ما هي الوصفة التي جعلت هذه الشركات مرغوبة أكثر من غيرها بالنسبة للموظفين؟

11 دقيقة
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ما الذي يجعل ثقافة الشركة عظيمة؟ لاستكشاف هذا السؤال، أمضيت أنا وزميلي بيل بيكر السنوات الثلاثة الماضية في إجراء أبحاث حول أفضل الأماكن التي يمكن العمل بها في الولايات المتحدة. وفي سياق أبحاثنا، وقع اختيارنا على 21 مؤسسة مشهورة بثقافاتها البارزة، بما في ذلك شركات “باتاغونيا” (Patagonia) و”ذا موتلي فول” (The Motley Fool) و”إيدموندز دوت كوم” (Edmunds.com).

ومن أجل قائمتنا النهائية، كان على هذه الشركات أن تظهر بشكل دائم على واحدة أو أكثر من “قوائم أفضل الشركات التي يجدر العمل بها” والتي تظهر في النشرات الاقتصادية، مثل مجلة فورتشن ومجلة إنك Inc.، بين عامي 2014 و2018. علاوة على ذلك، كان على كل شركة أن تسمح لنا بإجراء مقابلات شخصية مع مسؤولين تنفيذيين فيها لمدة يوم واحد، ومقابلة أقسام الموارد البشرية، وتشكيل مجموعات نقاش مركزة مع الموظفين، والتجول في منشآت الشركة. وشملت اختياراتنا شركات في القطاعين العام والخاص على حد سواء، تراوح عدد العاملين فيها بين 250 و7,000 موظف، في صناعات كالتقنية والخدمات المالية والمنتجات الاستهلاكية والنشر والمستحضرات الدوائية، من بين قطاعات أخرى كثيرة.

لم تكن غايتنا من إجراء هذا البحث ببساطة تبويب جميع الأمور المثيرة للاهتمام التي تقوم بها هذه الشركات، كتلك التي يمكن العثور عليها في أي مجلة من مجلات الأعمال. وإنما كان هدفنا استخلاص مبادئ عامة بخصوص السبب وراء ما يجعل كل ما تنجزه تلك الشركات يحظى بالنجاح الباهر. وعلى الرغم من أنه ما من صيغة واحدة يمكن أن ترصد خواص هذه الشركات والسبل الكاشفة التي تحفز بها موظفيها، فقد أوردنا أدناه بعض الأفكار العامة التي عثرنا عليها. وهذه ليست بالقائمة الشاملة بأي حال من الأحوال. ولكن، بالنسبة للمؤسسات المهتمة بتغيير ثقافاتها، ستقودها هذه القائمة إلى الدرب الصحيح.

الموظفون أولاً

إن أفضل أماكن العمل تضمن للموظفين الرضا عن حياتهم بدلاً من الرضا الوظيفي وحده. أخبرنا السواد الأعظم من مؤسسي الشركات والرؤساء التنفيذيين الذين تحدثنا إليهم أنهم أسسوا شركاتهم واضعين في اعتبارهم الموظفين في المقام الأول. فالثقافة الصحية بالنسبة لهم في نفس أهمية بيان الموازنة السليم. وفوائدها تتجاوز بكثير الحد الأدنى من الأجور.

لننظر إلى مثال متجر البقالة باي رايت ماركت Bi-Rite Market الواقع في مدينة سان فرانسيسكو. بالإضافة إلى منح الموظفين 15.59 دولاراً في الساعة وتأمين صحي شامل، يقدم المتجر مساهمات مطابقة للمستقطع من خطط تقاعد الموظفين 401 (ك) حتى 4% من أجورهم، ويدفع لهم مشاركة في الأرباح تتراوح ما بين 2% و6% من أجورهم. وأي موظف يعمل لعشرين ساعة على الأقل أسبوعياً، بما في ذلك العاملون بدوام جزئي، يحق له الحصول على هذه المزايا. ونتيجة لذلك، كثير ممن يعملون في متجر بقالة “باي رايت ماركت”، حرصوا على العمل لصالح المتجر لأجيال. فإما يعمل كثير من أبناء الموظفين القدامى هناك الآن، وإما يرجعون إلى سان فرانسيسكو صيف كل عام للحصول على تدريب والعمل بشكل موسمي. وخلال زيارتنا للمتجر، علمنا أن اثنين من هؤلاء المتدربين كانوا في إجازة من دراستهم في جامعتي “هارفارد” و”ويلزلي” (Wellesley). وهذه هي ثمرة استثمار الشركات في الناس. تربية أجيال تنعم بالازدهار.

لقد خطت شركات أخرى خاطبناها خطوة إضافية، وعرضت عدداً من البرامج التكميلية لمساعدة الموظفين على الحفاظ على التوازن بين العمل والحياة، والارتقاء بصحتهم النفسية والبدنية. وتشمل هذه البرامج ورشاً للحد من التوتر واستشارات غذائية وتخطيط مالي وخدمات استشارية لرفع المظالم. وتُختصر آثار هذه التجارب الشمولية ببراعة في تعليقات موظفين اثنين من موظفي شركة بامبو آتش آر BambooHR: “أنقذت ورشة [التخطيط المالي ووضع الميزانية] زواجي” و”أصبحت أباً أفضل منذ أن بدأت العمل هنا”.

ولكن، لعل الأمثلة الأكثر سطوعاً تمثلت في المؤسسات التي بذلت جهوداً متضافرة للعمل نيابة عن موظفيها المحتاجين. شركة هيلث كاتاليست Health Catalyst مدت يد العون لأحد موظفيها من أجل خلق بيئة معيشية محكومة لرضيعه الذي وُلد بنقص نادر في المناعة. وعندما تعرض أحد موظفي شركة باف BAF إلى حادث سير بشع، نقلته الشركة من قسم في الطابق الثالث إلى آخر في الطابق الأول في البناية نفسها، ووضعت مقتنياته في أماكنها التي كانت فيها من قبل، وأتاحت له الوصول إلى التقنيات التي تساعده على البقاء على تواصل أثناء فترة النقاهة. (ولم يكن الموظف يعمل في الشركة سوى منذ فترة قصيرة لا أكثر).

يمكنني أن أواصل رواية قصص الإحسان التي سمعنا بها من الشركات في عينتنا: فلدينا شركات تعطي موظفيها إجازات إضافية متى احتاج الموظفون إليها، وشركات تدفع الفواتير الطبية دعماً للتأمين العائلي، وأخرى تدعم ابن موظف متوفى إلى أن يلتحق بالجامعة. وعندما سألنا هذه الشركات عن السبب الذي يدعوها إلى أن تسلك هذا المسلك، جاءت الإجابة عادة على غرار ما صرح لنا به دوين هيكسون الرئيس التنفيذي لشركة إن 2 ببليشنغ N2 Publishing ومؤسسها. “الأرباح لا غنى عنها، لكنها ليست الهدف الرئيس. فنحن بحاجة إلى الماء والهواء كي نحيا، لكن هذه ليست غايتنا. غايتنا هي مساعدة الناس على أن يعيشوا حياة أفضل”.

ساعد العمال على العثور على شغفهم والسعي لتحقيقه

تجد الشركات التي درسناها سبلاً لتجديد شباب موظفيها بمساعدتهم على الوقوف على “توجههم المهني” أو مجال العمل الذي يمنحهم أكبر قدر ممكن من الإشباع. ولا يزيد ذلك من الإنتاجية وحسب، وإنما يضفي على الموظفين شعوراً بالسعادة – بل وحتى بحسن الحظ – لوجودهم في محل العمل. وتختلف الأساليب التي تستخدمها الشركات عادة لإنجاز ذلك، لكن جميع المؤسسات التي خاطبناها أتاحت للموظفين فرصاً لإشباع شغفهم.

شركة ريجينيرون فارماسيوتيكالز Regeneron Pharmaceuticals مثال واضح في هذا السياق. فمهمة الشركة تطوير أدوية جديدة للمرضى المحتاجين. وقد لا يحقق كثير من هذه الأدوية أرباحاً ضخمة أبداً من هذه العلاجات، غير أن غايتها تخفيف آلام الناس دون متطلبات ملزمة كالعائد على الاستثمار. ونزاهة هذا الموقف تحدث فارقاً كبيراً للعاملين هناك لأنهم يشعرون بإحساس حقيقي بالغاية. ولكن، لعل الدافع الأكبر للإنتاجية هو شعار الشركة: “سابقوا العلوم”. فبدلاً من التركيز حصراً على اضطرابات محددة، يشجع العلماء على استكشاف المشكلات التي تشغل اهتمامهم وتدخل في نطاق قدرتهم أكثر من غيرها. أخبرنا كثير من موظفي شركة “ريجينيرون فارماسيوتيكالز” أنهم عثروا على الوظائف التي يحلمون بها في الشركة. وصرح أحد مدراء الشركة قائلاً: “عملي في الشركة أشبه بعملي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (إم آي تي). والمجال مفتوح أمامي لإشباع فضولي”.

وتجد شركات أخرى سبلاً لإشعال جذوة شغف موظفيها إما عن طريق برامج خاصة وإما بمنحهم إجازات. يدير أوليفر شابنبرجر، مدير العمليات ومدير قسم التقنية في شركة ساس SAS المتخصصة في الذكاء الاصطناعي وبرامج التحليلات، برنامجاً يدرب فيه القادة على تقديم عروض تقديمية على غرار محادثات “تيد” (TED Talks). ويُشجع المشاركون على مناقشة أفضل أفكارهم لتحفيز التفكير غير التقليدي، وأحياناً ما يمضون قدماً ويلهمون الشركة بمشروعات كبيرة. وتتحدى شركة إنتويتيف INTUITIVE (إنتيويتيف ريسيرتش آند تكنولوجي Intuitive Research and Technology) العاملين لديها بالمثل أن يبتكروا حلولاً مبتكرة للمشكلات عبر برنامج الحافز المبتكر الخاص بها. ويُدعى الموظفون إلى كتابة بيانهم الخاص حول أفكار المنتجات الجديدة، سواء كانت متعلقة بالعمل أم لا، وإذا راقت للشركة فكرة ما تقدم بها أي موظف، فإنها تقدم تمويلاً مبدئياً وتمنح صاحب الفكرة نصف الأرباح. وتتبنى شركة بيور إنشورانس PURE Insurance أسلوباً خارجياً بقدر أكبر عبر برنامج الشغف الخاص بها، حيث تمنح موظفيها 1,500 دولار سنوياً لاستكشاف ما يقع اختيارهم عليه أياً كان.

وخلاصة القول أن الشركات التي قمنا بزيارتها كان لديها عدد محدود من الطرق المسدودة المستنزفة للحياة الشبيهة بتلك الحواجز التي نراها في نهاية الأزقة المظلمة في أفلام الرعب. وبدلاً من ذلك، فإن تلك المؤسسات تشجع الموظفين لديها، عبر التمويل التطويري والكثير من التنقلات الوظيفية، على فحص اهتماماتهم بأنفسهم والكشف عما يبرعون فيه بحق. وأسلم طريقة لتحسين الأداء هي أن تعطي الموظفين شيئاً يروق لهم إنجازه.

اجمع شمل الناس على المستوى الشخصي

أدركت المؤسسات التي أجرينا مقابلات شخصية فيها أن فعاليتها تعتمد على حسن نوايا فرقها وتماسكها، وبالتالي فقد بذلت جهوداً حثيثة نوعاً ما من أجل لم شمل الموظفين، ولكن ليس بالسبل التقليدية التي ربما تخطر ببالك. قبل البدء في هذا المشروع، اعتبرنا الأحداث الحياتية وشعائرها وطقوس انتقالاتها – كالزواج والميلاد والذكريات التاريخية – غير ذات قيمة لبيئة العمل. لكن الشركات التي قمنا بزيارتها منحتنا منظوراً جديداً. الواقع أن تلك الشركات تعاملت مع التواريخ المهمة باهتمام كبير. لماذا؟ لأن هذا هو الجانب الإنساني، أو المراعي لشعور البشر، الذي يتعين القيام به.

فكر في الأمر على النحو التالي: في حياتنا الشخصية، ندرك أن الاحتفال والتعاطف مع الآخرين ممارسة حميدة، وكذلك مراعاة شعور الآخرين واحتياجاتهم، ورفع معنوياتهم والتخفيف عنهم ومواساتهم ومد يعد العون إليهم. وعندما تقع أحداثاً عظيمة، فإننا نستمتع بها جميعاً، ونخفف أعباء بعضنا بعضاً، ونواسي الذين نكترث لأمرهم. والمؤسسات الجيدة، شأنها شأن العائلات الصالحة، تقع على كاهلها المسؤولية ذاتها. إذا كانت تريد أن تخلق إحساساً بالانتماء إلى مجتمع واحد بين فرقها، فهي بحاجة أيضاً إلى خلق تجارب مشتركة.

إن الشركات التي قمنا بزيارتها تحتفي بالمناسبات الخاصة معاً، وتقر التحولات الطارئة على دورة الحياة. تتعامل شركة “بامبو آتش آر” مع أعياد الميلاد باعتبارها إجازات مدفوعة الأجر. وتقدم شركة “إنسومنياك غيمز” (Insomniac Games) للآباء حديثي عهد بالأبوة زياً كاملاً للرضيع مصنوعاً خصيصاً لأجله وكتب فنية ولعباً وحقيبة للرضيع لمساعدتهم على الحفاظ على تنظيم شؤونه.

فضلاً عن ذلك، فالشركات المشمولة في عينتنا اجتماعية ومفعمة بالحيوية، من اليوم الأول وحتى التقاعد. والفعاليات الاجتماعية، كما جاء على لسان أحد موظفي شركة “هيلث كاتاليست”، ليست عقاباً ينزل على الموظفين، وليست تمارين مصطنعة نادرة الحدوث لبناء فرق العمل يُجبر الناس على المشاركة فيها ويطلب إليهم الاستمتاع بها. وإنما هي أمور تبني علاقات فرق العمل وتوطد وشائجها، وفيها يتمكن المشاركون من التحرك بمرونة وانسجام، وتُقام بانتظام وبشكل عفوي. وترعى شركة “باف” جولات شهرية لمباريات كرة السلة وعروضاً كوميدية وعروضاً مسرحية خارج برودواي، وتشجع على مشاركة موظفيها في أندية كأندية لعبة الكيكبول وكرة الطائرة الشاطئية والبولينغ. وتعقد الشركة فعاليات عائلية ضخمة كمخيمها الكشفي الصيفي واحتفالية مزرعة اليقطين احتفالاً بعيد القديسين. وتقيم شركة “ريجينيرون فارماسيوتيكالز” حفلات الربيع الراقصة وحفلات الشواء الصيفية في الهواء الطلق وعيد القميص الهاواي وحفلات الأعياد، والعديد من التجمعات على مستوى الشركة التي تحتفي بالطفرات العلمية.

قد تبدو هذه الفعاليات الاجتماعية الخارجة عن سياق عمل الشركة مناقضة للعمل الحقيقي، وقد تبدو للبعض مضيعة للوقت لا منطق لها. غير أن تكوين علاقات هادفة هو في واقع الأمر عمل حقيقي. وتدرك أفضل الشركات أن العلاقات الشخصية والروابط الاجتماعية العميقة هي إجراءات مضمونة تحول دون انهيار فريق العمل، وضرورية للأداء الأمثل للفريق.

تمكين الموظفين من تحمل مسؤولية عملهم

أخبرنا المسؤولون التنفيذيون الذين أجرينا مقابلات شخصية لهم مراراً وتكراراً أنهم يريدون لموظفيهم أن يفكروا ويتصرفوا وكأنهم أصحاب العمل. فقد نما إلى علمنا أن السماح لهم بإحكام سيطرتهم على جوانب عملهم محوري لتحقيق ذلك. فالموظفون الذين يُفسح لهم المجال لإعادة ترتيب مهام عملهم وتعديلها وتحسينها يخالجهم شعور بامتلاك تلك المهام. وفور أن يتحقق ذلك، يبدأ أسلوب تفكيرهم في التغير. وبدلاً من أن ينصب تركيزهم على ما لا يمكن إنجازه، فإنهم ينشغلون بما يمكن إنجازه. ونتيجة لذلك، يصبح من الأسهل عليهم أن يتطوروا ويبدعوا ويدفعوا شركاتهم إلى الأمام دفعاً.

ويتجلى مثال لهذا النوع من عقلية الامتلاك هذه بإبداع في شركة “ساس”. تبدو اليوم شركة “ساس” أشبه بالحرم الجامعي مظهراً وطابعاً. فمكاتب الشركة تقع داخل 900 فدان من الغابات كثيفة الأشجار في مدينة كاري، ولاية كارولاينا الشمالية، وتشغل بنايات الشركة مساحة 300 فدان منها، فضلاً عن شبكة المسارات الممتدة وحارات الدراجات الهوائية والجداول والشوارع الجانبية (التي تحمل أسماء مثل “ماتريكس” و”أناليتيكس”). وداخل هذه المحمية، يملك مصممو المناظر الطبيعية مساحاتهم الخاصة التي يتعهدونها بالرعاية على النحو الأمثل من وجهة نظرهم، بالنظر إلى طبيعة تضاريس المنطقة والبنية المعمارية المحيطة بها. وعلى نفس المنوال تسير الأمور في شتى أرجاء شركة “ساس”. تكلف الشركة الموظفين بالمشروعات البادية للعيان للجميع، ثم تعطيهم الحرية كاملة للسعي إلى تحقيق أهدافهم بحسب ما يتراءى لهم. وكثيرون يلجؤون إلى أقرانهم وإلى الإدارة التماساً للمشورة والدعم عند الحاجة. قال لنا أحد أعضاء مجموعات النقاش المركزة: “يرانا الناس من خارج الشركة رواداً في محل العمل، لكنهم ينسون أننا نصنع أشياء مهمة وأن الناس يعتمدون علينا لتحقيق النتائج المرجوة. ويخالجنا جميعاً شعور قوي بالمسؤولية، لا تجاه زبائننا فقط، وإنما تجاه بعضنا بعضاً”.

يدير توم كابوراسو، الرئيس التنفيذي لشركة كلاروس كوميرس Clarus Commerce، شركته بطريقة مثيلة. وتشبه فلسفته من بدايتها إلى نهايتها فلسفة الفريق الرياضي الفائز: وظف أناساً بارعين ودربهم وحضهم على الممارسة والتجهيز، ودرب أعضاء الفريق على دعم بعضهم بعضاً، وتعلم من أخطائهم وتقبل الانتصارات والهزائم على حد سواء، واخرج من الملعب وافسح المجال للاعبين كي يلعبوا. وما أن تبدأ المباراة، أو فور أن يثبت الناس أنهم قادرون على التعامل مع المشروعات من تلقاء أنفسهم، لن يتدخل المدير في عملهم إلا لعدد محدود من المرات. يتحدد ميدان اللعب في شركة “كلاروس” بالأهداف والميزانيات. وفي سياق هذه الحدود، يُناط بالموظفين وحدهم التنفيذ. ويساعد هذا التمكين شركة “كلاروس” على التحرك بسرعة وفقاً للشروط المفروضة على أرض الواقع، وتلبية احتياجات الزبائن المتبدلة بمثابرة ودأب.

إن السماح للناس بالعمل بطبيعة الحال في حدود قدراتهم، وبما يتجاوز قدراتهم شيئاً ما، يعني أيضاً أن المدراء عليهم أن يتقبلوا أن تبوء جهود موظفيهم بالفشل بين الفينة والأخرى. وبالنسبة لأفضل الشركات، تعتبر الإخفاقات حقيقة من حقائق الحياة، وضرورة لا غنى عنها للنمو الشخصي والمؤسسي. وبالتالي، تضفي الشركات التي التقينا بها طابعاً طبيعياً على قبول الإخفاقات الدورية. والواقع أن لدى شركة “بامبو آتش آر” وسيلة مبتكرة لا تنطوي على أي تهديد للتعامل مع الأخطاء. فقد ابتكرت صندوق بريد إلكتروني للأخطاء بوصفه مكاناً يستطيع جميع الموظفين – والمؤسسين أيضاً – فيه الإعلان عن أخطائهم، وما ينبغي أن يحتاط إليه الآخرون بسببهم، والخطوات التي اتخذت لتصحيح تلك الأخطاء.

خصص حيزاً يستطيع فيه الموظفون التصرف على سجيتهم

يدرك الموظفون بالطبع أنهم سيصطدمون بالتقاليد وتفضيلات الآخرين وقيود متعددة تقيد ما يمكنهم إنجازه وما لا يمكنهم القيام به في محل العمل. غير أن هذه الأمور لا يجب أن تمنعهم بالضرورة من التصرف نزولاً على شغفهم ومعتقداتهم. وباختصار، وجد الموظفون المشمولون في عينتنا من الشركات حيزاً يمكنهم فيه التصرف على سجيتهم. كيف؟

تضرب لنا شركة “ذا موتلي فول” مثالاً عظيماً. إن الشركة مستوحاة من إحدى شخصيات مسرحية شكسبير كما تشاء As You Like It، ويستطيع صاحبها، لأنه أحمق مرخص، أن يعيش خارج نطاق المجتمع ويتحدث بكل صدق وأريحية عن آرائه ومعتقداته بطريقة لا تتاح للآخرين. من الناحية العملية، استغنى الأخوان المؤسسان للشركة توم وديفيد جاردنر عن فكرة الأحمق، وبدلاً من ذلك دمجا ابتكارهم المؤسسي بـ “الحمق”. وغرست شركة “ذا موتلي فول”، التي لا تفرض على موظفيها ارتداء زي رسمي، اللهم إلا “أي شيء لا يتسبب في حرج لوالديك”، أيضاً النزاهة بوصفها واحدة من قيم الشركة الأساسية، حيث خلقت بيئة عمل يشعر الناس فيها بالارتياح تجاه التعبير عن أنفسهم، لا مادياً فقط، وإنما لفظياً أيضاً.

ومن ناحية أخرى، تتبنى شركة “إن 2 ببليشنغ” أسلوباً مختلفاً، لكنه لا يقل فعالية. فقد عثرت الشركة على سبل لدمج المواهب الطبيعية للناس في نظام الحياة المؤسسية. وأكد موظفو الشركة على مدى الإشباع الذي يشعرون به إذ يستطيعون مشاركة جزء شخصي من أنفسهم مع الآخرين في محل العمل. أخبرنا أحدهم قائلاً: “شركة إن 2 مكان يمكنك الاسترخاء فيه والتصرف على سجيتك ببساطة”.  إن رئيس غرفة البريد في الشركة مطرب راب بارع ألّف الأنشودة المميزة للشركة وأداها. وفرقة “ذا فول بليدز” (The Full Bleeds) الغنائية تتكون من موظفين يعملون في قسم التصميم الغرافيكي، وتنشد أغانيها في الاجتماعات الشهرية لجميع موظفي الشركة. ويخصص جزء من هذه الاجتماعات لمكافأة أصحاب الإسهامات المثالية للشركة. وأثناء زيارتنا، تم تكريم قسم التحرير بأكمله. وأماندا رئيسة القسم أخصائية مبدعة في الفنون البصرية. فقد رسمت أعضاء قسمها وهم يرتدون أزياء أشبه بالأبطال الخارقين لاستوديوهات مارفل، ووصفت كل قوة خارقة من قواهم، في تكريم رائع ومؤثر لفريقها.

لقد أثبتت لنا هذه الشركات أن القدرة على أن يكون المرء أصيلاً في عمله سمة مؤكِدة لقيمة الحياة، فهي تعبير خارجي عن هويتنا والمبادئ التي نؤمن بها. وفي هذا السياق، تعد الأصالة أيضاً أثراً غير واضح. إن الذين يتصرفون بما يتماشى مع قيمهم يتحلون بمبادئ عمل أكثر التصاقاً بهم. وهم أكثر التزاماً من الناحية الأخلاقية، وأقل مراعاة للظروف، ويفضلون المبادئ على الإغراءات.

بالنظر إلى النتائج التي خلصنا إليها، من الممكن أن نقول إن كثيراً من الشركات اليوم أيضاً تعمل وهي تضع نصب أعينها مصالحها فقط. ولو افترضنا أن الإدارة القديرة الحاصدة للأرباح ينبغي أن تعلي من شأن المال على الموظفين، فإن رؤيتنا معيبة إلى حد بعيد. وهذه العيوب لا تعزى بضرورة الحال إلى تفسير عقيم لكيفية عمل الأسواق، وإنما إلى مفاهيم إجمالية مغلوطة حول آلية عمل البشر. لقد منحت المؤسسات التي تناولناها بالدراسة أنفسها الفرصة المثلى للنجاح بإدراكها أن البشر هم القلب النابض لمحل العمل، والعنصر الذي يحافظ على دوران جميع التروس.

وعندما نطالب القادة فقط بأداء واجباتهم، وأن يكونوا ترساً داخل آلة صناعة المال، فإننا نطالبهم بأقل مما يلزم بكثير، ونمنحهم فرصة تجنب طرح أسئلة صعبة عن أهم الأمور في الحياة. ومن الخطأ أن يتجاهل القادة المسؤوليات الاجتماعية، والتواصل مع الآخرين، بسبب الاعتقاد الخاطئ بأن جمع العلاقات الاجتماعية مع علاقات العمل أمر صعب. يمكننا أن نصبح مباشرين بقدر أكبر بإصرارنا على أن القادة عليهم تعزيز الإمكانات البشرية ودعم الازدهار الإنساني بوصفها من بين التزامات أدوارهم. وإذا لم تكن لدينا أي أهداف أعمق للعمل، فلأجل مَن نكلف أنفسنا كل هذا العناء؟ ولماذا؟

ملاحظة المحرر: تعتبر جميع الترتيبات والمؤشرات مجرد وسيلة واحدة من وسائل التحليل والمقارنة بين الشركات أو الأماكن بناء على منهجية محددة ومجموعة من البيانات. وفي هارفارد بزنس ريفيو، نحن نرى أن المؤشر المصمم بشكل جيد يمكنه تقديم إيضاحات مفيدة، إلا أنه، بحكم طبيعته، يعتبر لمحة موجزة من صورة أكبر. لذلك نحث القارئ دائماً على قراءة المنهجية بعناية.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .