تخيل أنك الرئيس التنفيذي لشركة متوسطة الحجم، وقد عدت للتو من معتكف تخطيط استراتيجي مكلف دام عدة أيام مع فريق الإدارة بأكمله، وأمضيت خلاله ساعات في مناقشة جميع تفاصيل استراتيجيتك، فشعرت بانسجام أكبر مع موظفيك أكثر من أي وقت مضى. ولكن هل أنتم منسجمون ومتوافقون بالفعل كما تعتقدون؟

تشير دراستنا الجديدة إلى احتمال ألا تكونوا على هذه الدرجة من التوافق، وأن هذا النوع من عدم التوافق الاستراتيجي شائع جداً ومضر أكثر مما تعتقد.

في جزء من بحثنا المستمر، استقصينا آراء أكثر من 500 موظف في 12 مؤسسة مختلفة، ومنهم موظفون في الخطوط الأمامية ومدراء من الإدارة الوسطى ومسؤولون في المناصب التنفيذية العليا، حول تصورهم لمدى توافق شركاتهم مع استراتيجية المؤسسة. واكتشفنا أن المشاركين كانوا متفائلين إلى حد كبير، إذ أفادوا بأنهم يشعرون بأن الاتفاق الاستراتيجي داخل شركاتهم يصل إلى 82% في المتوسط. ولكن عندما حللنا الشروحات المكتوبة المفصلة التي أدلى بها هؤلاء الموظفون أنفسهم حول استراتيجيات شركاتهم، وجدنا أن التوافق الاستراتيجي الفعلي (الذي يقاس بناءً على التشابه في المفاهيم والمصطلحات المستخدمة) كان، في المتوسط، 23% فقط، أي أقل بمرتين إلى 3 مرات من التوافق المتصور.

من الطبيعي أن تخلق هذه الفجوة بين التوافق المتصور والفعلي مشكلات حقيقية داخل المؤسسة. اكتشفنا أن الموظفين في المؤسسات التي تكون فيها الفجوة أكبر بين التوافق الاستراتيجي الفعلي والمتصور يميلون أكثر إلى التشكيك في فعالية استراتيجية شركتهم وتنفيذها، وأفادوا بأن جهود شركاتهم لتنفيذ استراتيجياتها كانت أبطأ وذات جودة متدنية.

على سبيل المثال، قدّر الموظفون في إحدى شركات التكنولوجيا التعليمية في دراستنا الإجماع الاستراتيجي في مؤسستهم بنسبة 77%، لكن تحليل ردودهم المكتوبة أظهر أن التوافق الفعلي كان 26% فقط. فوجئ الرئيس التنفيذي الذي يتمتع بخبرة 25 عاماً في القطاع بالنتائج وقال: “كان لدي شعور بأنه لم يكن هناك توافق كامل في الشركة، لكن مستوى التناقض والخلاف فاجأني. يبدو أن كل فرد يفسر الاستراتيجية بناءً على متطلبات وظيفته بمعزل عن بقية المؤسسة، حتى أعضاء فريق الاستراتيجية أنفسهم”.

وبالمثل، أفاد مدراء الإدارة الوسطى وكبار المسؤولين التنفيذيين في إحدى وكالات التوظيف بأنهم يعتقدون أن التوافق الاستراتيجي في جميع أنحاء مؤسستهم يبلغ 90%، ومع ذلك، اكتشفنا أن التوافق الفعلي كان 30% فقط، حيث سرد الموظفون أولويات مختلفة غير ذات صلة، مثل تنويع المنتجات وإضافة قيمة للمجتمع وبناء منصة قوية، على أنها أهداف استراتيجية أساسية للشركة. في حالات معينة، كانت مفاهيم الموظفين المختلفة عن استراتيجيتهم متناقضة بصورة واضحة: وصف أحد المستجيبين الاستراتيجية بأنها تركز على الخدمات المعقدة والأكثر تكلفة، بينما وصفها آخر بأنها تهدف إلى الاستثمار في مشاريع أبسط وأكبر حجماً يكون من الأسهل تنفيذها بسرعة.

في كثير من الأحيان، ينتهي الأمر بالمسؤولين التنفيذيين والموظفين على حد سواء في غرفة الصدى، مفترضين أن الجميع يفهمون استراتيجية الشركة بالطريقة نفسها، بينما يسعون في الواقع إلى تحقيق أهداف متباينة أو حتى متضاربة. يؤدي هذا الخلل حتماً إلى تحديات مختلفة في السياسة والتعامل مع مشكلات غير متوقعة وعقد اجتماعات غير منتجة بالإضافة إلى التحديات الشخصية، ما يصرف انتباه الجميع عن وظائفهم ويعوق خلق القيمة الفعلية.

ومع ذلك، فإن تحقيق توافق استراتيجي فعلي ممكن في الواقع. يسلط بحثنا الضوء على 3 خطوات أساسية يمكن للقادة اتخاذها لتعزيز التوافق الاستراتيجي وضمان عمل الجميع الفعلي لتحقيق الأهداف نفسها:

ضع قيمة العميل محوراً لاستراتيجيتك

أولاً، اكتشفنا أن الرؤساء التنفيذيين في دراستنا، الذين تغلبوا على الارتباك الاستراتيجي وحولوا الإجماع المتصور إلى توافق استراتيجي فعلي ونجحوا في تحقيق أهدافهم، ركزوا في المقام الأول على إعطاء الأولوية لاحتياجات عملائهم.

يتفق هذا الاتجاه مع الدراسات السابقة. فقد وجدت مراجعة أُجريت عام 2023 شملت 245 تقريراً بحثياً أكاديمياً أن الشركات التي تعطي الأولوية لرضا العملاء تحقق أداءً أفضل وفقاً لمجموعة متنوعة من المقاييس، بما في ذلك المبيعات والأرباح والتدفقات النقدية وسعر السهم وغيرها من المقاييس. وأظهرت دراسة حديثة أخرى أن الشركات التي تبني إجماعاً استراتيجياً حول دعم احتياجات عملائها قادرة على خفض التكاليف وزيادة الإيرادات والأرباح ورفع تقييماتها. عندما يكون هناك توافق بين كبار المسؤولين التنفيذيين ومدراء الإدارة الوسطى وموظفي الخطوط الأمامية حول استراتيجية تعطي الأولوية للعملاء، تقل مخاطر الهدر أو الاستثمار في مبادرات متباينة تستنفد الموارد ولا تسهم في قيمة العميل.

على سبيل المثال، كان التوافق الاستراتيجي الفعلي في شركة خدمات سلسلة التوريد آي تي آي مانيوفاكتشرنغ (ITI Manufacturing) التي تتخذ من مدينة هيوستن مقراً لها أقل من 20% في عام 2020، وبعد 3 سنوات، وجدنا أن التوافق وصل إلى 82%. كما ارتفعت المبيعات بنسبة 23%، وأفاد الموظفون بأنهم يقضون أكثر من نصف وقتهم في المهام التي تركز على العملاء.

ما الذي حدث إذاً؟ حولت الشركة استراتيجيتها للتركيز صراحة على العامل الوحيد الذي حددته على أنه الأهم لزيادة رضا العملاء؛ إطلاع عملائها على حالة طلباتهم بانتظام . مكّن هذا النهج الجديد شركة آي تي آي من بناء إجماع استراتيجي عبر المؤسسة وتقليل مقدار الوقت الذي يقضيه الموظفون في الأنشطة المركزة داخلياً. يقول الرئيس التنفيذي للشركة، جوشوا روبنسون، موضحاً أنه من خلال إعطاء الأولوية لقيمة العملاء تمكّن هو وفريقه من التركيز على أكثر ما يهم عملاءهم: اطلاعهم على حالة طلباتهم بصورة أسبوعية. ويضيف: “بدا هذا الهدف بسيطاً جداً وحتى سخيفاً في البداية. ولكن النتائج تتحدث عن نفسها اليوم، إذ يمكننا تقديم عروض متميزة عن عروض منافسينا للعملاء الجدد والمرتقبين، وعملاؤنا الحاليون راضون جداً عن خدماتنا ومستعدون لتقديم ملاحظات إيجابية عنا للآخرين”.

ادمج استراتيجيتك في روتين العمل اليومي لموظفي الخطوط الأمامية

بعد ذلك، وبمجرد إعادة توجيه استراتيجيتك للتركيز بصورة أساسية على قيمة العملاء قدر الإمكان، اتخذ خطوات تضمن تغلغل هذه العقلية الجديدة في الأنشطة اليومية للجميع، ولا يكفي فرض الاستراتيجية على أنها هدف أو مهمة إضافية على العمل اليومي للموظفين، بل يجب أن تصبح جزءاً لا يتجزأ من روتين عملهم اليومي. وعلى أي حال، الموظفون والمدراء على أرض الواقع هم الذين يخلقون القيمة للعملاء، وبالتالي يتمتع عملهم اليومي بالأهمية الأكبر لتنفيذ استراتيجية تركز على العملاء.

في حالة أخرى من دراستنا، كافحت شركة توزيع قطع غيار السيارات سويجلوك ساوث إيست تكساس (Swagelok Southeast Texas) لمعالجة قضية التوافق الاستراتيجي، إذ يصف رئيس الشركة، كريس جونز، العديد من المبادرات التي تركز على الداخل كان فريقه قد اتخذها: “كنا نفعل كل شيء باسم الاستراتيجية، لكننا أهملنا تحسين قيمة العملاء”.

في عام 2021، حددت المؤسسة التسعير السريع لعروضها وخدماتها باعتباره حاجة ملحة للعملاء، وأعادت تركيز استراتيجيتها بالكامل على هذا الهدف. يقول جونز في هذا الصدد: “أوقفنا غالبية مبادراتنا الداخلية أو أجلناها، وركزنا انتباهنا وجهودنا وطاقتنا على التسعير السريع. زودنا ممثلي خدمة العملاء لدينا بواجهة كمبيوتر محدثة ومبسطة ووفرنا لهم المزيد من التدريب وكل ما يمكن أن يدعم عملهم. استدعى الأمر عقد سلسلة من المحادثات الصعبة مع كبار المسؤولين التنفيذيين لإيقاف المبادرات غير ذات الصلة أو تأجيلها. لكننا نجحنا بالفعل في وضع تزويد عملائنا بأسعار عروضنا وخدماتنا بسرعة محوراً لتنفيذ استراتيجيتنا. واليوم، خفضنا متوسط وقت التسعير من 18 ساعة إلى 5 ساعات، وأكثر من 95% من عملائنا راضون عن هذا الوقت”.

أضافت مديرة الاستراتيجية والتطوير في الشركة نفسها، ديبورا كاربنتر، أن تحسين تجربة العملاء من خلال التركيز على التسعير السريع أدى أيضاً إلى مزايا داخلية، تقول: “كان أعضاء فريق المبيعات في السابق يقضون أكثر من 30% من وقتهم في متابعة عروض الأسعار بدلاً من أداء عملهم اليومي. خلق ذلك حلقة مفرغة؛ إذ يبحث العملاء عن شركات أخرى إذا لم يتلقوا عروض الأسعار في الوقت المحدد، ولا يتمكن قسم المبيعات من تحقيق مبيعات لأنه كان يركز على متابعة عروض الأسعار بدلاً من البيع”. مكّن دمج استراتيجية تركز على العملاء في عمليات الشركة اليومية الموظفين والمدراء والمسؤولين التنفيذيين من الحفاظ على التوافق، ما أدى في النهاية إلى خلق قيمة لكل من العملاء والشركة.

نفّذ الاستراتيجية من خلال الحوار وليس بإصدار توجيهات من القمة إلى القاعدة

في الختام، يجب على المسؤولين التنفيذيين أن يضعوا في اعتبارهم أن تنفيذ الاستراتيجية يقع على عاتق الإدارة الوسطى وموظفي الخطوط الأمامية، وليس على كبار المسؤولين التنفيذيين، ويجب ألا يفترض القادة أن مجرد الإعلان عن استراتيجية ما يضمن أنها قد تغلغلت في سائر المؤسسة. بدلاً من ذلك، يجب على القادة السعي مسبقاً للحصول على الآراء والملاحظات من جميع أنحاء المخطط التنظيمي، والاستماع بعناية إلى الموظفين في المستوى الأدنى والانخراط في حوار هادف. ففي نهاية المطاف، قد يؤدي التواصل من القمة إلى القاعدة، أي من القادة إلى موظفي الخطوط الأمامية، إلى تعزيز التصورات حول التوافق الاستراتيجي، ولكنه لا يؤدي بالضرورة إلى تحسين الإجماع الحقيقي.

تقول النائبة العالمية الأولى لرئيس الاستراتيجية في قسم الطاقة والموارد في شركة سوديكسو (Sodexo)، مارغريت سيليغر، إن فريقها زار أكثر من 50 موقعاً في جميع أنحاء العالم للتواصل مباشرة مع فرق الخطوط الأمامية، وتوضح: “تمثل سر النجاح في الاستماع إلى آراء الموظفين ومشاكلهم، وليس التحدث عنها فقط”. نتيجة لهذه المحادثات، اكتشف فريقها أن الموظفين بحاجة إلى مزيد من الدعم في مهام معينة حتى يتمكنوا من قضاء المزيد من الوقت في مساعدة العملاء، وهكذا نفذت المؤسسة استراتيجية مستندة إلى هذه المعلومات مباشرة تهدف إلى تخفيف العبء عن موظفي الخطوط الأمامية، وأدت هذه المبادرات إلى زيادة الإيرادات بنسبة 24% وتخفيض النفقات بنسبة 5% وزيادة رضا العملاء بنقطتين.

تعلّق سيليغر حول تأثير هذا النهج القائم على الحوار في الاستراتيجية بالنسبة لشركة سوديكسو قائلة: “يمكن لكبار المسؤولين التنفيذيين قياس النتائج وإنشاء المبادرات وعقد اجتماعات عامة. لكن العمل الحقيقي لتنفيذ هدف الاستراتيجية، أي خلق قيمة للعملاء، يحدث في الخطوط الأمامية. السؤال الذي يجب أن نطرحه هو: كيف يمكننا تخفيف العبء عن كاهل موظفي الخطوط الأمامية للسماح لهم بالتركيز على عملهم اليومي لخلق قيمة للعملاء؟ هذا هو جوهر تنفيذ الاستراتيجية، ويحدث كل ذلك في الخطوط الأمامية. لدى كبار المسؤولين التنفيذيين خياران فقط: دعمهم أو تركهم يعملون”.

دائماً ما يمثل بناء التوافق الاستراتيجي في جميع أنحاء المؤسسة تحدياً، ولكن الفجوة الكبيرة بين التوافق الفعلي والمتصور تجعل من الصعب جداً تحقيق فهم مشترك بشأن الاستراتيجية وتنفيذها بفعالية، لذلك فإن تعزيز التوافق الاستراتيجي الحقيقي يتطلب من القادة إعطاء الأولوية لتعزيز قيمة العملاء في جميع أنحاء الشركة، ودمج هذه الاستراتيجية في روتين العمل اليومي لكل موظف، وتطوير الأولويات الاستراتيجية من خلال الحوار التعاوني مع كبار المسؤولين التنفيذيين ومدراء الإدارة الوسطى وموظفي الخطوط الأمامية.