تحقيق الغاية عملية صعبة لكنها ضرورية

19 دقيقة
غوثام غرينز
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

الحلول المُربِحة لجميع الأطراف أقل شيوعاً مما نعتقد.

فيما يتعلق بالشركات الناشئة التي تعمل بهدي من غاية سامية، تُعتبر شركة غوثام غرينز (Gotham Greens) قصة ناجحة للغاية. فقد استعملت تقنيات متقدمة في الزراعة المائية لإنتاج خضار وفواكه طازجة عالية الجودة خالية من المبيدات الحشرية، وتبيعها الآن في أكثر من 40 ولاية أميركية. ومنذ انطلاق أعمال الشركة في عام 2009، تمكنت من إعادة تطوير 500 ألف قدم مربعة من الأراضي الصناعية المهجورة وغير المستعملة في المدن، حيث حولتها إلى بيوت بلاستيكية حضرية حديثة تستهلك كمية أقل بنسبة 95% من المياه، وتحتاج إلى مساحات أقل بنسبة 97% من الأراضي بالمقارنة مع المزارع التقليدية. كما تمكنت الشركة من تحقيق الأرباح منذ عامها الأول، حيث اختارتها بزنس إنسايدر (Business Insider) ضمن قائمة “50 أروع شركة جديدة في أميركا”. وبحلول نهاية عام 2020، كانت الشركة قد استقطبت استثمارات تبلغ قيمتها 130 مليون دولار.

من الواضح أن غوثام غرينز تحقق منافع اجتماعية وبيئية، وهي ملتزمة برسالتها المتمثلة في العثور على طرق جديدة لإنتاج الغذاء المحلي، وإعادة إحياء المجتمعات المحلية، والابتكار للوصول إلى مستقبل مستدام. وفي الوقت ذاته، تحقق الشركة ثروة لموظفيها والمستثمرين فيها. وهي مثال على ما يسمّيه زميلي في كلية هارفارد للأعمال مايكل بورتر والشريك المؤسس لشركة إف إس جي (FSG) مارك كرامر “القيمة المشتركة”، وما يسميه الرئيس التنفيذي لشركة هول فودز ماركت (Whole Foods Market) جون ماكي “الرأسمالية الواعية”.

ومع ذلك، فحتى شركة غوثام غرينز ليست قادرة على تجسيد المثل العليا التي تطمح إليها بطريقة خالية من الشوائب. فإذا كنتم قد اشتريتم منتجاتها من قبل، فأنتم تعلمون أن خضارها تعبأ في عبوات بلاستيكية تستعمل لمرة واحدة، وهذا شيء مريع للبيئة. فلماذا تتخذ شركة تكرّس نفسها إلى هذا الحد لخدمة الاستدامة والإنتاج منخفض الهدر قراراً من هذا النوع؟ يشرح الرئيس التنفيذي للشركة فيراج بوري الأمر قائلاً إن القرار كان قراراً صعباً لكنه مدروس ومبني على بحث دقيق ومستند إلى مقايضة ضرورية بين خيارات مختلفة. فحتى أكثر الشركات نبلاً مضطرة دائماً إلى إجراء هذا النوع من المقايضات الضرورية لتحقيق قيمة على المدى البعيد لصالح جميع أصحاب المصلحة المعنيين.

المؤسسات ذات الغاية السامية العميقة ملتزمة التزاماً عميقاً بتحقيق نتائج اجتماعية إيجابية ونتائج تجارية إيجابية، ويتبنى قادتها عقلية مثالية عملية.

خلال السنوات الثلاث الماضية، أجريتُ بحثاً معمقاً لتحديد الطريقة التي تسمح للمؤسسات التي توجهها رسالة معيّنة بالنجاح. وقد شمل البحث مؤسسات قديمة وأخرى حديثة تعمل في قطاعات وصناعات ومناطق جغرافية متعددة. لا شك في أن الشركات الفضلى بينها تسعى جاهدة إلى الالتزام بغايتها مع العمل في الوقت ذاته على تحقيق جميع الأرباح الممكنة. وهي في الحقيقة تنظر إلى الغاية من ذات الزاوية التي تنظر منها إلى الأرباح، حيث ترى فيها قوة تسمح بتحسين جميع جوانب المؤسسة وتوسيع نطاق عملها. فعلى سبيل المثال، قد نرى شركة صناعية تتحول إلى مصادر جديدة للطاقة أقل تلويثاً للبيئة وتخفّض التكاليف، أو بنكاً يوظّف قوى عاملة أكثر تنوعاً بما يفيد المجتمع المحلي، ويقرّب هذا البنك من قاعدة زبائنه، ويسهم في تعزيز الابتكار الذي يساعد على تحقيق إيرادات إضافية.

بيد أن قادة الشركات الذكية يفهمون أن هذه الحلول المُربِحة لجميع الأطراف المعنية – أي الحلول التي تحقق أرباحاً شاملة على المدى القصير – ليست ممكنة في غالب الأحيان. فكيف بمقدور شركة أن تمضي قُدُماً إذا لم تكن قادرة على الالتزام بغايتها وتحقيق الأرباح في الوقت ذاته؟ وإذا كان من المستحيل إرضاء مجموعات مختلفة من أصحاب المصلحة بالقدر ذاته في الوقت ذاته؟

تلجأ شركات عديدة إلى استراتيجية تقوم على إعطاء الأولوية لتحقيق الأرباح عندما تمر بأوقات عصيبة. أما الشركات الأخرى الأكثر التزاماً برسالتها، فقد تختار التشبث بهذه الرسالة مهما كان الثمن، وحتى لو قادها ذلك القرار إلى إعلان إفلاسها. ولكن إذا كان هدفكم النهائي هو تحقيق القيمة على المدى البعيد وترك أثر إيجابي على العالم، فإن أياً من هاتين الاستراتيجيتين لن تكون منطقية.

يشير بحثي الذي أجري في مجموعة واسعة من الشركات العامة والخاصة إلى ضرورة اتّباع مقاربة أفضل تقوم على اعتماد الغاية كمنارة تسير الشركة بهديها وتلجأ إليها لتوضيح الأولويات وتكون مصدر إلهام للإجراءات المتخذة في الأوضاع والحالات التي تستدعي إجراء مقايضات بين خيارات مختلفة. وهي تتطلب من القادة خوض هذه النقاشات والمداولات بالتشاور مع أصحاب المصلحة؛ والبحث عما هو أبعد من الحلول قصيرة الأجل المُربِحة لجميع الأطراف، والسعي إلى تبنّي الحلول التي تُعتبر مقبولة في الوقت الحاضر وتَعِدُ بمنافع أوسع في المستقبل؛ وأخيراً، شرح الأسباب المنطقية الداعية لاتخاذ هذه القرارات الصعبة بطريقة فعّالة تساعد على كسب دعم المعنيين بهذه القرارات لها.

هذه العملية ليست سهلة، بل يمكن في الحقيقة أن تكون صعبة ومؤلمة للغاية. لكن البراهين والأدلة المستقاة من عشرات الشركات – بما في ذلك غوثام غرينز، وشركة الرعاية الصحية الشخصية ليفونغو (Livongo)، وسوق التجارة الإلكترونية المخصصة لبيع المشغولات اليدوية إتسي (Etsy)، ومجموعة الشركات المتخصصة بتكنولوجيا الموارد البشرية ركروت (Recruit)، والمجموعة الصناعية متعددة الجنسيات ماهندرا غروب (Mahindra Group)، وشركة المعامل وهندسة المواد المتقدمة بولر (Bühler) – تشير إلى إمكانية نجاح هذه المقاربة.

السعي إلى تحقيق غاية سامية عميقة

قبل أن نتعمق في التفاصيل الدقيقة لعملية دراسة المقايضات المختلفة بنجاح، وهي عملية مُربِكة لكنها ضرورية للغاية، دعوني أشرح ما أقصده بالشركة ذات الغاية السامية العميقة.

في إطار عملي الذي شمل دراسة أوضاع العديد من المؤسسات وتقديم المشورة لها على مدار العقود القليلة الماضية، راجعت المئات من البيانات التي تنص على غايات هذه المؤسسات ورسائلها. وقد توصّلت إلى أن الأكثر جاذبية بينها – والأكثر فاعلية في توجيه عمليات صنع القرارات – كانت تتمتع بميزتين أساسيتين مترابطتين. الميزة الأولى هي أنها تحدد هدفاً طموحاً بعيد المدى للمؤسسة. والميزة الثانية هي أنها تعبّر عن هذا الهدف بطريقة مثالية حيث إنها تلتزم بتحقيق واجبات اجتماعية أوسع نطاقاً. وتتمثل مقاصد هذه البيانات في التأكيد على المشاكل التجارية والمجتمعية التي تحاول شركة ما حلّها بطريقة مُربِحة لصالح أصحاب المصلحة منها. وهي تلخّص بطريقة موجزة جوهر الشركة الأساسي وتحدد هوية الأطراف التي تسعى الشركة إلى تقديم المنفعة لها.

تدمج الشركات ذات الغايات السامية العميقة غايتها بطريقة شاملة ضمن استراتيجيتها، وعملياتها، وطريقة تواصلها، وممارساتها في مجال الموارد البشرية، وآليات صنع القرارات الخاصة بالجوانب العملية والتشغيلية فيها، بل وحتى ضمن ثقافتها. لكن المؤسف في الأمر هو أن عدد هذا النوع من المشاريع محدود للغاية. فالغالبية العظمى من الشركات تتبنى ما أسميه “الغاية المريحة”، فهي تتحدّث عن غاية ما لكنها لا تترجمها إلى أفعال ملموسة، بل تتعاطى معها بطرق سطحية.

هناك بعض الشركات التي تحدد أهدافاً وغايات سامية وتخدم المجتمع إلى حد ما مع استمرارها في الوقت ذاته في بيع منتجات وخدمات تتسبب بضرر خطير. واعتماداً على منظوركم الأخلاقي للأمور، فإن شركات معيّنة تتعامل بالوقود الأحفوري، والتبغ، والكحول، والوجبات السريعة، والأسلحة، بل وحتى بعض وسائل الإعلام التقليدية وشبكات التواصل الاجتماعي، تندرج ضمن هذه الفئة. فالتزامها بالصالح العام للمجتمع غير قوي أو عريض بما يكفي ليقودها إلى التخارج من أنشطة تجارية مُربِحة لكنها محط شك. في هذه الحالات، لا تعدو الغاية مجرّد غطاء تتستر به هذه الشركات. وفي بعض الحالات المتطرفة، قد تلجأ شركات معيّنة حتى إلى استعمال بيانات منمّقة عن رسائلها السامية للتغطية على مخالفاتها. وتشمل الأمثلة كلاً من الشركة الناشئة ثيرانوس (Theranos)، المتخصصة بفحص الدم والتي وعدت بتوفير مسار نحو الرعاية الصحية الشخصية التي تناسب كل إنسان على اختلاف وضعه ليتبين كما قيل أنها قد زيّفت درجة كفاءة معداتها وأجهزتها، وشركة بوردو فارما، التي زُعِم أنها قد ضخّمت بطريقة دراماتيكية مبيعاتها من دوائها المخصص لتسكين الآلام أوكسي كوتين (OxyContin) ما أدى إلى وضع كارثي من انتشار لتعاطي الأفيون المدمر.

تلجأ شركات أخرى إلى ما أسميه “تبنّي الغاية على الهامش”، فهي تدعم العمل الخيري من خلال جهودها في مجال المسؤولية الاجتماعية للشركات وتحقق أرباحاً وإيرادات جيدة من أنشطتها التجارية، لكنها تُبقي الأمرين منفصلين. ورغم أن هذه الشركات تساعد المجتمع إلى حد ما وتكافئ المساهمين بكل تأكيد، إلا أنها لا تنجح في تحويل نفسها إلى كيانات تروّج للاستدامة البيئية، ودعم المجتمع، وعافية الموظفين.

ثم هناك الشركات التي تتبّنى الغاية كصفقة مُربِحَة لجميع الأطراف. فهي تسعى إلى الوصول إلى المنطقة التي تضمن التقاطع بين القيمتين الاجتماعية والاقتصادية. لكنها لا تفي بوعودها عادة إلا عندما تكون المحصلات المثالية ممكنة (وهو وضع أقل شيوعاً مما نعتقد) وبالتالي فهي تفشل عادة إما في مقاييس الربح أو مقاييس الغاية – وغالباً ما يكون فشلها أكبر في الحالة الثانية. وكما يقول الصحفي والمعلق آناند غيريدارداس: “تقديم وعد بتجربة تخلو من الألم” – أي فكرة أن “ما هو جيّد بالنسبة لي سيكون جيداً بالنسبة لك” وأن المستثمرين وكبار التنفيذيين ليسوا بحاجة إلى تقديم تضحيات لخدمة الصالح العام – هي فكرة ساذجة جداً.

أما المؤسسات ذات الغاية السامية العميقة فوضعها مختلف. فكما يشير اسمها، هي ملتزمة التزاماً عميقاً بتحقيق نتائج اجتماعية إيجابية ونتائج تجارية إيجابية، وهي تصوغ جميع قراراتها وإجراءاتها وعملياتها مهما كانت صغيرة في ضوء أهدافها وواجباتها التي اختارتها لنفسها، ويتبنى قادتها عقلية مثالية عملية. وهذا يعني أنهم لا يكتفون ببساطة بقبول المقايضات المفروضة عليهم، بل يغمرون أنفسهم فيها. وهم عازمون على بث الحياة في أوصال الغاية التي تتبناها شركتهم، لكنهم يتفهمون أيضاً أنه يجب عليهم اللعب والفوز وفق الضوابط والقيود التي يفرضها نظامنا الرأسمالي.

انظروا إلى الفقرة الجانبية التي تحمل عنوان “الموازنة بين الغاية والأرباح عند اتخاذ القرارات”. تدّعي كل شركة متمحورة حول غاية معيّنة وتهدف إلى تحقيق الأرباح أنها تسعى إلى أن تكون في مربّع “الغاية مع الربح”. تتمكن الشركات ذات الغاية السامية العميقة، التي يترأسها قادة يتبنّون فلسفة مثالية عملية، من الوصول إلى هذا الهدف أكثر من غيرها لأنها ليست ملتزمة في حقيقة الأمر بتحقيق الغاية والربح فحسب، بل هي مستعدة أيضاً للبقاء في مربّع “الربح أولاً” أو مربّع “خدمة الصالح العام” لفترة معيّنة من الزمن، شريطة أن ترى طريقة تسمح لها بالانتقال جانبياً أو إلى الأعلى للوصول إلى الحالة المثالية المُربحة لجميع الأطراف في المستقبل. وقد تتجنب هذه الشركات القرارات التي تقود إلى مكسب تجاري فقط دون أن تنطوي على أي احتمال لتحقيق منفعة اجتماعية. أما إذا كان هناك خيار لتعزيز الأرباح بطريقة ستؤدي يوماً ما إلى نشر الخير العميم، فإنها قد تتبنى هذا الخيار وتسعى بجد لضمان أن تعمل في نهاية المطاف على توفير المنافع لأصحاب المصلحة المتعددين. وعلى المنوال ذاته، إذا كانت لديها فكرة لخدمة الصالح العام تؤمن بأنها ستصبح فكرة مُربحة مع مرور الوقت، فإنها قد تجازف بتبنّيها ومن ثم ستفعل كل ما بوسعها لضمان نجاحها مالياً.

يدرك هؤلاء القادة استحالة صياغة حلول مثالية تفيد جميع الأطراف على قدم المساواة طوال الوقت. لذلك فإنهم يتقبّلون عوضاً عن ذلك حلولاً قد تتطلب تضحية على المدى القصير أو تضحية جزئية من البعض لكنها تحقق رصيداً من القيمة على المدى البعيد للجميع.

الموازنة بين الغاية والأرباح عند اتخاذ القرارات

في الآليات التي يتّبعها القادة لاتخاذ القرارات، ربما يكونون مدفوعين بعوامل اجتماعية (البيئة، المجتمعات المحلية، الموردون، الزبائن) أو بعوامل تجارية (بصورة أساسية مصالح المساهمين، وفي بعض الأحيان وبصورة غير مباشرة، الزبائن والموظفون والموردون). وتسهم القرارات التي تقع في المربع العلوي الأيسر في دعم النوعين من العوامل معاً، حتى لو كان هناك اضطرار في بعض الأحيان إلى إجراء مقايضات. أما القرارات التي تقع في المربع السفلي الأيمن فليست مفيدة لأي طرف. وبالنسبة للمربعين العلوي الأيمن والسفلي الأيسر فهما يمثلان خيارات مفيدة إما للمساهمين أو للمجتمع ولكن ليست مفيدة للطرفين معاً.

الانتقاء من بين الخيارات الصعبة

دعونا الآن نراجع كيف تنجح هذه الشركات ويبرع هؤلاء القادة في إدارة هذه المقايضات وعمليات المفاضلة بين الخيارات.

من خلال الثبات في التشبث بالغاية كمنارة لا يجب الحياد عنها. وفقاً لـ بوري من شركة غوثام غرينز، الالتزام بالريادة البيئية (على التوازي مع نمو الشركة) هو أمر ينتشر في أرجاء الحمض النووي للشركة بأكملها. وهذا يعني أنه نقطة الانطلاق في أي عملية لاتخاذ القرار، سواء أكان التنفيذيون يعملون على صياغة استراتيجية بعيدة المدى أو يتناولون مسائل تكتيكية على نطاق ضيّق.

لنأخذ معضلة تغليف الخضراوات على سبيل المثال. فبعد أن بحث فريق بوري عن مزايا عدة خيارات صديقة للبيئة، وقع اختيارهم في بادئ الأمر على حاويات شديدة الجاذبية مصنوعة من ألياف قابلة للتحويل إلى أسمدة. وبما أن هذه العبوات كانت ذات أسعار ميسّرة ومناسبة للبيئة، فقد بدت صفقة مُربحة لجميع الأطراف ومثيرة للاهتمام. ولكن عندما بدأ العاملون بحصاد ثمار الملفوف وتعبئتها، واجهت الشركة مشكلة، فقد كانت هذه النباتات الخضراء تذبل بعد أيام فقط مقارنة بالعبوات البلاستيكية التي كان الملفوف يحافظ على نضارته فيها لأسبوعين أو أكثر.

اعتباراً من تلك اللحظة، كان بوسع الشركة المضي قُدُماً في طريق “خدمة الصالح العام” والالتزام بالعبوات المصنوعة من الألياف والقابلة للتحويل إلى أسمدة وربما الوصول إلى وقت ستفلس فيه الشركة بما أن الباعة والمستهلكين سيرفضون خضارها الذابلة. أو كان بوسعها وبسرعة اختيار تحقيق الأرباح والانتقال إلى استعمال العبوات البلاستيكية دون أن تفكّر في الأمر للحظة واحدة. لكن الشركة وبهدي من غايتها أجرت المزيد من الأبحاث لعدة أشهر إضافية.

كان أحد الخيارات البديلة يتمثل في ترك الخضار والفواكه دون تغليف على أن تبيعها متاجر التسوق إلى المستهلكين ضمن صناديق مفتوحة. لكن المتسوقين كانوا يبتعدون تدريجياً عن هذه الطريقة في التسوق معتبرين أن الخضار المغلفة أنظف، وذات جودة أعلى، وأكثر أماناً للأكل. كما قال زبائن غوثام غرينز من متاجر التجزئة إنهم قد يظلون يشترون الخضار منها، ولكن ليس بالمقدار الذي كانوا ينوون الشراء به سابقاً. لم تكن هذه الوصفة تسمح لأي شركة بالنجاح في تطبيق رؤيتها الأوسع المتمثلة بإعادة إحياء القطاع الزراعي.

لجأ بوري وفريقه بعدها إلى إجراء أبحاث تتناول مختلف أنواع العبوات البلاستيكية المتاحة. وكان تركيزهم الأساسي منصبّاً مجدداً على الاستدامة. وقد أثارت العبوات البلاستيكية القابلة لإعادة التدوير والمعادة التدوير اهتمامهم، لكن تكلفتها كانت باهظة للغاية. وقد بدت العبوات البلاستيكية القابلة للتحويل إلى أسمدة الخيار الأنسب، لكن سرعان ما توصّل الفريق إلى أن هذا الخيار لم يكن صديقاً للبيئة بما يكفي كما بدا ظاهرياً، لأن الموردين كانوا يستعملون ذرة مدعومة مالياً ومعدّلة وراثياً لتصنيعها، ولن يكون بالإمكان تحويلها إلى أسمدة إلا في حالة المستهلكين الذين كانوا يعيشون بالقرب من المنشآت البلدية المناسبة. وهذا يعني أن معظم تلك العبوات سيجد طريقه في نهاية المطاف إلى مطامر القمامة، أو الأسوأ من ذلك حتى ألا وهو أن تُخلط هذه العبوات مع المواد القابلة لإعادة التدوير رغم أنها غير صالحة لذلك.

في النهاية، قررت غوثام غرينز استعمال نوع محدد من البلاستيك (أي الرقم واحد (#1 PET))، وهو أكثر نوع مقبول على نطاق واسع في منشآت إعادة التدوير. وبعد مرور عشر سنوات، ما تزال الشركة تستعمل العبوات ذاتها. لكنها تضم مجموعة متخصصة من الموظفين الذين يواظبون على تتبّع كل جديد في عالم التكنولوجيا والبحث عن خيارات أكثر استدامة. لم تكن الغاية في هذه الحالة مجرّد نقطة البداية في عملية صنع القرار، وإنما كانت أيضاً مصدراً دائماً للوضوح ساعد القادة على تحسين فهمهم الآخذ بالتطور التدريجي لعملية مقايضة صعبة وانتقاء خيارات محددة مدروسة بالاستناد إلى معلومات واضحة في معرض تعاملهم مع هذه المقايضة بين الخيارات المختلفة.

ليفونغو هي مؤسسة أخرى استعملت الغاية كمنارة تسير بهديها في معرض اتخاذها لقرارات صعبة. تأسست الشركة على يد غلين تولمان في عام 2014 وقد نذرت نفسها لخدمة غاية بسيطة ولكن ثورية وتتمثل في مساعدة الناس المصابين بأمراض مزمنة مثل داء السكري، الذي يتطلب مراقبة منتظمة لمستوى السكر في الدم، على المحافظة على صحتهم دون الاضطرار إلى إجراء زيارات متكررة إلى المستشفيات أو عيادات الأطباء. وقد كانت هذه قضية شخصية بالنسبة لغلين الذي كان رائد أعمال لسلسلة من مشاريع الرعاية الصحية، فقبل عقد من الزمن، كان ابنه سام، الذي كان في الثامنة من عمره وقتها، قد شخّص لديه داء السكري من النوع الأول.

توفّر الشركة التي استوحي اسمها ليفونغو من عبارة باللغة الإنجليزية تعني “عِش الحياة وأنت منطلق” للمستخدمين (“الأعضاء” كما تسميهم) أجهزة تقدّم لهم مقاييس صحية فورية بعد إدخال شرائح قياس سكر الدم في الجهاز ومن ثم تحمّل البيانات في خدمة الحوسبة السحابية، بما يسمح بالمتابعة، والتفسير، وتقديم التوصيات، بشكل متّسق، بل وإرسال إشعارات لإنذار المستخدمين عندما تبدو البيانات بعيدة عن القيم الطبيعية. وبما أن تولمان وفريقه يضعون نصب أعينهم رسالتهم المتمثلة في تسهيل حياة الآخرين، فإنهم لجأوا إلى بعض المقايضات غير التقليدية في وقت مبكر.

شملت هذه المقايضات تقديم شرائح فحص سكر الدم مجاناً وذلك كطريقة لتشجيع الناس على استعمالها بوتيرة أكبر؛ وتوظيف فريق للرعاية عن بعد يعمل عن طريق الإنترنت على تقديم مشورة آنية في الحالات الطارئة؛ وإبقاء الأفراد على المنصة حتى لو كانوا قد تركوا صاحب العمل الذي مكنهم في بادئ الأمر من الاشتراك بالخدمة. مثّلت هذه الخيارات كلها استثمارات كبيرة بالنسبة لشركة ناشئة صغيرة – وهذه قرارات وضعتها في خانة الشركة التي تخدم الصالح العام وقتها – لكن ليفونغو كانت تعلم أن الثمار الإيجابية التي ستحصدها على المدى البعيد سوف تتمثل في الاحتفاظ بالزبائن وتحقيق القيمة لصالح المستثمرين. وفي غضون عامين من انطلاق الشركة، كان لديها 53 ألف عضو فعّال ينتمون إلى 200 عميل، و100 موظف سعيد جداً، بينما بلغت إيراداتها ما يقرب من 40 مليون دولار. وبعد أن طرحت أسهمها على الاكتتاب العام في يوليو/ تموز 2019، قُدّرت قيمة ليفونغو بمبلغ 3.4 مليار دولار. وفي العام الماضي، وقبل اندماجها مع شركة تيلادوك (Teladoc)، قُدّرت قيمتها بمبلغ 18.7 مليار دولار.

المثالية العملية تعني رفض التضحية بالتقدم الحقيقي المحرز، وحتى لو كان غير مكتمل الأركان، في سبيل الكمال، والتحلي بما يكفي من الشجاعة لاتخاذ إجراءات ملموسة قد تتسبب بالألم على المدى القصير.

من خلال تبنّي الخيارات المتناقضة دون الاضطرار إلى المقايضة فيما بينها. تقاوم الشركات ذات الغايات السامية العميقة وقادتها الحاجة الملحة إلى التنازل عن اتخاذ القرارات الصعبة. لا بل هم مستعدون لتقبّل فكرة البقاء في حالة من عدم الارتياح والغموض والتناقض لفترة أطول. لذلك أمضت غوثام غرينز أشهراً وهي تستقصي أفضل نوع من مواد التغليف واستقر بها المطاف في النهاية على حل غير مثالي مع الاستمرار في البحث عن حل أفضل.

وكما قالت سارة كابلان من كلية روتمان (Rotman School)، فإن الشركات لا تمضي قُدماً “معلنة أن المشاكل غير قابلة للحل”. بل يجب عليها أن تتعلم كيف “تثابر حتى تحل هذه التوترات”. ويجب أن ينطوي إنجاز هذه المهمة على إجراء مشاورات مكثفة مع أصحاب المصلحة للاطلاع على آرائهم، وعلى التبعات المحتملة لمختلف القرارات عليهم، وما هي التحركات التي يعتبرونها حجر عثرة في طريق النجاح. انظروا مثلاً كيف تحدّث فريق بوري إلى المشترين من متاجر التجزئة، وكيف تواصل مع الخبراء في مجال المواد وإعادة التدوير، وكيف أشرك موظفيه طوال عملية اتخاذ القرار.

لنأخذ حالة شركة إتسي، سوق التجارة الإلكترونية المتخصصة بالمشغولات ومنتجات الحرف اليدوية التي اضطرت إلى التعامل مع مقايضات أصعب في السنوات القليلة الماضية. فالشركة التي أسسها عام 2005 الحرفي روب كالين وثلاثة آخرون كانت دائماً ما تعرّف عن نفسها بواسطة غايتها المتمثلة بمنح “الحرفيين” المكان والأدوات التي تسمح لهم بتسويق منتجاتهم وإنشاء مشاريعهم الصغيرة. وبحلول عام 2012، وفي عهد رئيس تنفيذي جديد هو تشاد ديكنسون، تبنّت إتسي رسالة أكثر طموحاً – “إعادة تخيّل التجارة بطرق جديدة تسهم في بناء عالم أكثر نجاحاً وديمومة” – وأرادت أن تحصل على تصنيف الشركة الملتزمة التزاماً صارماً بالمعايير البيئية والاجتماعية ومعايير الحوكمة. وبحلول عام 2015، العام الذي أدرجت فيه في البورصة، كانت الشركة تساعد أكثر من 1.4 مليون بائع كل عام على بيع بضائع تبلغ قيمتها أكثر من ملياري دولار سنوياً، وكانت تجتذب كبار أصحاب المواهب بفضل غايتها الاجتماعية وسياساتها السخية في مكان العمل. أما الشيء الوحيد الذي لم تكن إتسي تحققه فهو الأرباح، فهي كانت تخسر المال منذ عام 2012، وفي غضون تسعة أشهر من طرح أسهمها للاكتتاب العام، كان المستثمرون قد عيل صبرهم منها. وقد هبطت قيمة السهم بنسبة 75%، وطُرد ديكنسون من منصبه، وفي 2017، عُيّن رئيس تنفيذي جديد هو جوش سيلفرمان.

فهم سيلفرمان المهمة الملقاة على عاتقه والمتمثلة في إعادة النظر في الشركة والتوصل إلى حل يسمح لها بالعمل بطريقة أفضل تخدم مصلحة الجميع، وإعادة التوازن ما بين أصحاب المصلحة المختلفين، وزيادة درجة المساءلة في الشقين التجاري والاجتماعي من أنشطتها. وبينما كان هو وفريقه يعكفون على تشخيص المشاكل، أدركوا أن الشركة كانت تعطي الأولوية للموظفين والاعتبارات الاجتماعية الأوسع (وهي شروط أساسية للمحافظة على تصنيف الشركة الملتزمة التزاماً صارماً بالمعايير البيئية والاجتماعية ومعايير الحوكمة) على حساب البائعين والمساهمين، وهو شيء كان يشكل تهديداً كبيراً لسلامتها على المدى البعيد.

خلال الأشهر القليلة التالية، أدخلت إتسي بعض التغييرات الأساسية التي تمثّلت في تسريح 160 موظفاً (أضيفوا إلى 80 موظفاً كانت قد سرّحتهم قبل تولّي سيلفرمان لمنصبه)، أي ما مثّل ربع قواها العاملة تقريباً، وأغلقت بعض المشاريع التي كانت مفضّلة لدى الموظفين؛ وحلّت مجموعة الاستدامة فيها، وأعلنت أنها ستتخلى عن الشهادة التي أعطيت إليها بوصفها شركة ملتزمة التزاماً صارماً بالمعايير البيئية والاجتماعية ومعايير الحوكمة. كانت الارتدادات السلبية قاسية. وقد وصف أحد الموظفين السابقين الغاضبين هذه التحركات على أنها “قصة تختصر الرأسمالية وتبعث برسالة تحذيرية”.

ومع ذلك، وكما وصف سيلفرمان الأمر لي، فقد كان تركيزه منصبّاً على المدى البعيد، وكان يتصرف بوحي من غاية إتسي وأصحاب المصلحة فيها. وفي غضون بضع سنوات، تمكنت الشركة من تعيين الموظفين من جديد، فيما بدأت مبادراته المؤثرة (التي عُدّلت للتركيز على ثلاثة مجالات أساسية هي: تمكين الناس، والمسؤولية الاجتماعية، والتنوع) تعطي ثمارها المرجوة منها. وبحسب تقديرات سيلفرمان، فإن المقايضات التي اضطرت الشركة إلى القيام بها في 2017 سمحت لها بزيادة إنتاجيتها بمقدار خمسة أضعاف، وهو رقم مُقاس بعدد إصدارات البرمجيات الأسبوعية التي ينجزها مهندسوها لتحسين تجربة البيع والشراء على الموقع.

قفزت المبيعات الإجمالية للشركة في كل سنة من السنوات الثلاث الأخيرة، وأصبحت إتسي في خانة الشركات القادرة على تحقيق أرباح منذ 2017. وفي 2020، وبفضل ارتفاع المبيعات أثناء الجائحة، تجاوز عدد البائعين المنتسبين إليها 4 ملايين بائع حققوا للشركة إيرادات تزيد على 1.7 مليار دولار ودخلاً صافياً يبلغ 349 مليون دولار. وهي توظف حالياً أكثر من 1400 شخص، وهو رقم يزيد ببضع مئات عما كان عليه الحال قبل تسريح العمال. كما أن أثرها الاجتماعي في مجالاتها الأساسية لافت أيضاً، إذ بلغت مساهمة إتسي في اقتصاد الحرفيين ما يقرب من 6 مليارات دولار، وهي أول وجهة أساسية للتسوق عن طريق الإنترنت تعوّض انبعاثاتها الكربونية من الشحن بنسبة 100%، كما أنها ضاعفت من عدد الأفراد المنتمين إلى صفوف قواها العاملة من بين الأقليات غير الممثلة على النحو الكافي في المجتمع، في حين أن أغلبية موظفيها من الإناث. وبما أنها قد حققت كل هذه الإنجازات، فإن سعر سهمها قد حلّق عالياً.

من خلال البحث عما هو أبعد من الحلول قصيرة الأجل المربحة لجميع الأطراف، والسعي إلى تبنّي الحلول التي تُعتبر مقبولة في الوقت الحاضر وتَعِد بمنافع أوسع في المستقبل. المثالية العملية تعني رفض التضحية بالتقدم الحقيقي المحرز، وحتى لو كان غير مكتمل الأركان، في سبيل الكمال، والتحلي بما يكفي من الشجاعة لاتخاذ إجراءات ملموسة تركز على المستقبل، حتى لو كانت قد تتسبب بالألم للبعض على المدى القصير. لا شك في أن هذا بالضبط هو ما حصل مع إتسي. ولم تكن قرارات ليفونغو مفيدة للمستثمرين على الفور. واستعمال غوثام غرينز للعبوات البلاستيكية يترك أثراً سلبياً على البيئة.

بيد أنكم يجب أن تتذكروا أيضاً أن القرارات غير المثالية حتى يجب أن تؤخذ بطريقة متأنية لكي تتمكنوا من تحقيق أهدافكم الاجتماعية وأرباحكم في يوم غير بعيد. فعندما تُسهم فكرة تجارية أو مسار إجرائي معيّن في تحقيق قيمة اجتماعية بصورة أساسية، انتبهوا إلى أنكم قد ترغبون بإجراء القفزة المطلوبة قبل أن تبدو القيمة الاجتماعية قابلة للتحقيق بالكامل، ولكن تابعوا عملية استكشاف الخيارات الأخرى بقوة، وحددوا لأنفسكم إطاراً زمنياً. وعندما يبدو لكم أن الخطط المحتملة ستسهم بصورة أساسية في تحقيق قيمة تجارية، ابحثوا عن الطرق التي قد تساعدكم في تحقيق أثر اجتماعي أيضاً، وإذا كانت هذه التوقعات إيجابية، تابعوا السير في طريقكم. (أما إذا لم تكن إيجابية، فتخلوا عنها) وفي حالة الشركة القديمة الراسخة، بوسعكم محاولة إدراج الغاية ضمن منتجاتكم، وخدماتكم، ومبادراتكم الحالية، كأن تسعوا مثلاً إلى جعل عملياتكم أكثر استدامة وأكثر احتراماً للمسؤولية الاجتماعية، أو إلى جعل منتجاتكم أكثر أماناً وحفاظاً على صحة الناس، أو بوسعكم تبنّي مقاربة إجمالية من خلال جعل جهودكم تكمّل جهود الآخرين من أجل تقديم خدمة أفضل لجميع أصحاب المصلحة مع اتخاذ الخطوات الضرورية وتوفير الاستثمارات المطلوبة لتحويل شركتكم من شركة “تتبنّى الغاية على الهامش”، إلى شركة ذات غاية سامية عميقة، وذلك في أقرب وقت ممكن.

في ركروت، الشركة التي تعمل انطلاقاً من اليابان وتمتلك مواقع إنترنت تركز على الوظائف مثل إنديد (Indeed) وغلاسدور (Glassdoor)، فضلاً عن امتلاكها لشركات متخصصة بالتوظيف والتعيين وتكنولوجيا الموارد البشرية في أنحاء العالم، لن تتبنى الإدارة “على الإطلاق” تمويل أي مشروع لا يحقق إلا العوائد المالية فقط، كما قال لي شوغو إيكوتشي الرئيس التنفيذي السابق لشؤون الموارد البشرية فيها لأن ذلك الأمر سيشكل خرقاً لأحد مبادئها الأساسية الثلاثة، ألا وهو “إعطاء الأولوية للقيمة الاجتماعية”. (المبدآن الآخران هما “إذهال العالم” و”الرهان على الشغف”). وفي الوقت ذاته، أصر على أن الشركة لن تدعم المشاريع التي تخدم المجتمع لكنها تفتقر إلى القدرة على النجاح تجارياً. “كنا دائماً وأبداً نحافظ على التوازن بين القيمة الاجتماعية والقيمة الاقتصادية”، كما قال لي.

بحلول عام 2020، كانت ركروت قد أمضت ثماني سنوات في تمويل في أحد مشاريعها اليابانية، ألا وهو ستادي سابوري (Study Sapuri)، المنصة التعليمية التي تعمل عن طريق الإنترنت والمصممة لمعالجة حالات التفاوت وعدم المساواة في التعليم على مستوى البلاد، على أمل تحويلها إلى منصة رابحة. لكن هذا الصبر لا يعني الاستكانة. فالتنفيذيون يخوضون “نقاشات وسجالات حامية الوطيس بخصوص كيفية تطوير هذه الشركة وكيف بوسعها تحقيق المزيد من الإيرادات”، كما شرح إيكوتشي.

ثمة قصة مشابهة من شركة المعدات الزراعية التابعة لمجموعة ماهندرا غروب التي قررت إتاحة برمجيتها الخاصة بالخدمات الزراعية فاس (FaaS) مجاناً. وقد أتت هذه الخطوة على حساب الأرباح لكنها كانت طريقة سريعة وفاعلة لخدمة الرسالة الأوسع للشركة المتمثلة في “استعمال جميع مواردنا بطريقة ابتكارية لتحقيق تغيير إيجابي في حياة جميع من نخدمهم من أصحاب مصلحة ومجتمعات منتشرون في جميع أنحاء العالم”. وقد تمكن المزارعون الذين يفتقرون إلى الأموال النقدية من الوصول فوراً إلى أحدث التكنولوجيات التي ستساعدهم في زيادة إنتاجيتهم وتعزيز دخلهم المحتمل. غير أن المنافع المالية التي ستتحقق في نهاية المطاف لم تكن بعيدة المنال. فقد ساعدت تكنولوجيا فاس المجانية الشركة على الحصول على حصة إضافية من السوق وعززت نشاطها التجاري.

من خلال شرح الأسباب الموجبة بطريقة فعّالة. عندما تدرسون المقايضات المختلفة الضرورية، من الأساسي جداً أن تشرحوا المنطق الكامن وراء قراراتكم لكي يتمكن أصحاب المصلحة لديكم من فهم علاقة هذه القرارات بغايتكم ودعمها. فالصراحة تساعد في بناء الثقة والتضامن من خلال إعطاء معنى للتضحيات التي سيقدّمها بعض أصحاب المصلحة، وتعزيز الالتزام المتبادل بالمنافع المشتركة التي ستتحقق على المدى البعيد.

تحدّث قادة إتسي بمنتهى الصراحة مع الموظفين والزبائن عندما شرحوا لهم سبب أهمية عملية إعادة الهيكلة التي جرت عام 2017 حيث كان الهدف منها هو إعادة الشركة إلى المسار المالي السليم لكي تفي بوعدها بأن تكون أفضل سوق إلكترونية للحرفيين في العالم. ويتحدث سيلفرمان وآخرون علناً عن القرارات غير المثالية التي اضطروا إلى اتخاذها في بعض الأحيان. كما أن ليفونغو، وركروت، وماهندرا لم تخفِ أبداً خياراتها المستندة إلى غاياتها عن المساهمين (الذين كانوا من الداعمين برأسمال مغامر (جريء) في حالة ليفونغو، ومن المستثمرين في البورصة في حالة الشركتين الأخريين)؛ بل لجأ التنفيذيون إلى تحديد الأسباب الدقيقة التي دفعتهم إلى اتخاذ تلك الخيارات وكيف ستقود في نهاية المطاف إلى تحقيق عوائد أفضل.

تعمل بولر – وهي شركة عائلية مملوكة من الجيل الخامس من أفراد العائلة ومتخصصة في الآلات عالية الجودة المخصصة للطحن، والفرز، وسباكة القوالب، وهندسة العمليات، فضلاً عن خبرتها في الخدمات المتعلقة بها – على الدوام على تبرير سبب اتّباعها لمعايير استدامة صارمة لزبائنها والمساهمين في تمويلها. وثمة زبائن يقتنعون بهذا الشرح ويدعمونه، وهناك آخرون يشككون ويساورهم القلق من أن الشركة تضحّي بالأداء في سبيل خدمة الأهداف الاجتماعية. وقلّة منهم يشعرون أن ممثليها والتنفيذيين الذين يديرونها أصبحوا أخلاقيين بشكل مفرط و”يلقون عليهم المحاضرات” بخصوص الكيفية التي يجب أن يديروا بها شركاتهم. وكما قال لي موظف لدى أحد كبار العملاء “لا أحد سيقول: هذا شيء عظيم لأن الشركة هي شركة مستدامة مثالية، لذلك سوف أنفق عليها مالاً” أكثر من المال الضروري الذي سأنفقه على شركة منافسة”.

نتيجة لذلك، تحتاج بولر إلى توخّي الحذر الشديد عندما تحاول استمالة شركة جديدة، كما أخبرني مدير الموارد البشرية السابق فيها ديباك ماني. ففي بداية عملية تقديم العروض الترويجية، يميل التنفيذيون فيها إلى التركيز على الأبعاد “الملموسة” مثل الجودة، والديمومة، والسعر. ولكن بعد أن يتقدموا إلى الجولات اللاحقة، ينتقلون إلى التركيز بشكل أكبر على الغاية التي تميّز الشركة برأيهم عن منافساتها التي تُعتبر مواصفات منتجاتها أو خدماتها خلافاً لذلك مكافئة لمنتجات وخدمات بولر. وبما أن هناك فرصة للمشاركة في “إنقاذ العالم”، فإن هذا الشيء يساعد الزبائن على تبرير اختيارهم لشركة بولر. ويلخّص الرئيس التنفيذي للشركة شتيفان شايبر الأمر تلخيصاً جميلاً بقوله: “ما هي القيمة؟ إذا لم أكن قادراً على الإجابة عن هذا السؤال، فهذا يعني أنها ليست جيدة”.

التصرف بحسن نيّة في  عالم غير مثالي

إذا ما أراد القادة تحقيق أداء رفيع المستوى وإبهار أصحاب المصلحة، فإنهم يجب أن يتخلوا عن المفهوم القائل إن الحلول المُربحة لجميع الأطراف المعنية هي الحلول الوحيدة المقبولة. بطبيعة الحال، يجب عليكم أن تتجنبوا القرارات التي تنم عن إخفاق في الجانبين المالي والاجتماعي مهما كان الثمن. ولا يجب أن تكونوا راضين عن أنفسكم إذا ما اكتفيتم بفعل الخير أو بمراكمة الأرباح – بل يجب أن تتحدوا أنفسكم على الدوام لكي تبرعوا في الاثنين معاً. لكنكم يجب أن تعترفوا بعدم قدرتكم على تحقيق نتائج مثالية لصالح الجميع طوال الوقت، وأن أفضل طريقة للوصول إلى منافع واسعة النطاق على المدى البعيد تعني أحياناً التفاوض بصبر على تضحيات على المدى القصير.

في نهاية المطاف، صفاء نيتكم هو المهم، إضافة إلى مدى استبسالكم في الدفاع عنها وإظهارها. فأصحاب المصلحة يعلمون أنكم لا تستطيعون تلبية مصالحهم في جميع الأوقات بطريقة مثالية. لكن التزامهم بالشركة وغايتها يصبح أعمق عندما تبذلون جهوداً جريئة ومتأنية على الدوام. وبوسعكم جعل غايتكم ذات مغزى في مؤسستكم من خلال تعاملكم مع كل خيار بطريقة تدل على عزمكم على خدمة جميع أصحاب المصلحة وإلى أقصى حد ممكن دون أن يغيب عن أذهانكم أن المقايضات هي في بعض الأحيان ضرورة قصوى.

عندما يقدّم القادة الذين يتبنّون غايات سامية عميقة في بعض الأحيان تنازلات في فلسفتهم المثالية بسبب التفاصيل العملية التي تفرضها قواعد التجارة، والعكس صحيح، فإنهم يسهمون في نهاية المطاف في تحقيق المزيد من القيمة المشتركة العريضة. كما أنهم يُثبِتون لنا جميعاً ما الذي نستطيع تحقيقه إذا لم نتعامل مع مثلنا العليا بطريقة متطرفة وإنما إذا سعينا عوضاً عن ذلك إلى بلوغها بطرق مدروسة، وعملية، ومستدامة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .