لماذا يصمم المدراء وظائف مملة أكثر مما ينبغي؟

6 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

إن مستويات اندماج الموظفين في العمل متدنية على الدوام، بل وتستمر بالتدني أكثر في بعض أنحاء العالم. فالوظائف الاستشارية الرفيعة توصف بأنها أعمال “مرهقة”، و”غير ملهمة”، حيث يُملى على من يشغلونها “طرقاً محددة للعمل”. قالت صحيفة “الغارديان” Guardian في وقت سابق من هذا العام “إن العاملين في مخازن شركة أمازون يعملون على نحو “أسوأ من الروبوتات الآلية”، إذ يركضون في المخزن لتعبئة الطلبات ويفوتون استراحات الذهاب إلى الحمام بسبب المراقبة الإلكترونية المفروضة عليهم. لقد دعم الإعلام الأدلة التي تثبت رفع كثافة العمل المتزايد في كثير من البلدان، وقد شمل هذا الدعم قصصاً عن تأثير “الوظائف الجشعة” على النساء، بالإضافة إلى الكتب الشائعة التي تعبر عن الواقع المؤسف للعمل المثبط والتي تحدد الأضرار الجسيمة التي يسببها العمل المجهد في المجتمعات حول العالم.

نحن نؤمن أن ما يشعر به الموظفون من عدم القدرة على الانخراط بالعمل والإنهاك وعدم الرضا، ما هو إلا نتيجة لتصميم العمل الرديء. يقصد بتصميم العمل طبيعة المهام والنشاطات والمسؤوليات وتنظيمها ضمن الوظيفة أو دور العمل. ومن وجهة نظر نفسية، عندما يكون تصميم العمل جيداً، يكون لدى الموظفين مهام مثيرة للاهتمام، ويتمتعون باستقلالية في أدائها ودرجة جيدة من التواصل الاجتماعي مع الآخرين، وينالون مستوى مقبولاً من متطلبات المهام، كأعباء عمل معقولة والمسؤوليات الواضحة والضغط العاطفي المحمول.

بالنسبة للموظفين، تتضمن فوائد تصميم العمل الجيد الرضا الوظيفي والانخراط الجيد وتحسن التوازن بين الحياة والعمل وضغط أقل في العمل ورفاهية أفضل ووجود هدف عموماً. أما بالنسبة للشركات، فتتضمن فوائد تصميم العمل الجيد وجود فرص للاستفادة من المواهب وغرسها بالكامل عن طريق إتاحة استقلال وظيفي أكبر، وهو أحد أقوى العوامل المحركة لإبداع الموظفين وروح المبادرة والابتكار لديهم. ولكن عندما يكون تصميم العمل رديئاً، تكون النتائج معاكسة تماماً، فتصبح الوظائف مثبطة لا تطاق، خصوصاً الوظائف التي تكون مهامها مكررة وتفرض عليها مراقبة محكمة، أو الوظائف التي تسبب الإرهاق للموظفين نظراً لمستوى متطلباتها.

رغم هذه الفوائد للتصميم الجيد للعمل، نلاحظ غزارة التصميم السيء للعمل في الشركات، لماذا؟ تركز الإجابة النمطية عن هذا السؤال على تراجع النقابات وعدم كفاية قوانين العمل الوطنية. ورغم أننا نتفق مع أهمية المتغيرات واسعة النطاق، إلا أن بحثنا يبين أنها لا تفسر القصة بأكملها.

الدراسة الأولى: غالباً ما يجعل المديرون الوظائف المملة أكثر مللاً

ومن أجل اكتشاف سبب استمرار تصميم العمل الرديء بالهيمنة على المؤسسات حول العالم، قمنا بإجراء دراسة لفهم كيف يفكر الموظفون بشأن وظائف الآخرين ويطورونها. أوضحت دراسة سابقة أنه عند الطلب من طلاب الإدارة على مستوى الجامعة إنشاء أدوار وظيفية، صمموا أدواراً تشمل أعمالاً مكررة ومملة بشدة بسبب اعتقادهم أن هذا النوع من العمل أكثر فعالية، فكان هدفنا هو معرفة ما إذا كانت هذه النتيجة تنطبق على المدراء والمهنيين أيضاً.

ولذلك، دعونا مدراء ومهنيين من قطاعات الخدمات الإنسانية للمشاركة في تجربتين قائمتين على المحاكاة على الإنترنت، وهم أخصائيون في علم النفس التنظيمي ومدراء السلامة ومفتشو الصحة والسلامة. كان على المشاركين في المحاكاة الأولى تصميم وظيفة، وكانت عبارة عن وظيفة مكتبية بدوام نصفي لا تتضمن سوى أعمال تصوير الأوراق وحفظها في ملفات. ثم طلبنا منهم جعل هذه الوظيفة بدوام كامل عن طريق اختيار مهام إضافية من قائمة المهام وإضافتها إلى الدور الحالي. كان بإمكان المشاركين جعل هذه الوظيفة متكررة للغاية من خلال إضافة المزيد من أعمال النسخ والحفظ، أو جعلها أكثر فائدة وإثارة للاهتمام عن طريق إضافة مهام مثل الترحيب بالزوار، أو المساعدة في مشروع تحسين الجودة. قيل لهم إن جميع المهام مهمة، وإن موظف الأعمال المكتبية قادر على القيام بها جميعها، وإن هذه الوظيفة ستكون وظيفة دائمة،

فكانت إحدى النتائج المفاجئة (خصوصاً أننا ركزنا بشكل متعمد على مدراء الخدمات الإنسانية والمهنيين) أن قرابة نصف المشاركين (45%) صمموا الوظيفة على نحو يجعلها مملة أكثر، وتتضمن مهام تصوير الأوراق وحفظها في الملفات فقط لمدة ثماني ساعات يومياً.

الدراسة الثانية: يفضل المدراء غالباً “إصلاح الموظف” على تغيير تصميم العمل

ثم طلبنا من المشاركين تخيل أنهم مدراء يمرون بعدة حالات تتضمن مشكلات في القوة العاملة. كمثال على ذلك، قلنا للمشاركين أنهم يديرون عاملاً في مستودع واسمه (كمال)، وكان غير قادر على إنجاز 50% من أعماله في موعدها النهائي المحدد، وقمنا بتوضيح رداءة تصميم العمل في جميع الحالات. وفي حالة كمال، أوضحنا أنه “يتحرك بسرعة” وغالباً ما “يركض” لحمل البضائع، إلا أنه رغم ذلك غير قادر على أخذها عن الرفوف في الوقت المحدد. قيم المشاركون بعد ذلك مدى فاعلية عدة استراتيجيات يمكن استخدامها لمعالجة هذه المشاكل، كان بعضها يركز على “إصلاح تصميم العمل الرديء” في حين ركز البعض الآخر على “إصلاح الموظف”.

على الرغم من اختيار عدد قليل جداً من المشاركين إصلاح التصميم الرديء (مثل “إعادة تصميم العمل على نحو يجعل المهمات غير مقيدة بوقت معين”)، إلا أن عدداً مفاجئاً من المشاركين اختاروا “إصلاح الموظف”. على سبيل المثال، رغم معرفة المشاركين أن كمال كان مضطراً للركض من أجل إنهاء مهامه في وقتها المحدد، قال أكثر من ثلثيهم إنهم يودون “إخضاع كمال للتدريب”، في حين اختار البقية (ثلث المشاركين تقريباً) “تقديم نصيحة لكمال بتحسين لياقته البدنية”. كما اختار ربع المشاركين “تهديد كمال بخفض أجرته إذا لم يحسن أداءه وينجز عمله في الوقت المحدد”. تلقي كل واحدة من هذه الاستراتيجيات اللوم بصورة غير مباشرة على الموظف في حين كان التصميم الرديء للعمل هو المشكلة الأساسية.

كيف يمكن للمؤسسات تقديم المساعدة؟

يقع المدراء والمهنيون في موقع ممتاز لإنشاء أدوار مفيدة ومحفزة لموظفيهم تخلو من الضغوط، ولكن يشير بحثنا إلى أن العديد منهم لن يفعل ذلك، فهم يملكون نزعة طبيعية لوضع تصميم رديء لأدوار الآخرين. كما يلقي كثير من المهنيين اللوم على الموظف عندما تظهر مشكلة في الأداء، بدلاً من تغيير التصميم غير الملائم للعمل. لحسن الحظ، يمكن للمؤسسات التعلم من بحثنا واتخاذ بعض الخطوات لتحسين الوضع.

أدرك أهمية التصميم الجيد للعمل من كافة الجهات. إن تحسين تصميم العمل من وجهة نظر نفسية ليس ضمن مخططات كثير من الشركات. وعادة، ينظر إلى تصميم العمل من جهة الإجراءات فقط مثل إدخال “مبادئ لين” (lean principles) المرنة في العمل، أو من منظور مساحة العمل (مثل المكاتب المفتوحة). ولكن، يشكل تجاهل المؤسسات للجانب النفسي الكامن وراء تصميم العمل الجيد مجازفة بفقدان اندماج موظفيها وانخراطهم في العمل، وتسريع الدوران الوظيفي وتقليص الإنتاجية. وفي الواقع، ليس هناك جدوى من وجود مكتب غير تقليدي يهدف إلى تحفيز الابتكار مع وجود مدير يسيطر بإحكام على جميع جوانب العمل.

درب المدراء وغيرهم من المهنيين ذوي الصلة.  تتمتع فرق القيادة بدور هام تمارسه فيما يتعلق بتصميم العمل الجيد، وذلك من خلال سلوك القادة أنفسهم، إذ يمكن للمدراء إتاحة استقلالية أكبر للموظفين في قراراتهم وضمان تنوع المهام وتقديم الدعم للموظفين عندما تزداد متطلبات العمل. ولكن تبين أبحاثنا أن هذه المهارات لا توجد بصورة طبيعية لدى أغلب المدراء، حتى الذين يعملون في مجال الخدمات الإنسانية. وفي الحقيقة، تشير نتائجنا إلى أن الموظفين الذين يملكون قيماً محافظة في الحياة (كالذين يولون أهمية كبيرة للسلامة والانسجام والتقاليد) يثمنون العمل الضيق المكرر أكثر ويصممون أسوأ الأعمال، وقد يحتاجون إلى دعم إضافي وتدريب. ومن دون تثقيف الموظفين المسؤولين عن توزيع الأعمال سيستمر استخدام تصميم العمل السيء في العديد من الشركات.

احذر من الدورات ذاتية الاستدامة. وجدنا في دراستنا أن أسوأ المصممين يفتقدون الاستقلالية في حياتهم المهنية، مما يشير إلى أن الموظفين يقلدون تصميم وظائفهم باللاشعور عندما يصممون أعمال الآخرين، وهذا يعني أن المؤسسات التي تملك نموذجاً هرمياً للقيادة والتحكم تشكل تحدياً فريداً للمدراء الذين يسعون للانتقال إلى نموذج أكثر استقلالاً. ومن أجل تفادي الوقوع في حلقة مفرغة يستمر فيها تصميم العمل الرديء، يجب البدء بتطبيق التصميم الجيد للعمل من القمة. وحين يعمل المدراء في دور ذي تصميم جيد ويختبرون قيمته، تزداد احتمالات إنشائهم وظائف ذات تصميم جيد للآخرين بالمثل.

ناقش تصميم العمل في مراجعات الأداء. عندما يكون سلوك الموظف غير مثالي، (عندما يتغيب عن العمل مثلاً أو يتأخر عن مواعيد التسليم أو يفشل في الابتكار) قد يكون السبب هو تصميم العمل السيء. ولكن تبين في بحثنا أن المدراء عادة يفضلون “إصلاح الموظف”، أي إخضاعه لبرامج تدريب أو حرمانه من المكافآت. ونحن نعتقد أن ضم تصميم العمل إلى مراجعات الأداء سيتيح للمدراء التعرف بسهولة أكبر على مدى أهمية دور تصميم العمل، أو عدمها، في أداء الموظف. على سبيل المثال، عندما لا يتمكن الموظف من الإبداع، يجب على المدراء التحقق من امتلاكه قدراً كافياً من الاستقلالية في عمله من أجل تحفيزه وإلهامه كي يتمكن من الإبداع، بدلاً من افتراض أن الموظف “ليس كفؤاً أو أنه يحتاج للتدريب”.

أشرك الخبراء عند اللزوم. وجدت دراستنا أن القادة الذين خضعوا لتدريب معين واكتسبوا خبرات في تصميم العمل (أي أخصائي علم النفس التنظيمي) كانوا قادرين على وضع تصميمات عمل أكثر فائدة. وفي بعض الحالات، وخاصةً التي يتطلب تحسين تصميم العمل فيها تغييراً على مستوى النظام، كانت الخبرات الأعمق أكثر فائدة. فعلم النفس التنظيمي هو أحد أسرع المهن نمواً في الولايات المتحدة، نظراً لوجود علماء في المجال يضعون بصمة ذات أهمية متزايدة في عالم الأعمال. ونحن نحث المؤسسات على الاعتماد على هذا النوع من الخبرات وما يتصل بها إذا تنامى تصميم العمل الرديء فيها.

فتصميم العمل الجيد يؤتي ثماره على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، ويجب علينا بناء عمل أفضل لموظفينا، وهذه حاجة ملحة. هناك تهديدات محتملة تترافق مع ما يضيفه العصر الرقمي من وعود وإنتاجية إلى قيمة تصميم عمل الموظفين، وهذا ما نشهده في “أمازون”، حيث تستخدم التقنية في مراقبة تحركات الموظفين وفرض سيطرة مبالغ فيها على ما يفعلونه. بالإضافة إلى ذلك، هناك كم هائل من الأدلة في العالم الغربي على أن العمل ذا التصميم الجيد يساعد على منع ظهور مشاكل الصحة النفسية، واليوم، نحن بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى فهم أفضل لتصميمات العمل المثالية وكيفية تحقيقها.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .