المزالق الخفية في اتخاذ القرارات

23 دقيقة
مزاليق في اتخاذ القرارات
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

إذا كان عملك مرتبطاً بمسؤولية تنفيذية، فسيكون العمل الأهم بالنسبة لك هو تجنب مزالق اتخاذ القرارات، وليس الأهم فقط، بل والأصعب، وربما الأخطر. فقد تتسبب القرارات السيئة أحياناً في تدمير عملك الذي تديره، نهاية مسارك المهني إلى غير رجعة. لذا سيكون السؤال الملح في هذا السياق: “فمن أين تأتي القرارات السيئة؟”. ويمكن إرجاع ذلك في كثير من الأحيان إلى الطريقة التي تُتخذ بها القرارات، مثل عدم استقصاء البدائل كما ينبغي، والتقصير في جمع البيانات الصحيحة، والإخفاق في إجراء موازنة عادلة بين التكاليف المتوقعة والفوائد والأرباح المرجوة. لكن في بعض الأحيان، قد لا تكمن المشكلة في عملية اتخاذ القرار ذاتها، وإنما في عقل من يتخذ القرار. إذ يمكن للطريقة التي يعمل بها الدماغ البشري أن تحبط قراراتنا.

قضى الباحثون نصف قرن تقريباً في دراسة الكيفية التي تعمل بها عقولنا عند اتخاذ القرارات. وقد كشفت أبحاثهم سواء المخبرية أو الميدانية أننا نستخدم أنماطاً لاواعية، للتأقلم مع التعقيد الذي يصاحب معظم القرارات. إذ تساعدنا تلك الأنماط، التي تدعى “الاستدلال الآني” (heuristics)، على التعامل بشكل مقبول مع محيطنا في معظم الظروف. فعلى سبيل المثال، عندما نحكم على المسافة التي تفصلنا عن شيء ما، تعتمد عقولنا في الغالب على استدلال آني، يربط بين قرب تلك الأشياء، ووضوحها إلى العين. فكلما كان الشيء أوضح بالنسبة إلينا، نحكم عليه بقربه منا، والعكس صحيح. وتساعدنا هذه الحيلة الذهنية المختصرة على استيعاب المسافات التي يتعيّن علينا تقييمها، لنكون قادرين على التعامل مع الكون حولنا.

ورغم وضوح هذا المثال، إلا أنه كمعظم الاستدلالات الآنية، معرض للخطأ. فإذا حل الضباب وساءت الرؤية، مالت أبصارنا إلى تصوير الأمور لعقولنا على غير ما هي عليه في الحقيقة، فنتصور الأشياء أبعد من الواقع. ورغم ذلك قد نتجاهل هذه الحقيقة غير آبهين، لأن التشويش الناتج في الحكم لا يمثل خطراً داهماً لمعظمنا، على عكس وضع قادة الطائرات الذين قد يسبب ذلك التشويش لهم كوارث. لذا يتدربون على استخدام مقاييس أخرى أكثر موضوعية للمسافات، إضافة إلى الاعتماد على أبصارهم.

كانت تلك مشكلة مؤثرة في اتخاذ القرار، لذلك حدد الباحثون سلسلة متكاملة من العيوب المشابهة والتي قد تعتري طريقة تفكيرنا خلال اتخاذ القرارات. فبعضها عبارة عن أخطاء في الإدراك الحسي، كالاستدلال الآني على الوضوح، كما المثال السابق. بينما يمكن أن يرتبط بعضها الآخر بالانحيازات. كما قد يظهر بعض تلك الأخطاء ببساطة على هيئة شذوذات لا منطقية في طريقة تفكيرنا. وما يجعل تلك الأخطاء أو ما أصفها بالـ”المزالق” بالغة الخطورة هو أنها غير مرئية. إذ تكمن بشكل خفي في صميم عملية التفكير التي نتبعها، الأمر الذي يجعلنا لا نتنبه لها حتى عند ارتكابها.

وبالطبع تصبح هذه الأخطاء النفسية في غاية الخطورة بالنسبة للتنفيذيين الذين يتعلق نجاحهم بالقرارات اليومية التي يتخذونها أو يوافقون عليها. إذ قد يطيحون بكل شيء حرفياً، بدءاً من تطوير منتج جديد، مروراً باستراتيجيات الاستحواذ والتصفية، ووصولاً إلى التخطيط لتعاقب المدراء. وفي حين أنه ليس بإمكان أحد منّا التخلص تماماً من هذه العيوب الجوهرية في تفكيرنا، إلا أنه يمكننا أن نسير على نهج قادة الطائرات، فنتعلم تلك المزالق، ونفهم طبيعتها، ونتخذ من السبل ما يكفل تقويمها.

أشهر مزالق اتخاذ القرارات

وانطلاقاً من خطورة هذا الأمر، سنقدم في هذا المقال عرضاً مفصلاً لعدد من المزالق النفسية الموثقة، والتي تتميز بصلتها المباشرة بتقويض القرارات التي لها علاقة بالأعمال التجارية والإدارية، وكذلك سنستعرض سوياً أسباب تلك المزالق، وسنناقش مظاهرها. كما سنقدم عدداً من الأساليب المحددة التي تمكن المدراء من تجنب الوقوع فيها. ولا تنس أن الطريقة المثلى لمواجهة تلك المزالق هي الوعي. فالتنفيذيون ممن يحرصون على تثقيف أنفسهم بتلك المزالق وأشكالها المتنوعة، سيكونون أكثر قدرة من سواهم على اتخاذ قرارات صائبة، كما سيمتلكون بصيرة للحكم بثقة على ما يفد إليهم من توصيات سواء من جهة مرؤوسيهم أو شركائهم في العمل.

1- مزلق الترسيخ

لتفهم المقصود بـ “الترسيخ”، حاول الإجابة عن هذين السؤالين:

هل يتجاوز عدد سكان تركيا 35 مليون نسمة؟

ما هو أفضل تقدير لديك لعدد سكان تركيا؟

إذا كنت مثل معظم الناس، ستتأثر إجابتك عن السؤال الثاني بالرقم 35 مليون الذي طُرح في السؤال الأول (وهو رقم اخترناه بشكل اعتباطي). وعلى مدار سنوات، تعمدنا طرح هذا السؤال على مجموعات كثيرة من الأفراد، إلا أننا استخدمنا رقم 35 مليون في السؤال الأول في نصف الحالات، بينما استخدمنا رقم 100 مليون في النصف الآخر. فكانت النتيجة المتكررة بغير استثناء هي الحصول على إجابات مختلفة تماماً بين المجموعتين، إذ تزيد بملايين كثيرة في المجموعة الثانية التي استخدمنا فيها الرقم الأكبر في السؤال الأول. هذا الاختبار البسيط يلقي الضوء على الظاهرة الذهنية الخبيثة والمنتشرة التي تدعى “الترسيخ” (anchoring). إذ يميل العقل عند اتخاذ قرار ما إلى إعطاء وزن أكبر بصورة غير متكافئة للمعلومة التي ترده أولاً. فالانطباعات أو التقديرات أو البيانات التي ترِد أولاً تتحكم فيما يتبعها من أفكار وأحكام.

اقرأ أيضاً: الأخطاء الأربعة الأكثر شيوعاً في اتخاذ القرارات

وستجد هذه “المرسِّخات” حولك، تتخذ أشكالاً مختلفة، منها البسيط وما يبدو عليه البراءة، مثل تعليق يلقيه زميل أو إحصائية تطالعك بها صحيفة الصباح. وقد تجدها متقمصة هيئة أكثر خبثاً ودهاءً مثل الصورة النمطية لشخص ما بسبب لون بشرته أو لكنته أو ما يرتديه من ثياب. وبالنسبة للأعمال التجارية، تأتي الأحداث القديمة أو التوجهات الماضية في مقدمة أنواع المرسّخات شيوعاً فنجد أن الشخص الذي يعمل في التسويق، يبدأ خطته لعرض أحد المنتجات للسنة القادمة، بإلقاء نظرة على حجم المبيعات في السنوات الماضية. فتصبح الأرقام القديمة هنا “مرسّخات” يعتمدها المسوّق، ويُدخل عليها تعديلاته في تنبؤاته بناءً على عوامل أخرى. وفي حين أن مثل هذا النهج قد يؤدي إلى تقديرات دقيقة إلى حد معقول، إلا إنه يعطي وزناً مبالغاً فيه للأحداث الماضية على حساب باقي العوامل الأخرى في التأثير على النتيجة النهائية. فمثلاً في بيئات السوق سريعة التقلب، يمكن للمرسّخات التاريخية أن تؤدي إلى تنبؤات رديئة تقود إلى قرارات هي أبعد ما تكون عن الصواب.

وانطلاقاً من أن المرسّخات يمكن أن تمثل قاعدة لأي قرار محتمل، يعمد المفاوضون المتمرسون غالباً إلى استغلالها بشكل تكتيكي خلال المساومات، وسأقدم لك مثالاً على تكتيك المساومة بالتأكيد عاصرته بشكل أو بآخر، تصور شركة استشارية كبرى تبحث عن مكتب جديد في مدينة سان فرانسيسكو الأميركية. وبعد مداولات مع وسيط عقاري للمنشآت التجارية، توصل أصحاب الشركة إلى مبنى تنطبق عليه جميع شروطهم. وعلى الفور نظموا اجتماعاً مع مالكي المبنى. وفي افتتاحية اللقاء، بدأ المالكون باستعراض شروط العقد المقترح: استئجار مدته عشر سنوات، وسعر ابتدائي بقيمة 2.5 دولار لكل قدم مربعة، مع زيادة سنوية بحسب قيمة التضخم السائدة، وجعل المستأجر يتحمل جميع التحسينات الداخلية، كما أن هناك خياراً لتمديد عقد الاستئجار لعشر سنوات أخرى تحت نفس الشروط.

وعلى الرغم من أن السعر المطروح هو أعلى سعر معروض حالياً في السوق، فإن الشركة الاستشارية تقدمت بعرض ضعيف نسبياً. إذ طرحوا سعراً ابتدائياً متوسطاً بحسب السوق، وطلبوا من المالكين المشاركة في تكاليف إعادة تأهيل المكان، مع قبولهم بما سوى ذلك من الشروط. ورغم أن الشركة كان يمكنها تقديم عرض بديل أشد محاججة وأكثر إبداعاً – فتخفض السعر الابتدائي إلى أدنى سعر سائد في السوق، وتجعل زيادة الأسعار كل سنتين لا كل سنة، وتضع حداً أعلى للزيادات، وتفصّل شروطاً مختلفة لتمديد العقد، وهكذا دواليك، إلا أنها لم تفعل ذلك، ببساطة لأن تفكير أصحابها تعلق بما طرحه مالكو المبنى في البداية. وبهذه الطريقة سقط المستشارون في فخ “الترسيخ”، وانتهى بهم الحال دافعين من أموالهم أضعاف ما كان يمكن لهم أن يدفعوه لقاء مكتبهم الجديد.

ما الذي يمكنك فعله إزاء ذلك؟

ومن هذا المثال، يمكنك أن تدرك التأثير الهائل للمرسخات في اتخاذ القرار، والذي توثقه أيضاً آلاف التجارب. إذ لا ينحصر تأثيرها على قرارات المدراء التنفيذيين وحدهم، بل يمتد ليشمل قرارات المحاسبين، والمهندسين، والمصرفيين، والمحامين، والمستشارين، ومحللي الأسهم. ومن المؤسف أنه لا أحد يمكنه تجنب تأثير المرسّخات، فهي واسعة الانتشار بشكل مَهول. ولكن الخبر السار أن المدراء الواعين بمخاطرها، يمكنهم التقليل من أثرها عبر اتباع الأساليب التالية:

  • انظر دائماً إلى المشكلة التي ستتخذ القرار بشأنها من عدة زوايا، ولا تركن لأول ما يتبادر إلى ذهنك من أفكار وخواطر، وإنما حاول النظر إلى نقاط متباينة، واستخدم أساليب مختلفة.
  • حينما ترد إليك مشكلة، فكر بمفردك أولاً بشأنها، قبل استشارة الآخرين، لئلا تتعلق ذهنياً بما سيطرحونه عليك.
  • كن منفتحاً ذهنياً، واستقِ المعلومات والآراء من أفراد مختلفين لتوسع من إطارك المرجعي في تناول الأمور، وتفتح لعقلك أبواباً جديدة نحو الحل.
  • حاذر أن تتسبب في إيقاع ناصحيك ومستشاريك – وسواهم ممن تطلب منهم المعلومات والمشورة – في مزلق الترسيخ. لذلك شارك معهم أقل قدر ممكن من أفكارك وتصوراتك وقراراتك المبدئية. فإنك إذا أفصحت عن الكثير مما يدور بخاطرك، فقد تعود أفكارك المسبقة إليك على ألسنة من سمعوها منك.
  • انتبه للمرسّخات في المفاوضات على وجه الخصوص. فكر ملياً في وضعك منها قبل الدخول في أي تفاوض، تجنباً للوقوع في فخ الـ”ترسيخ” من قبل الطرف الآخر بواسطة عرضه الأولي. وفي ذات الوقت، ترقب الفرص التي تجعلك قادراً على استخدام “المرسّخات” لمصلحتك. فمثلاً إذا كنت أنت البائع، اطرح سعراً عالياً، ولكن منطقياً طبعاً، كمناورة افتتاحية.

2- مزلق الوضع الراهن

يعجبنا جميعاً أن ننظر إلى أنفسنا كأفراد يتخذون قراراتهم بشكل عقلاني وموضوعي. إلا أن الواقع أننا جميعاً محمّلون بالتحيزات التي تؤثر في خياراتنا. فعلى سبيل المثال، يُبدي متخذو القرارات تحيزاً قوياً لصالح البدائل التي تعطي ديمومة للوضع الراهن. وستتمكن من ملاحظة هذه الميول على نطاق أوسع عند طرح منتَج جديد يخالف سابقه بشكل جذري. إذ نجد أن السيارات الأولى حملت اسماً معبراً “المركبات التي لا خيول تجرها” (horseless carriages)، وشابهت في شكلها العربات التي سبق استخدامها مع الخيول إلى حد بعيد. كما أن الصحف الإلكترونية ظهرت في نسختها الأولى على شبكة الإنترنت بصورة تكاد تطابق الصحف الورقية.

وعلى مستوى مألوف أكثر بالنسبة لك، فربما تكون قد زلّت قدمك في هذا التحيز خلال قراراتك المالية الشخصية. إذ يحدث أحياناً أن يرث أفراد حصصاً من أسهم لن يبادروا بشراء مثلها البتة. وعلى الرغم مما يمثله هذا الموقف من فرصة واضحة ومال متاح لهم من خلال بيع تلك الأسهم، واستغلال المال الناتج من البيع في استثمار مختلف هم على دراية به، إلا أن عدداً لا يستهان به من الأفراد لا يقوم بذلك. فهم يجدون راحتهم في الوضع الراهن، فيمتنعون عن أي إجراء قد يعكر صفوه الحالي، متذرعين بمقولة: “ربما سأعيد النظر فيه لاحقاً”، غير أن “لاحقاً” عادة ما تفيد مطلقاً”.

يكمن مصدر مزلق الوضع الراهن في ثنايا النفس البشرية التي تحرص على حماية نفسها من الأذى الجسيم. إذ أن الخروج على الوضع الراهن يعني اتخاذ إجراء ما، وهو ما يعني إننا سنتحمل مسئولية هذا الإجراء، بدلاً من إلقائه على متخذيه من الأسلاف، وبالتالي يفتح هذا الإجراء الباب لانتقادنا، بل وشعورنا بالندم. ولا عجب في أننا نميل بطبيعتنا إلى البحث عن الذرائع التي تبرر عدم قيامنا بشيء. لذلك يمثل الركون إلى الوضع الراهن المسار الأسلم في معظم الحالات، لأنه يضم مخاطرة نفسية أدنى بالنسبة إلينا.

وقد أظهرت العديد من التجارب الجاذبية الساحرة التي يملكها الوضع الراهن على البشر، ففي إحدى التجارب وُزّع نوعان من الهدايا متقاربة القيمة على مجموعة من الأفراد بصورة عشوائية، فتلقى نصفهم كوباً كبيراً بينما تلقى النصف الآخر إصبعاً من الشيكولاتة السويسرية. ثم تم إخبار الجميع أنه بإمكان أي منهم أن يستبدل هديته بالهدية الأخرى بكل سهولة. وفي حين أنه قد يجول بخاطرك أن يقوم نصف الأفراد باستبدال ما لديهم، فالواقع أن واحداً فقط من كل عشرة أفراد قام بذلك. لقد ألقى الوضع الراهن بثقله على المشاركين على الرغم من أنه لم يمض سوى بضع دقائق على تأسيس هذا الوضع بشكل عشوائي.

قد تتوقع أن الخيارات الكثيرة قد تسهل الاختيار، إلا أن عدداً من التجارب الأخرى أشارت إلى أنه مع زيادة الخيارات المتاحة للأفراد، يغدو الوضع الراهن أشد إغراءً وفتنة. فمثلاً سوف ينحاز عدد أكبر من الأفراد إلى استمرار الوضع الراهن عندما يُعرض عليهم خياران بدلاً من واحد: الخيار “أ” والخيار “ب”، في مقابل الخيار “أ” فقط. وذلك لأن عملية الاختيار بين “أ” و”ب” تتطلب مجهوداً أكبر، وإنما الإبقاء على الوضع الراهن يجنب صاحبه هذا الأمر.

وفي مجال العمل – حيث تستدعي أخطاء القيام بشيء ما عقوبات صارمة جداً مقارنة بأخطاء اعدم القيام بشيء – يبدو خيار الوضع الراهن ذا جاذبية استثنائية. وربما هذا السبب وراء فشل العديد من مشاريع الاندماج بين الشركات بشكل ذريع، إذ تتجنب الشركة التي تقوم بعملية الاستحواذ اتخاذ إجراءات سريعة لفرض الهيكلية الإدارية الجديدة المناسبة على الشركة المستحوذ عليها. فيسود تفكير تعبر عنه عبارات من قبيل: “دعنا لا نثير المشاكل الآن”، و”لنتمهل ريثما تهدأ المياه”. ومع مرور الوقت، تترسخ الهيكلية القائمة أكثر فأكثر، ويصبح تغييرها أصعب. ومع إغفال اغتنام فرصة التغيير حينما يكون أمراً متوقعاً، تجد الإدارة نفسها مغلولة اليدين بالوضع الراهن.

ما الذي يمكنك فعله إزاء ذلك؟

أولاً وقبل كل شيء، لابد أن تدرك أن الحفاظ على الوضع الراهن قد يكون هو الخيار الأنسب عند اتخاذك لقرار ما، لكن ما تريد تجنبه هو اختيار الوضع الراهن لمجرد أنه مريح.

وبمجرد اكتسابك الوعي بمزلق الوضع الراهن، يصبح بإمكانك استخدام هذه الأدوات للتقليل من قوة جاذبيته:

  • ذكر نفسك دوماً بالأهداف التي تسعى إليها، وتحقق من مدى إسهام الوضع الراهن في خدمتها. فقد تكتشف أن بعض جوانب الوضع الراهن تقف حاجزاً بينك وبين تحقيق تلك الأهداف.
  • لا تنظر إلى الوضع الراهن على أنه الخيار الوحيد المتاح، وبادر إلى تحديد خيارات أخرى لتستخدمها كمعادِل في الوزن والقوة، مع تقييم كل ما بين يديك بحرص من ناحية إيجابياته وسلبياته.
  • اسأل نفسك إذا ما كنت ستختار الوضع الراهن كخيار في حال لم يكن هو الوضع الراهن الآن.
  • تجنب تضخيم الجهد المطلوب أو التكلفة المتوقعة عند الانتقال عن الوضع الراهن إلى سواه.
  • تذكر أن رغبتك في الوضع الراهن ستتغير مع الزمن. وبالتالي، حين تقارن البدائل قم بتقييمها في سياق المستقبل كما تفعل في سياق الحاضر.
  • إذا بدا لك عدد من البدائل التي تتفوق على الوضع الراهن فلا تركن له فقط لأنك تجد صعوبة في الاختيار بينها وتحديد الأفضل، بل ألزم نفسك على الاختيار.

اقرأ أيضاً: هل يمكن أن يرغّبنا الذكاء الاصطناعي في اتخاذ خيارات أفضل؟

3- مزلق التكاليف الغارقة

نوع آخر من التحيزات المتأصلة لدينا هو اتخاذنا قرارات بطريقة معينة تبرر خياراتنا السابقة، حتى بعد أن تفقد هذه الخيارات السابقة صلاحيتها. ومعظمنا وقع في هذا المزلق. على سبيل المثال، قد نكون رفضنا في الماضي بيع أسهم أو حصص في صندوق استثمار مشترك بخسارة، متجاهلين استثمارات أكثر جاذبية. أو قد نصرف مجهوداً هائلاً في تطوير أداء موظف نعرف مسبقاً أن توظيفه لم يكن صواباً من الأساس.

يصف الاقتصاديون القيام بالخيارات السابقة بمصطلح “التكاليف الغارقة” (sunk costs) – أي الاستثمارات القديمة في الوقت أو المال والتي لم يعد استردادها في الزمن الحاضر ممكناً. ونحن ندرك في قرارة أنفسنا أن التكاليف الغارقة لا علاقة لها بقراراتنا في الوقت الحاضر، لكنها تتسلط على عقولنا وتجعلنا نتخذ قرارات غير صائبة.

لماذا لا يستطيع الناس الإفلات من القرارات السابقة؟ يرجع السبب في معظم الأحيان إلى عدم رغبتهم – بوعي أو دون وعي – في الإقرار بارتكابهم خطأً ما. فبينما يمكن اعتبار الاعتراف بقرار سيئ في حياة الفرد الشخصية أمراً خاصاً جداً ولا ينعكس أثره إلا على ذاته، فغالب الأمر في الأعمال التجارية يكون القرار السيئ شأناً عاماً يجلب الانتقادات من الزملاء أو الرؤساء. فإذا طردت موظفاً سيئ الأداء وكنت أنت من وظفه، فأنت بذلك تعترف أمام الجميع بسوء تقديرك للأفراد المحتمل توظيفهم. لذا فقد يبدو المسار الأكثر أماناً من الناحية النفسية أن تتغاضى عن ذلك الموظف، وإن كان هذا التصرف يضاعف المشكلة ولا يحلها.

ويتكرر ظهور فخ تحيز التكاليف الغارقة في مجال العمل المصرفي تحديداً بصورة تبعث على الحيرة، خاصة أن الانسياق خلفه قد يؤدي إلى عواقب وخيمة. فإذا كان العمل التجاري الخاص بمقترض يعاني من مشاكل، ترى المقرض في كثير من الأحيان يندفع ويضخ مزيداً من المال آملاً أن يمنح العمل التجاري فرصة للتعافي. سيكون هذا تصرفاً حكيماً إن كان هناك أمل في عودة العمل التجاري إلى ما كان عليه، وإلا فهو هدر للمال فيما لا طائل من ورائه.

ساعد أحدنا مصرفاً أميركياً كبيراً في استرداد عافيته بعدما قام الأخير بمنح أعمال تجارية أجنبية عدداً من القروض المعدومة “أي أصبح من غير المرجح استردادها”. وقد وجدنا لدى الموظفين المسؤولين عن منح تلك القروض في المقام الأول ميلاً إلى تقديم دفعات إضافية – بصورة متكررة، في العديد من الحالات – يفوق بكثير أقرانهم الذين استلموا تلك الحسابات بعد منح القروض الأولى. والآن يمكنك تفسير ما حدث هنا، إذ أن الموظفين المسؤولين عن تلك القروض مُنوا بالفشل في استراتيجيتهم وفي قروضهم في البداية. فكأنهم علقوا في دوامة التزامهم تجاه تلك الأعمال التجارية فحاولوا – بوعي منهم أو دون وعي – أن يدافعوا عن قراراتهم المعيبة التي اتخذوها أول الأمر.

فسقطوا ضحايا لتحيز التكاليف الغارقة. وانتهى المصرف بأن عالج الموضوع عبر إقرار سياسة جديدة تلزم بتحويل القرض على الفور إلى موظف آخر بمجرد ظهور أي مشكلة فيه. فالموظف الجديد الذي يستلم القرض سيتميز بقدرته على النظر إليه من زاوية جديدة، بحيث لا يكون خاضعاً للتحيز المذكور حين يقيّم جدوى ضخ المزيد من الأموال.

وقد تساعد أحياناً ثقافة الشركة نفسها في تعزيز مزلق التكاليف الغارقة. فإذا كانت العقوبات المترتبة على القرارات ذات النتائج غير المرضية قاسية أكثر من اللازم، فسيمثل ذلك حافزاً للمدراء ليرخوا العنان للمشاريع الفاشلة إلى ما لا نهاية، آملين أن يتمكنوا بطريقة أو بأخرى في تحويلها إلى نجاحات. لذا يتعيّن على التنفيذيين – في عالم ملتبس تكثر الحوادث غير المتوقعة فيه – أن يدركوا أن القرارات الجيدة قد تقود أحياناً إلى نتائج سيئة. وبإقرارهم لهذه الحقيقة، سينتهي بهم الأمر إلى تشجيع الأفراد للحد من خسائرهم بدل تركها تتفاقم وتزداد.

ما الذي يمكنك فعله إزاء ذلك؟

يتعيّن عليك أن تبذل مجهوداً واعياً تجاه جميع القرارات التي لها ارتباط تاريخي، لتضع جانباً أي تكاليف غارقة – نفسيةً كانت أم اقتصادية – قد تتسبب في تكدير تفكيرك حول الخيار الذي بين يديك. لذلك جرب الطرق التالية:

  • اطلب آراء الأفراد الذين لم يشاركوا في صناعة القرارات السابقة واستمع لهم بعناية، لأنهم سيكونون أبعد عن السقوط في شراك التحيز لها.
  • اعرف السبب الذي يجعلك تنزعج من الإقرار بارتكاب خطأ سابق. فإذا كان الأمر متعلقاً بخدش يصيب احترامك لذاتك، فبادر إلى مواجهته رأساً. ذكّر نفسك أنه حتى الخيارات الذكية قد تتهاوى وتكون عواقبها سيئة دون ذنب من صاحبها الأصلي، وأنه حتى أفضل المدراء وأكثرهم خبرة ليسوا بمأمن من ارتكاب الخطأ في حكمهم على الأمور. وهنا تذكر الكلمات الحكيمة التي أطلقها وارين بافيت: “إذا وجدت نفسك في حفرة، فأفضل ما يمكنك فعله هو التوقف عن الحفر”.
  • راقب بعناية ما إذا كان هناك أثر لتحيزات التكاليف الغارقة في القرارات والتوصيات التي يحملها إليك مرؤوسوك، وأعِد إسناد المسؤوليات إذا استدعى الأمر.
  • لا تزرع ثقافة الخوف من الفشل والتي تؤدي بالموظفين إلى استدامة أخطائهم. وعند مكافأة الأفراد، تأمل في جودة اتخاذ القرار في ضوء ما كان متاحاً من معلومات ساعة اتخاذه، ولا تحصر الأمر في جودة النتائج.

4- مزلق الدليل المؤكِد

تخيل نفسك رئيساً لأحد المصانع الأميركية الناجحة ذات الحجم المتوسط، وأنك بصدد إلغاء خطة توسع للمصنع تم تحضيرها في الماضي. لقد جال في ذهنك أن شركتك لن تكون قادرة على مجاراة الطلب المتزايد لصادراتها. غير أنك متخوف من ارتفاع قيمة الدولار الأميركي في الشهور المقبلة بما يحمله ذلك من ارتفاع في سعر منتجاتك للمستهلكين خارج البلاد فينخفض طلبهم.

ولكن قبل أن تدوس المكابح لإيقاف خطة التوسع تلك، تقرر الاتصال بواحدة من معارفك، والتي تشغل منصب الرئيس التنفيذي لشركة مشابهة، اتخذت قراراً مؤخراً بإيقاف مصنع جديد تابع لشركتها، للوقوف على أسبابها. فما كان منها إلا أن عرضت حجة قوية تتضمن أن باقي العملات على وشك أن تشهد هبوطاً حاداً مقارنة بالدولار الأميركي. فماذا ستفعل؟

الخيار الأفضل لك هو ألا تدع هذا النقاش يحسم القضية، لأنك في الغالب قد تقع ضحية لتحيز الدليل المؤكِد. فهذا التحيز يقودنا إلى السعي خلف المعلومات التي تدعم إحساسنا الداخلي أو وجهة نظرنا القائمة، كما يجعلنا نتحاشى المعلومات التي تناقض ذلك. فما الذي تتوقع أن تسمعه من هذه السيدة سوى حجة قوية تؤيد بها القرار الذي اتخذته؟ ولا يتوقف مفعول هذا التحيز في تحديد مصادر استقائنا للأدلة فحسب، بل يتعداه إلى أسلوب تفسيرنا لما يعرض علينا من أدلة. فنجنح إلى إعطاء المعلومات التي تؤيدنا وزناً راجحاً، وبالمقابل نقلل من وزن المعلومات المناقضة.

وفي إحدى الدراسات النفسية التي تناولت هذه الظاهرة، عُرض على فريقين – أحدهما يؤيد عقوبة الإعدام والآخر يعارضه – بحثان مُعدان بعناية حول فاعلية هذا النوع من العقاب في كبح الجريمة. إذ وصل البحث الأول إلى نتيجة مفادها أن عقوبة الإعدام كانت ذا أثر فعلي، بينما وصل البحث الآخر إلى نتيجة معاكسة. وعلى الرغم من أن الفريقين تعرضا لمعلومات علمية رصينة تصب في الاتجاهين المتعارضين، إلا أن أفرادهما باتوا أكثر اقتناعاً برجاحة وجهة نظرهم الأصلية بعد قراءة التقريرين. فقد قبلوا المعلومات المؤيدة لما كان عندهم من الأساس بصورة تلقائية وأهملوا المعلومات المناقضة.

هناك قوتان نفسيتان أساسيتان تؤديان دوراً في تلك المعادلة. أولهما يكمن في نزوعنا نحو اتخاذ قرار داخلي بما نريد فعله قبل أن يتشكل لدينا المبرر الذي يشرح سبب ما نود فعله. وثانيهما يتمثل في ميلنا إلى الانخراط فيما نحبه من أمور، عكس حالنا مع ما لا نحب، وهو ميل موثق حتى لدى الأطفال الصغار. فنحن إذاً منحازون بصورة طبيعية نحو المعلومات التي تدعم أهواءنا الداخلية من معلومات.

ما الذي يمكنك فعله إزاء ذلك؟

لابد أن تدرك أن الأمر ليس متعلقاً بتجنب الخيارات التي تجد نفسك مشدوداً تجاهها، وإنما في التأكد بأنها هي الخيارات الذكية حقاً. فأنت بحاجة إلى تمحيصها، وإليك الطريقة:

  • احرص دائماً على التأكد من أنك تتفحص جميع الأدلة بقدر مساوٍ من الصرامة. وتجنب تقبل الأدلة المؤكِدة بغير تمحيص.
  • اتخذ شخصاً تحترمه ليقوم بدور محامي الشيطان ويعارض القرار الذي تعتزم اتخاذه حجة بحجة. وإذا استطعت استنباط الحجج المناقضة بنفسك، فهو أفضل. ما هو أقوى سبب لعمل شيء مخالف؟ وما هو ثاني أقوى سبب؟ وما هو ثالث أقوى سبب؟ وهكذا دواليك، متعاملاً مع الموضوع بعقل منفتح.
  • كن صريحاً مع ذاتك فيما يتعلق بدوافعك الشخصية. هل تقوم حقاً بجمع المعلومات لمساعدتك في انتقاء خيار ذكي، أم أنك تبحث عن الأدلة التي تؤكد ما ترغب القيام به فحسب؟
  • تجنب عند طلب النصيحة من الغير طرحَ أسئلة تستدعي الأدلة المؤكِدة كإجابات. وإذا وجدت أحدهم يميل دوماً إلى تأييد وجهة نظرك، فابحث عن سواه، ولا تُحط نفسك بالمتملقين.

5- مزلق الصياغة

الخطوة الأولى في اتخاذ أي قرار تكمن في صياغة السؤال، وهي كذلك الخطوة الأشد خطراً. إذ أن الطريقة التي تصاغ بها المشكلة لها أثر عميق في الخيارات التي تنتهجها. على سبيل المثال، في إحدى الحالات المتعلقة بتأمين السيارات، تسبب اختلاف الصياغة بفارق 200 مليون دولار أميركي. إذ قررت ولايتان متجاورتان – نيوجيرسي وبينسيلفانيا – إدراج تعديل في قوانينهما بغرض خفض رسوم التأمين التي تدفعها الولاية. فأعطت الولايتان السائقين فيها خياراً جديداً: خفض قسط التأمين شرط قبولهم حقاً محدوداً في التقاضي (المرتبط بحوادث السير).

غير أن الولايتين صاغتا الخيار بطريقتين مختلفتين تماماً: ففي ولاية نيوجيرسي تحصل بشكل تلقائي على الحق المحدود في التقاضي إلا إذا اشترطت سوى ذلك، أما في بينسيلفانيا فحقك في التقاضي كاملاً إلا إذا اشترطت سوى ذلك. وهكذا أسهمت الصياغتان المختلفتان في تأسيس واقع مختلف في كل ولاية، وكان بديهياً أن ينحاز معظم الأفراد إلى الخيار المعروض سلفاً دون اضطرارهم إلى تبديله واختيار سواه. ونتيجة لذلك، اختار 80% من السائقين في نيوجيرسي خيار الحق المحدود في التقاضي، بينما لم يختره سوى 25% في بينسيلفانيا. فكان نصيب بينسيلفانيا من فرق الصياغة أن أضاعت على نفسها ما يقرب من 200 مليون دولار أميركي من فرص توفير التأمين والدعاوى.

ويتخذ مزلق التأطير تحديداً أشكالاً متعددة. ويمكنك أن تستنتج من مثال التأمين السابق أن هذا المزلق يرتبط بالمزالق النفسية الأخرى بشكل وطيد. فالصياغة قد تُثبت مرسّخاً، أو تؤسس وضعاً راهناً، وقد تلقي الضوء على تكاليف غارقة أو تجرّك نحو دليل مؤكِد. ووثق الباحثون نوعين من الصياغات، والتي يمكنها أن تمثل مصادر للتشويش في عملية اتخاذ القرار، على نحو متكرر:

الصياغات كمكاسب أو خسائر

في دراسة صممها باحثو القرارات دانيال كانيمان وأموس تفيرسكي عقب تجربة تقليدية، طرح أحدنا الأحجية التالية على مجموعة من موظفي التأمين، لقياس استجاباتهم:

تخيل نفسك مسؤول تقييم أملاك بحرية، وقد أسندت إليك مهمة تقليل الخسائر الناجمة عن فقدان الحمولة التي كانت على ظهر ثلاث سفن نقل مؤمّنة غرقت البارحة قبالة شاطئ ألاسكا. وقد كانت كل سفينة منها تحمل ما قيمته 200 ألف دولار، هذه الحمولة ستضيع إذا لم يتم انتشالها في غضون 72 ساعة. فعرض عليك صاحب شركة محلية متخصصة في الانتشال البحري أن تختار بين أمرين لتنفيذهما بنفس التكلفة:

الخطة الأولى: أن يتم انتشال حمولة إحدى السفن الثلاث، والحصول على غنيمة قيمتها التي تصل إلى 200 ألف دولار.

الخطة الثانية: أن يتم انتشال حمولة السفن الثلاث التي تصل قيمتها إلى 600 ألف دولار، مع احتمال نجاح العملية بنسبة الثلث، مقابل فشلها وخسارة كل شيء بنسبة الثلثين.

فأي من الخطتين ستختار؟

إذا كان تفكيرك مشابهاً لـ 71% من المشاركين في الدراسة، فسوف تختار الخطة الأولى “الأقل مخاطرة”، والتي ستحفظ لك حمولة سفينة واحدة بشكل مؤكد.

وبعد ذلك طلبنا من مجموعة أخرى من الأفراد ضمن ذات الدراسة الاختيار بين الخطة الثالثة والرابعة:

الخطة الثالثة: سوف تتسبب في خسارة حمولة سفينتين من الثلاث سفن، بما قيمته 400 ألف دولار.

الخطة الرابعة: سوف تتسبب في خسارة حمولة السفن الثلاث بما يساوي 600 ألف دولار باحتمال الثلثين، في مقابل احتمال الثلث أن يتم إنقاذ كل شيء وتجنب الخسارة بالكامل.

وفي هذه المرة، اختار 80% من المشاركين الخطة الرابعة.

ولا يخفى عليك كقارئ أن هذين الزوجين متطابقان تماماً، فالخطة الأولى ذات الثالثة، والخطة الثانية ذات الرابعة، ولا اختلاف بينها إلا في الصياغة. ويكشف هذا التباين المدهش في الخيارات بين الحالتين ميل الأفراد إلى تجنب المخاطرة حين تُعرض المشكلة أمامهم من زاوية المكاسب (الحمولة التي يمكن انتشالها)، بينما يميلون إلى ركوب الخطر إذا عُرضت المشكلة عليهم من زاوية تجنب الخسائر (الحمولة المعرضة للغرق). أضف إلى ذلك ركونهم إلى تبني الصياغة التي تلقى إليهم كما هي دون محاولة إعادة كتابتها بأسلوبهم.

الصياغة بنقاط مرجعية مختلفة 

مرة أخرى يمكن أن تحمل المشكلة الواحدة إجابات متباينة، ولكن هنا إذا استُخدمت الصياغات مع نقاط مرجعية مختلفة. لنفترض أن لديك 2,000 دولار في حسابك الجاري، وطرح أحدهم السؤال التالي عليك:

هل تقبل الخوض في احتمال خسارة 300 دولار أو الفوز بـ500 دولار بنسبة خمسين بالمائة؟

هل ستقبل هذه الفرصة؟

وماذا إذا كان السؤال المطروح عليك هو التالي:

هل تفضل الحفاظ على حسابك الجاري بقيمته الحالية التي تساوي 2,000 دولار أو الخوض في احتمال تغير قيمته بين 1,700 دولار و2,500 دولار بنسبة خمسين بالمائة؟

مرة أخرى، يطرح السؤالان السابقان ذات المشكلة. وفي حين أن العقل والمنطق يفترضان أن ترد عليهما بذات الإجابة، تشير الدراسات إلى رفض العديد من الأفراد الخوض في احتمال الخمسين بالمائة مع السؤال الأول وقبولهم ذلك في السؤال الثاني. ويمكن إرجاع هذه الردود المتباينة إلى اختلاف النقاط المرجعية في الصياغتين. إذ تؤكد الصياغة الأولى في انطلاقها من نقطة الصفر على المكاسب والخسائر الصرفة، فتولد فكرة الخسارة في عقول الكثير من الأفراد الرد المتحفظ. بينما تضع الصياغة الثانية في انطلاقها من نقطة الألفي دولار الأمور في إطار أشمل عبر إبراز الأثر المالي الحقيقي للقرار.

ما الذي يمكنك فعله إزاء ذلك؟

المشكلة سيئة الصياغة من شأنها تقويض أفضل القرارات وأكثرها إدراكاً. ولكن لا زال أمامك الفرصة لاحتواء الآثار السلبية للصياغة من خلال اتخاذ الاحتياطات التالية:

  • لا تقبل بشكل مباشر الصياغة الأولية للمشكلة، سواء كانت من صياغتك أو صياغة غيرك. وحاول دوماً إعادة صياغتها بأشكال متعددة. وابحث عن التشويش الذي تسببه الصياغات المختلفة.
  • حاول عرض المشكلات في صورة حيادية تجمع بين المكاسب والخسائر أو تتبنى عدة نقاط مرجعية. على سبيل المثال: هل تقبل احتمال خسارتك مبلغ 300 دولار بما يجعل رصيدك المصرفي 1,700 دولار، مقابل احتمال مساوٍ لفوزك بمبلغ 500 دولار يرفع رصيدك إلى 2,500 دولار؟
  • فكر مليّاً خلال عملية اتخاذك القرار حول صياغة المشكلة. وخلال هذه العملية وخاصة قرب نهايتها، سَل نفسك عن الكيفية التي سيبدو عليها تفكيرك إذا اختلفت الصياغة.
  • إذا أوصى الآخرون باتخاذ قرار، فتفحص صياغتهم للمشكلة وتحداهم بصياغات مختلفة.

6- مزالق التخمين والتنبؤ

معظمنا متمرس في طرح التخمينات حول كل من الوقت والمسافة والوزن والحجم. لأننا ببساطة نحكم على هذه المتغيرات على نحو مستمر، ونتلقى ردوداً سريعة حول دقة تلك الأحكام. وبفضل هذه الممارسة اليومية، اكتسبت عقولنا مهارة عالية في التخمين وتصويبه.

غير أن طرح التخمينات والتنبؤات حول أحداث غير مؤكدة هو أمر مختلف. وعلى الرغم من قيام المدراء باستمرار بتخمينات وتنبؤات من هذا القبيل، إلا أنهم نادراً ما يظفرون برد واضح حول دقة ما قدّروه. فإذا طرحت مثلاً تخميناً حول انخفاض سعر برميل النفط إلى ما دون 15 دولاراً خلال عام من الآن وقدرت احتمال ذلك بـ 40% وحدث ذلك فعلاً، فأنت لا زلت تفتقر إلى ما يثبت صحة احتمال وقوع الحدث الذي قدرته. والطريقة الوحيدة لقياس مدى دقتك تكمن في متابعة الكثير والكثير من الأحكام المشابهة لتقديرك ومآلاتها، لتتبين إذا كانت الأحداث التي توقعت حدوثها بنسبة 40% وقعت حقاً بما يعادل هذه النسبة من المرات. وهو ما يتطلب قدراً هائلاً من البيانات التي يجب جمعها بعناية على مدار مدة زمنية طويلة.

ولا مصلحة أو مكسب لأحد للقيام بذلك سوى خبراء الأرصاد الجوية وتجار المراهنات الرياضية، أما نحن فلا. ونتيجة لذلك، فعقولنا ليست معتادة ولا مهيأة لخوض تخمينات إزاء ما يغمض بالنسبة لنا من حوادث.

مزالق انعدام اليقين

هذه المزالق السابقة التي ناقشناها يمكنها أن تؤثر في أسلوب اتخاذنا للقرارات عند مواجهة ما نجهل. غير أن هنالك نوعاً آخر من المزالق التي تسبب تشويشاً بشكل بارز في ظروف انعدام اليقين، لأنها ذاتها تحجب قدرتنا على تقييم الاحتمالات. لنلق نظرة على ثلاثة منها تُعد الأكثر شيوعاً بين مزالق انعدام اليقين:

مزلق الثقة المفرطة

على الرغم من أن معظمنا لا يحسن التخمين والتنبؤ، إلا أننا في الواقع نبدي ثقة مفرطة في دقة تقديراتنا للأمور. وهو ما يقود إلى أخطاء في الأحكام تكون نتيجتها قرارات غير صائبة. إذ طُلب من مجموعة أفراد – خلال سلسلة من الاختبارات – التنبؤ بالقيمة الختامية (ساعة الإقفال) لمؤشر “داو جونز الصناعي” للأسبوع المقبل. ولأخذ عامل الغموض في الحسبان، فقد طُلب منهم تقدير نطاق القيم التي يتوقعون للقيمة الختامية أن تكون ضمنها. وعند تحديد القيمة العليا لهذا النطاق، طُلب منهم اختيار أعلى تقدير ممكن بحيث لا يتجاوز احتمال تخطيه في اعتقادهم إلا 1% عند الإقفال.

وبأسلوب مماثل، طُلب منهم تحديد القيمة الدنيا للنطاق عبر اختيار أدنى تقدير ممكن بحيث لا يتجاوز احتمال تخطيه في اعتقادهم إلا 1% عند الإقفال. فإذا كان المشاركون جيدين في الحكم على دقة توقعاتهم، فلك أن تتخيلهم يجانبون الصواب فيما يقرب من 2% من الوقت فحسب. غير أن مئات الاختبارات أثبتت أن مؤشرات داو جونز الفعلية كانت خارج نطاق التنبؤات بين 20% إلى 30% من الوقت. فثقة الناس المفرطة بدقة تنبؤاتهم تدفعهم إلى وضع نطاق ضيق من الاحتمالات.

فكر فيما يعنيه ذلك بالنسبة لقرارات الأعمال التجارية، حيث تتعلق كبرى المبادرات والاستثمارات بمدى محدد من التقديرات. فإذا بخس المدراء الحد الأعلى من متغير أساسي، أو غالوا في تقدير حده الأدنى، فقد يضيعون فرصاً ثمينة أو يوقعون أنفسهم في مخاطر أكبر مما يتصورون. وواقع الحال ينبئنا بأن مالاً كثيراً ذهب هدراً في مشاريع كاسدة لتطوير المنتجات بسبب تقديرات المدراء غير الدقيقة لاحتمال إخفاق تلك المنتجات في السوق.

مزلق الاحتراز  

يشكل الحذر الزائد أو الاحتراز مزلقاً آخر يقع فيه من يقومون بالتنبؤ. فحين نواجه قرارات عالية المخاطر، نميل إلى تعديل تخميناتنا أو تنبؤاتنا “لنكون في الجانب الآمن فحسب”. على سبيل المثال، قامت إحدى الشركات الكبرى لصناعة السيارات في الولايات المتحدة بمحاولة تقدير كمية السيارات الواجب إنتاجها من طراز جديد بناءً على أكثر مواسمها ازدحاماً بالمبيعات. فما كان من قسم تخطيط السوق المسؤول عن هذا القرار إلا أن خاطب الأقسام الأخرى لتزوده بتنبؤاتها حول المتغيرات الأساسية مثل المبيعات المتوقعة ومخزونات تجار السيارات وأفعال الشركات المنافسة والتكاليف.

وانطلاقاً من هدف هذه التقديرات، عدّل كل قسم تنبؤاته لتدعم فرضية إنتاج سيارات أكثر “لنكون في مأمن فحسب”. فأخذ مخططو السوق في الشركة ما وصلهم من أرقام بشكله الظاهري، ثم أضافوا هم أيضاً تعديلهم “ليكونوا في مأمن فحسب”. ولم يكن مفاجئاً بعد ذلك أن فاق عدد السيارات التي تم إنتاجها كمية الطلب بأشواط مما جعل الشركة تستغرق ستة أشهر لتصريف الفائض، مع لجوئها إلى الأسعار الترويجية في آخر المطاف.

وقد استرسل واضعو السياسات في هذا الأمر إلى درجة تقنين الحذر الزائد على هيئة إجراءات رسمية لاتخاذ القرار. ويبرز هنا أكثر الأمثلة تطرفاً ممثلاً في منهجية “تحليل الوضعية الأسوأ” التي كانت شائعة في وقت مضى في تصميم أنظمة التسليح ولا تزال مستخدمة ضمن بعض الأطر الهندسية والتنظيمية. إذ عمد المهندسون انطلاقاً من تلك المنهجية إلى تصميم الأسلحة لتعمل تحت أسوأ الظروف المحتملة، حتى وإن كان احتمال اجتماع مثلها في الواقع يقترب من الاستحالة. فقد أضاف تحليل الوضعية الأسوأ تكاليف هائلة دون مردود عملي يذكر (والحقيقة أنه جاء بمفعول عكسي بسبب إثارته لسباق تسلح)، ما يثبت أن الاحتراز الشديد قد يساوي أحياناً في خطورته عدم الاحتراز من الأساس.

مزلق القابلية للاستدعاء

حتى إذا لم نكن مفرطين في الثقة أو محترزين بغير داع، فلا نزال معرضين للسقوط في مزلق آخر حين نمارس التخمين والتنبؤ. فطالما أننا نبني في الغالب توقعاتنا لأحداث المستقبل على ما شهدناه في السابق، فقد نفرط بتأثرنا بأحداث صادمة مررنا بها وتركت آثاراً لها في عمق ذاكرتنا. فجميعنا مثلاً يغالي في احتمال وقوع الحوادث الكارثية النادرة كسقوط الطائرات لأن تلك الحوادث تلقى اهتماماً استثنائياً في الإعلام.

وينطبق الأمر ذاته على أي حادث صادم أو مفزع قاسيت منه في حياتك، إذاً قد يكون مصدر تشويش لتفكيرك. فستجد ذاتك ترفع احتمال الحوادث المرورية في ذهنك إذا مررت بإحداها خلال توجهك إلى العمل، كما سوف تزيد من افتراض إصابتك يوماً ما بالسرطان وموتك بسببه إذا فارقت صديقاً مقرباً جراء هذا المرض.

والواقع أن أي شيء يشوش قدرتك على استدعاء الأحداث بشكل متوازن وسليم يسهم في ذات الوقت بتشويش تقييمك للاحتمالات. في إحدى التجارب، قُرأت قوائم تضم أسماء رجال ونساء معروفين على مجموعات مختلفة من الأفراد. وحُجبت عن المشاركين معلومة أن أسماء الرجال تساوي أسماء النساء في كل قائمة، مع وضع أسماء رجال أشهر من النساء في بعضها وأسماء نساء أشهر من الرجال في بعضها الآخر. ثم طُلب من المشاركين تقدير نسبة الرجال والنساء في كل قائمة. فظن من سمعوا أسماء الرجال الأشهر أنهم الأكثر عدداً في القائمة، بينما ظن من سمعوا أسماء النساء الأشهر أنهن الأكثر عدداً.

ويغلب على محاميي الشركات الوقوع في مزلق القابلية للاستدعاء عند دفاعهم في قضايا المسؤولية القانونية. إذ عادة ما تتعلق قراراتهم حول اللجوء إلى تسوية دعوى ما أو الذهاب بها إلى المحكمة بتقييمهم للنتائج المحتملة للمحاكمة. وبحكم ميل الإعلام إلى إشاعة أخبار التعويضات الكبرى عن الخسائر بكل ما أوتي من قوة (مع تجاهل نتائج المحاكمات الأكثر انتشاراً)، قد يفرط المحامون في تقدير احتمال الحصول على تعويض كبير للمدعي الذي يدافعون عنه. فتراهم نتيجة لذلك يعرضون مبالغ تسوية تفوق في قيمتها ما هو سائغ أو مبرر في واقع الحال.

ما الذي يمكنك فعله إزاء ذلك؟

الطريقة المثلى لتجنب مزلقي التخمين والتنبؤ يكمن في اتباع نهج منضبط لإصدار التنبؤات وحساب الاحتمالات. وهناك بعض الاحتياطات الإضافية التي يمكن اتخاذها لكل مزلق من تلك المزالق الثلاثة:

  • لتخفيف آثار الثقة المفرطة عند التخمين، ابدأ دوماً بالتعامل مع الحدود القصوى (العليا والدنيا) للقيم المحتملة فيما تعالجه من أمور. فهذا سوف يساعدك في التخلص من الوقوع في ترسيخ مصدره التخمين الأولي. ثم تحدّ تخمينك للحدود القصوى، وحاول تخيل ما ستكون عليه الظروف إذا تجاوزت القيمة الحقيقية في هبوطها حدك الأدنى أو تجاوزت في ارتفاعها حدك الأعلى، واضبط المدى الذي تعمل فيه بناءً على ما تصل إليه من فهم جديد. وعامل تقديرات مرؤوسيك وناصحيك بذات الأسلوب وتحداها، فهم أيضاً ليسوا بمأمن من الوقوع في مزلق الثقة المفرطة.
  • لتجنب مزلق الاحتراز، اعرض دوماً تخميناتك بكل شفافية، واشرح لأي فرد سيستخدمها بأنها لم تخضع للتعديل. أكد حاجتك إلى مدخلات صريحة وصادقة لأي طرف سيزودك بتخميناته. واختبر ما يصلك منها إزاء مدى معقول من القيم لتقييم آثارها. وأعط فرصة تدقيق ثانية للتخمينات الأكثر حساسية.
  • لتخفيف التشويش الحاصل من المتغيرات في القابلية للاستدعاء، تفحص بعناية جميع افتراضاتك لتتأكد أنها ليست ناتجة عن ذكريات مسيطرة. واحصل على إحصاءات حقيقية متى استطعت إلى ذلك سبيلاً، وحاذر أن تقود الانطباعات تفكيرك.

الحذر يقي من النوائب

يندر في قرارات الأعمال أن تصادف مسألة لا تحتاج إلى إعمال عقل وكدّ ذهن. فأدمغتنا في عمل دائب دون توقف، ولكن للأسف فإن عملها يعيقنا أحياناً بدل أن يساعدنا. فكل مرحلة من مراحل اتخاذ القرار تنوء بالمفاهيم الخاطئة والتحيزات وسواها من حيل العقل التي يمكن أن تؤثر في خياراتنا. وتتميز القرارات الهامة والتي تنطوي على تعقيد شديد بأنها الأكثر عرضة للتشويش، لأنها تميل إلى إشراك معظم الافتراضات ومعظم التخمينات ومعظم المدخلات على يد معظم الأفراد. وكلما كان الرهان عالياً، زاد خطر الوقوع في أحد المزالق النفسية.

يمكن لكل ما عرضناه من مزالق أن يعمل بشكل مستقل عن غيره، لكن الأخطر من ذلك أن تعمل بتناسق مع بعضها، فيقوي بعضها بعضاً. فالانطباع الأولي الصارخ قد يرسخ في تفكيرنا، فيجعلنا نذهب منحازين في طلب الأدلة المؤكِدة لتبرير ميلنا الابتدائي. وقرارنا المتسرع قد يؤسس وضعاً راهناً جديداً. ومع تراكم تكاليفنا الغارقة، نجد أنفسنا عالقين فيما جنته أيدينا، ولا وقت لدينا لبحث سبل جديدة قد تكون أفضل مما نحن فيه. وهكذا تصطف الإشارات النفسية الخاطئة في حلقات متوالية، جاعلة الوصول إلى الخيار الحكيم أصعب فأصعب.

وفي نهاية الحديث عن مزالق اتخاذ القرارات، نعاود التأكيد على ما أشرنا إليه في مستهل حديثنا بأن أفضل وقاية من جميع المزالق النفسية – متفرقة أو مجتمعة – تكمن في الوعي بها والتيقظ لها. فالحذر يقي من النوائب. وحتى إذا لم تستطع التخلص من التشويشات المركوزة في طريقة عمل عقلك، يبقى بإمكانك إعداد الاختبارات وقواعد الانضباط في عملية اتخاذ القرار بما يكفل كشف أي أخطاء في التفكير قبل أن تتحول إلى أخطاء في الحكم على الأمور. كما أن بذل الجهد في استيعاب المزالق النفسية وتجنبها يعطيك ميزة إضافية تتمثل في رفع ثقتك في الخيارات التي تتخذها.

اقرأ ايضاً:

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .