيرهما في عام 2002، تراجعت الحصة السوقية لشركة “أيه أو إل” في المراسلة الفورية من 65% إلى 59% بعد عام واحد، وإلى أكثر من 50% بقليل بعد ثلاثة أعوام. في عام 2018، تنازلت خدمة “أيه آي إم” عن سوق الدردشة بالكامل لصالح شركات “آبل” و”فيسبوك” و”سناب شات” و”جوجل”. يمكن للقوانين، مثل قانون تعزيز المواءمة والمنافسة من خلال تمكين تبديل الشركات (آكسس) (ACCESS Act) المؤيد من الحزبين، أن تؤدي إلى نفس النتيجة بالنسبة لوسائل التواصل الاجتماعي، من خلال إرغام منصات مثل “فيسبوك” و”تويتر” و”بنترست” على جعل شبكاتها الاجتماعية قابلة للتشغيل المتبادل ومنح المستهلكين حق تصدير بياناتهم.

حماية نزاهة الانتخابات. يجب على مجلس الشيوخ تمرير قوانين موجهة مثل قانون الإبلاغ عن التأثير الأجنبي في الانتخابات (FIRE Act)، وقانون حماية الديمقراطية (SECURE Our Democracy Act) وقانون الأمن السيبراني لنظام الاقتراع (Voting System Cybersecurity Act) من أجل تقوية انتخاباتنا. وإلى جانب محاربة الأخبار الزائفة، يجب على شركات وسائل التواصل الاجتماعي قطع تعهدات حازمة قابلة للتحقق والتعزيز بإتاحة البيانات للأبحاث حول آثار وسائل التواصل الاجتماعي على الديمقراطية. يجب أن تتمكن عمليات التدقيق في الانتخابات محدودة المخاطر من تحقيق الحماية من الهجمات على أنظمة الاقتراع القديمة التي نستخدمها. ويمكن مناقشة التفاصيل ضمن إطار لجنة وطنية ثنائية الحزب للديمقراطية والتقنية.

حماية الخصوصية والبيانات. يجب أن تعمل التشريعات الفيدرالية حول الخصوصية على مواءمة سياسات الدولة الظرفية وموازنة الأهمية الأخلاقية والعملية والنفعية للخصوصية، مع الحاجة إلى تبادل البيانات من أجل دعم الصحافة الاستقصائية والبحوث العلمية والتطبيقات التجارية للتعلم الآلي ومراجعة حسابات نزاهة الانتخابات والفائض الاقتصادي المتولد عن اقتصاد الإعلان.

مهاجمة انتشار المعلومات المضللة. من أجل إبطاء انتشار المعلومات المضللة، يجب أن تستخدم المنصات الخوارزميات والموظفين والجمهور من أجل وضع علامات على الأخبار الكاذبة، والحرص على شفافية المصادر، ومنع الإعلانات بجوار المحتوى الزائف، والحد من إعادة المشاركة (كما فعلت واتساب من أجل إبطاء نشر المعلومات المضللة عن كوفيد-19)، إلى جانب الحد من المعلومات المضللة الصحية أو السياسية في نتائج البحث. وفي هذه الأثناء، يجب على قطاع التعليم الخاص والعام أن يجدد التركيز على التثقيف الإعلامي والتفكير النقدي.

تحقيق توازن أفضل بين حرية التعبير وخطابات الكراهية. من أجل حماية حرية التعبير والحد من الخطاب الضار في آن، يتعين علينا رسم حدود ملموسة حول الحماية من المسؤولية المدنية التي توفرها الفقرة 230 من قانون آداب الاتصالات الأميركي لعام 1996 لمنصات الإعلام الاجتماعي. إذ تتيح الفقرة 230 الاتصال المجاني والمفتوح بالإنترنت، وإلغاؤها سيحد من الحرية على الإنترنت ويجعل كثيراً من أكبر الأعمال التجارية عبر الإنترنت في العالم غير عملية. لكن يمكن أن تحد القوانين من الحالات التي تنطبق عليها الفقرة 230. ومن أجل تحقيق التوازن بين حرية التعبير والخطاب الضار، يجب رسم حدود تشريعية تمثيلية وتداولية، مماثلة لقانوني وقف تمكين تجار الجنس ومكافحة الإتجار الجنسي على الإنترنت (FOSTA-SESTA)، بدلاً من تعيين لجان ضمن إطار سياسي، مثل لجنة التجارة الفيدرالية (FTC) أو لجنة الاتصالات الفيدرالية (FCC)، تقرر متى ينبغي أن تطبق الفقرة 230 بموجب أوامر تنفيذية.

قد يستغرق تفكيك شركة “فيسبوك” عقداً من الزمن. عندئذ، سيكون مشهد وسائل التواصل الاجتماعي قد أصبح مختلفاً تماماً عنه اليوم. ستتمكن القوانين ذات النظرة الاستشرافية التي تضمن المنافسة والأسواق المفتوحة وتكافؤ الفرص، إلى جانب الحلول التي يضعها القطاع والقانون فيما يخص المعلومات المضللة والخصوصية وحرية التعبير ونزاهة الانتخابات، من رسم درب منتج أكثر مقارنة بالمحاولات الرجعية لحل الشبكات والشركات القائمة.

الدعوات الواضحة رائعة، لكن آن الأوان لنتجاوزها كي نصل إلى حلول حقيقية وعملية. ليس لدينا الوقت لنهدره على النقاشات حول ما إذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي مفيدة أم ضارة، فالآن أصبحنا ندرك أنها تملك إمكانات واعدة هائلة ومخاطر كبيرة محتملة. لذا، يجب أن نترك النقاش الدائر حول سرعة اقتراب السفينة من الصخور الضخمة وننتقل إلى مناقشة طرق توجيهها نحو مياه أكثر هدوءاً. الآن هو وقت العمل.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .