دروس مبكّرة من تجربة الهند في إلغاء العملة النقدية

6 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

هل نجحت الهند في تحقيق معجزة نقدية وسياسية؟

تأمّل تسلسل الأحداث في ملحمة إلغاء العملة النقدية، اتّخذت الحكومة الهندية، في نوفمبر/تشرين الثاني، تدابير اقتصادية تنطوي على مخاطر عالية وشديدة في أكبر ديمقراطية في العالم بهدف الحد من الفساد. أوقفت الهند 86% من النقد المتداول بين عشية وضُحاها. وأعقب ذلك فوضى في بلد يعتمد على النقد بنسبة تقارب 90%. وكما قلت في ذلك الوقت، كان الأمر يمثل دراسة حالة ضمن سياسة سيئة وتنفيذ أسوأ.

مضت أربعة أشهر، وبرزت خلالها بعض الآثار الواضحة. وعلى الرغم من أن تأثير الحملة على الفساد لم يتبين بعد، كوفئت حكومة رئيس الوزراء ناريندرا مودي بالفوز في انتخابات منتصف المدة على مستوى الولايات، والذي نُظر إليه باعتباره استفتاء على إجراء الحكومة غير المسبوق.

قد تكون سلسلة الأحداث هذه مقتبسة عن بوليوود باستثناء التغييرات في الغناء والرقص والأزياء، وذلك لاشتهار صناعة أفلام بوليوود المعروفة على نطاق واسع برحلاتها الخيالية المثيرة.

ولّدت تجربة إلغاء العملة النقدية في الهند بعض التصوّرات المهمة المتعلقة بالنقد، والفساد، والبيانات، والاقتصاد الرقمي. لنتمعّن في بعض النقاط المهمة الجديدة:

إلغاء العملة النقدية ليس أفضل وسيلة للقضاء على الفساد

كان الباعث الأصلي لاتخاذ الإجراء الجذري في إلغاء العملة النقدية هو فضح ما يسمى السوق “السوداء” التي تغذيها الأموال المكتسبة بطريقة غير مشروعة وغير المعلنة لأغراض ضريبية. يُمثّل وجود هذا الاقتصاد الموازي عائقاً كبيراً أمام الاقتصاد الهندي، فقد دفع حوالي 1% فقط من الهنود ضرائب على أرباحهم عام 2013، وذلك وفقاً للبيانات التي صدرت مؤخراً. مُنح الشعب فرصة بعد الإعلان عن تغيير السياسة، حتى تاريخ 30 ديسمبر/كانون الأول عام 2016، لإعادة الأوراق النقدية بقيمة 500 و1,000 روبية إلى البنوك، وإلا فقد يخاطرون بخسارة قيمتها.

قُدّر تلقي البنوك 14.97 تريليون روبية، حوالي 220 مليار دولار بحلول 30 ديسمبر/كانون الأول، أو بمعنى آخر إلغاء 97% من قيمة العملة البالغة 15.4 تريليون روبية، وفقاً لتقرير “بلومبرغ” (Bloomberg). وفي حين أن القيمة الفعلية للعملة المودعة لا تزال محتسبة رسمياً، لا يوجد أدنى شك في قيام الحكومة بإعادة العملة المُبطلة. سوف يستغرق فرز الأموال المودعة والتحقق من شرعيتها بعض الوقت. وقد تحدّت معدلات الودائع هذه التوقعات التي صرّحت أن مجموعات كبيرة من الثروة غير المعلنة لن تُسجّل في البنوك وأن تجار السوق السوداء سوف يخسرون هذه الأموال، لأنهم لن يتمكنوا من إيداع أموالهم غير المعلنة دون أن يتم اكتشافها. ولكن لم تصدُق هذه التوقعات، وقد يعود ذلك جزئياً إلى براعة الشعب الذي وجد طرقاً عديدة لإعادة أمواله إلى البنوك، سواء كانت شرعية أم لا.

كان من الأفضل إبطال قيمة الأوراق النقدية ذات الفئة الكبيرة الأقل استخداماً (لاري سمرز هو من اقترح هذه الفكرة هنا). أبطلت الهند الأوراق النقدية المكونة من 500 روبية و1,000 روبية، والتي تبلغ قيمتها حوالي 7.50 دولاراً و15 دولاراً، وقد مثلت هذه الأوراق 86% من العملات المستخدمة. أثرّت هذه العملات المستخدمة على نطاق واسع على مجموعة كبيرة من الشعب من جميع أنحاء الطيف الاجتماعي الاقتصادي، بما في ذلك الفقراء.

نادراً ما تكون الأموال في مقدمة قائمة الأشخاص الفاسدين عند حاجتهم إلى أماكن لإخفاء مكاسبهم غير المشروعة. فتُحفظ نسبة ضئيلة فقط من الثروة غير المعلنة بشكل نقدي. وتبيّن في تحليل تحقيقات ضريبة الدخل أن أعلى مستوى للكشف غير المشروع عن النقود في الهند كان في عامي 2015-2016، وكان المكوّن النقدي حوالي 6% فقط. واستُثمرت باقي المكاسب في الأصول التجارية أو الأسهم أو العقارات أو المجوهرات أو أصول “بينامي” التي يتم شراؤها باسم شخص آخر.

وقد جادل بعض الخبراء القانونيين بأن إلغاء العملة النقدية ينتهك القانون، فيُسفر الإنهاء المفاجئ للديون العامة المستحقّة على الحكومة لحامل الأوراق النقدية عن قيام الحكومة بسلب “الممتلكات المنقولة” للفرد دون سهولة الوصول إلى بديل أو تعويض.

تستلزم السياسة العامة لاستئصال جذور الفساد اتباع نهج نظامي، مع أسلوب الترغيب والترهيب لتحفيز التغيير الثقافي والمؤسسي والسلوكي على المدى الطويل. أما الحل السحري، مثل إلغاء العملة النقدية بشكل جذري فهو حل غير مناسب.

الابتكار والإبداع حول المدفوعات الرقمية

وكان الفائزون غير المؤهلين في فترة إلغاء العملة النقدية هم لاعبو المحفظة النقدية المتنقلة، فاستحوذت شركة “بايتم” (Paytm) الرائدة في السوق على 170 مليون مستخدم، بزيادة استخدام بنسبة 435%، وزيادة بنسبة 250% في إجمالي المعاملات وقيمة المعاملات. يمكن القول إن الطفرة في الأعمال التجارية للمحافظ النقدية المتنقلة كانت طبيعية، على الأقل لنسبة 17% من السكان الذين يمتلكون هاتفاً ذكياً في أوائل عام 2016.

ثم سطعت في تلك الفترة قدرة الحكومة المبتكرة. سهّل تطبيق الدفع “بيم” (BHIM) المدعوم من الحكومة التحويلات الإلكترونية بين الحسابات المصرفية، فيمكن للمستخدمين إدخال رقم التعريف الأساسي الفريد والمكوّن من 12 رقماً لإجراء المدفوعات. كما يعمل النظام سهل الاستخدام على أي هاتف قديم عادي، ولا يلزم استخدام هاتف ذكي يدعم الإنترنت. بمعنى آخر، لقد كان حلاً شاملاً، وإذا استمرت الخدمة في التحسن، فستكون أمامها فرصة لتوسيع أنشطتها إلى سوق الهند الكبير.

إضافة إلى ذلك، هناك خطط لتفويض المدفوعات الرقمية في محطات الوقود والمستشفيات والجامعات، مع حظر المعاملات النقدية التي تتجاوز 4,500 دولار. لن تفرض السكك الحديدية الهندية رسوم خدمة على التذاكر المحجوزة عبر الإنترنت بعد الآن، وتلغي الحكومة أيضاً الرسوم المفروضة على الأجهزة عند نقطة البيع وأجهزة قارئات بصمات الأصابع.

إذا وضعنا العيوب في السياسة جانباً، تُعتبر هذه التحركات حافزاً مشجعاً للنظام الإيكولوجي حول المدفوعات الرقمية والتقنيات الصديقة للمستهلك.

لا تزال جودة البيانات والسياق مهمة كثيراً

أظهرت التقديرات الرسمية لمكتب “الإحصاء المركزي الهندي” (CSO) حول نمو الناتج المحلي الإجمالي، أن الاقتصاد نما بنسبة 7% بالربع المنتهي في ديسمبر/كانون الأول عام 2016. وكان هذا بالضبط ما توقعه مكتب “الإحصاء المركزي” في تقديره المسبق قبل إلغاء العملة النقدية. وهذا يعني أن إلغاء العملة النقدية لم يكن له أي تأثير على الاقتصاد بالنظر إلى التجارب المبلّغ عنها على نطاق واسع من إغلاق المصانع والشركات الصغيرة، وخسارة العمال أجورهم، والمشاريع التي تم تأجيلها، وهذا ما يثير الدهشة.

هناك العديد من المشكلات المتعلقة بأرقام مكتب “الإحصاء المركزي”. أولاً، هناك فجوة بين الوقت الذي جرت فيه التقديرات ووقت التوصل إلى البيانات الفعلية. جرى جزء كبير من هذا التقدير على أساس النماذج التي تعتمد على البيانات السابقة، والتي تكون أقل موثوقية عند وقوع حدث ما مثل إلغاء العملة النقدية. ثانياً، يلعب القطاع غير الرسمي دوراً غير متناسباً في اقتصاد البلد، فيُنتج 45% من الإنتاج ويوظف 94% من القوى العاملة، حسب أحد التقديرات. ويصعب في هذا القطاع الحصول على بيانات مباشرة موثوقة. كما أنه يعتمد على النقد في المقام الأول وتحمَّل هذا القطاع وطأة إلغاء العملة النقدية.

أخيراً، لا تملك الهند بيانات موثوقة عن مبيعات التجزئة الوطنية، لذا يجب على الإحصائيين استخدام أرقام الإنتاج لتقدير الإنفاق الاستهلاكي. ومما يضاعف تحديات التقدير هو أن أرقام الإنتاج هذه تتضمن بيانات الشركات المدرجة فقط، مما يُسفر عن نقص تمثيل الشركات غير المسجلة ومنتجي الصناعات غير الرسميين، أو الشركات التي تتأثر مباشرة بالحظر النقدي.

تأمل بعض البيانات الإضافية للربع الأخير من عام 2016. أظهر إنتاج المركبات التجارية والشحن بالسكك الحديدية وإيصالات ضريبة الخدمة ومبيعات الأجهزة المنزلية تباطؤاً، ما دفع بعض الاقتصاديين لتحديد توقّع نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 6.4% بدلاً من 7%. وكذلك:

سجلت صناعة السلع الاستهلاكية سريعة الحركة انخفاضاً بنسبة 1 – 2% من ناحية الحجم. وسجلت شركتا “هندوستان يونيليفر ليميتد” (Hindustan Unilever Ltd)، و”نستله” (Nestlé)، اللتان تعتبران من أكبر الأسماء في القطاع، انخفاضات كبيرة في الأرباح والإيرادات. شهدت “هندوستان يونيليفر ليميتد” انخفاضاً في حجم المبيعات بنسبة 4%، وفقاً لمنصة “بي دبليو ديسرابت” (BW Disrupt).

تراجعت مبيعات الجرارات للمزارعين الأثرياء بعد موسم الأمطار، فارتفع حجم التداول بنسبة 18% فقط في شهري أكتوبر/تشرين الأول وديسمبر/كانون الأول، مقارنة بنسبة 28% في الربع السابق وفقاً لتقرير “نيكي إيجان ريفيو” (Nikkei Asian Review).

ونمت مبيعات سيارات الركاب بنسبة 1% عن السنة في الفترة من شهر أكتوبر/تشرين الأول إلى ديسمبر/كانون الأول، مقارنة بنمو بنسبة 18% في الربع السابق. وحققت شركة “ماروتي” (Maruti) التي تُعتبر أكبر شركة لتصنيع السيارات في الهند زيادة بنسبة 3.5% في أحجام بيع السيارات، مقارنة بنمو 18.4% في الربع السابق، وفقاً لتقرير على موقع “سكرول إن” (Scroll.in).

انخفضت مبيعات المركبات ذات العجلتين أو الدراجات النارية، بنسبة 22% في ديسمبر/كانون الأول 2016 مقارنة بشهر ديسمبر/كانون الأول السابق، مسجلة أعلى انخفاض مبيعات شهري منذ عام 1997، كما ورد في “بزنس ستاندرد” (Business Standard).

تكافح البيانات الرسمية على مستوى الاقتصاد لتعكس الواقع تحديداً، لأن المعاملات النقدية مجزأة وتتحدى جمع البيانات الدقيق.

استمرار “الأقاويل الروائية” في الانتشار

في النهاية، لم يحكم الجمهور على تصرفات حكومة مودي على أساس قضايا غامضة، مثل النسبة المئوية للأموال المودعة في البنوك، أو النسبة المئوية للأصول غير القانونية المحتجزة نقداً، أو تعقيدات كيفية حساب نمو الناتج المحلي الإجمالي. كان على كل شخص يعيش في الهند تجربة نوع من الاضطراب أو الإزعاج. رغم ذلك، كانت الرسالة التي حملت الأهمية الكبرى هي تصرّف الحكومة الحازم نيابة عن الأفراد العاديين لمحاربة الفساد.

وقد وضحت تعليقات رئيس الوزراء في تجمع انتخابي في ولاية أوتار براديش الأمور كلها لأولئك الذين يشككون في حكمة السياسة بقوله “من ناحية يوجد هؤلاء (منتقدو حظر الأوراق النقدية)، الذين ينقلون ما يقوله في الأفراد في هارفارد (Harvard)، ومن ناحية أخرى يوجد ابن رجل فقير يحاول تحسين الاقتصاد من خلال عمله الشاق”.

ومنحت ولاية أوتار براديش حزب رئيس الوزراء فوزاً ساحقاً في الانتخابات في 11 مارس/آذار. بينما نحتفل بعصر البيانات الضخمة، قد تكون “الأقاويل” هي التي تدفع القرارات الأكثر عمقاً. لقد شهدنا ذلك في المملكة المتحدة والولايات المتحدة والآن في الهند. عندما يشعر الشعب أنك تقاتل من أجله، ستبدو أكثر الأدلة الملموسة سواء كانت بيانات أو تاريخاً أقل تأثيراً. سيواجه العالم اختباراً آخر لهذه النظرية قريباً مع الانتخابات الفرنسية الشهر المقبل والانتخابات الهولندية غداً.

في نهاية المطاف، قد يكون انتصار الأقاويل على البيانات هو النقطة الأكثر أهمية في ملحمة إلغاء العملة النقدية في الهند. وقد تعتبر هذه الملحمة حبكة فيلم لبوليوود الرائجة بعد كل شيء.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .