استخدام المحفزات السلوكية لعلاج مرض السكري

6 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يلجأ اختصاصيو الرعاية الصحية ومؤسسات دفع تكاليف الاستشفاء بشكل متزايد إلى الاستفادة من البيانات الضخمة للتغلب على ما يمكن أن يسمى “مشكلة اعتماد المتوسطات” في الطب التقليدي حتى الآن، والتي تتمثل في أنّ العلاج المجرب على المستوى الجماعي قد يكون في الواقع أنجع بالنسبة لبعض الأفراد من الآخرين. ولعل ما يهدف إليه ما يسمى “الطب الدقيق” هو تحديد العلاج المناسب لكل فرد على حدة، بدلاً من العلاج الجماعي، وذلك بناء على البيانات التفصيلية للنمط الجيني والنمط الظاهري المأخوذة من سجلات المريض الطبية. ومن شأن الطبيعة الفردية القائمة على البيانات للبروتوكولات العلاجية هذه أنْ تزيد من احتمال نجاح العلاج الموصوف خصيصاً لمريض بعينه. فماذا عن علاج مرض السكري بالمحفزات السلوكية ونظريات الترغيب؟

اقرأ أيضاً: “الترغيب” وعلم الاقتصاد السلوكي لصنع القرار

كلا المدرستين، الطب التقليدي والطب الدقيق، تواجهان ما يسمى “مشكلة الجزء الأخير من الرحلة” المرتبطة بتغيير سلوك المريض؛ فحتى أفضل العلاجات وأكثرها ملاءمة لحالة المريض لن تكون فعالة ما لم يلتزم بها المريض ويطبقها بحذافيرها حتى النهاية. وتبلغ تكلفة عدم الالتزام بتطبيق العلاج في الولايات المتحدة أكثر من 250 مليار دولار سنوياً وفق تقديرات محافظة؛ كما أنّ غالبية حالات دخول المريض إلى المستشفى مجدداً بعد خضوعه لعملية جراحية تحدث بسبب عدم التزام المريض ببروتوكولات خروجه من المستشفى في المرة الأولى.  

علاج مرض السكري بالمحفزات السلوكية

وعلى الرغم من التسليم بوجود مسائل عدم الالتزام بالعلاج وإجراء الدراسات حولها منذ سنوات عدة، لم تُستخدم التقنيات المستمدة من علم السلوك لتحسين التزام المريض بالعلاج حتى النهاية إلا مؤخراً. يقول الدكتور ميتيش باتل، مدير “وحدة التحفيز” في مستشفى بن ميدسين: “يشكل السلوك الإنساني الجزء الأخير من الطريق الذي تشترك فيه جميع التطورات الطبية”. ويستكشف باتل وآخرون، بما فيهم مجموعة من شركة ديلويت، ما إذا كان بالإمكان إدخال المحفزات السلوكية الدقيقة، التي من شأنها تعزيز إرادة المريض واستعداده للالتزام بالوصفة العلاجية، وإدماجها في إجراءات الطب الدقيق القائم على البيانات، وذلك من خلال تقديم خيارات عدة من ضمن الخطة التحفيزية المصممة للتعامل مع الملف التحفيزي الخاص بالمريض.

ويطور علماء السلوك مجموعة متنامية من تقنيات التحفيز، وهي عبارة عن تعديلات دقيقة وغير ملحوظة في تصميم البيئة المحيطة بالمريض لدفعه إلى اعتماد بعض السلوكيات المفيدة له بشكل تلقائي. فعلى سبيل المثال درست كاثرين ميلكمان، الباحثة في الاقتصاد السلوكي بجامعة وارتون، مع فريقها مدى فاعلية “استراتيجيات ما قبل الالتزام” في تحفيز الناس على أخذ اللقاحات. وتبين أنّ تحديد وقت اللقاح ومكانه بدقة وتدوينهما كتابة يؤديان إلى تحسين ملموس في نسبة الالتزام بالمقارنة مع ترك الأمور غامضة وغير محددة. وهكذا فإنّ تعديلاً طفيفاً وغير مكلف في هندسة الخيارات يؤدي إلى تحسن حقيقي في الصحة السكانية. ومن التكتيكات الأخرى المعروفة والناجحة لتحسين الصحة، استخدام برامج الألعاب وبرامج الصديق المراقب ورسائل التذكير النصية.     

ولكن لن يكون الجميع مهتمين باللعب لتحسين صحتهم، ولن يكون لديهم جميعاً الحافز عبر اتفاق ما قبل الالتزام أو عبر صديق يراقب سلوكهم الصحي باستمرار. كما أنّ العلاجات ليست ناجعة مع جميع المرضى بنفس الدرجة، فإن التدخلات السلوكية أيضاً لا تنجح في تحفيز الجميع بنفس الكفاءة.  

وهنا يأتي دور ما يسمى “التدخل الدقيق”. ويجمع هذا النهج، الذي لم يطبّق إلا مؤخراً في مجال الرعاية الصحية، بين علم البيانات وعلم السلوك لتكييف التدخل السلوكي لكي يكون أكثر قدرة على تحفيز المريض لتغيير سلوكه والاستمرار في الالتزام ببروتوكول العلاج الموصوف له. وهكذا لا يقتصر برنامج التدخل الدقيق على وصف العلاج بما يلائم الحالة المرضية للمريض بشكل خاص، بل يتعداه إلى وصف التدخل السلوكي القادر على تحفيز ذلك المريض بشكل خاص ودفعه للالتزام ببروتوكول العلاج بدقة. ويجري تشجيع المرضى على تبني السلوكيات الصحية الموصى بها من خلال تدخلات مصممة خصيصاً لتناسب شخصياتهم ودوافعهم ومسارات رعايتهم الصحية والصعوبات التي تقف في طريق تحفيزهم. وبمساعدة تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي وبرمجيات تعلم الآلة، بات من الممكن ليس فقط وصف العلاج المناسب، بل وإجراء التدخلات السلوكية المستهدفة أيضاً. وباختصار يمكن استخدام البيانات الضخمة لتقديم الحافز المناسب للمريض (أو الطبيب) المناسب وفي الوقت المناسب وبالطريقة المناسبة للالتزام بالعلاج المناسب القائم على الأدلة.

اقرأ أيضاً: تعميم أفكار العلوم السلوكية ضمن الحمض النووي للمؤسسات

ولكي تنجح التدخلات الدقيقة يتعين على مقدم خدمة الرعاية الصحية معرفة الكثير حول المريض المطلوب التأثير فيه. ويشمل ذلك جمع معلومات ديموغرافية واجتماعية واقتصادية، ومعرفة أفضل طريقة لتقديم التوصيات إلى المريض، هل تكون من خلال النصيحة المباشرة إلى الشخص أم عبر تطبيق أو برنامج، ومعرفة إلى أين وصل المريض في مسار علاجه، ومعرفة كيف يستجيب للإشارات الاجتماعية والمحفزات السلوكية. تؤدي كل هذه المعلومات دور متغيرات التنبؤ والتحكم في النماذج التحليلية التي تحدد العوامل الأكثر ارتباطاً من الناحية الإحصائية بالسلوكيات الصحية المرغوبة.

تجربة مستشفى “بين ميدسين”

وللمساعدة في هذا التحليل، تجري وحدة التحفيز في مستشفى “بين ميدسين” تجربة سريرية ممولة من قبل شركة ديلويت. وتهدف التجربة التي يشرف عليها الدكتور باتل إلى فهم كيف يستجيب الأشخاص المختلفون لأنماط المحفزات المختلفة التي تهدف إلى التأثير في سلوك الأشخاص البالغين المصابين بفرط الوزن والسمنة من حيث ممارسة الرياضة. وتقوم التجربة على تقييم المرضى وتوزيعهم عشوائياً على ثلاث مجموعات تخضع كل منها لتدخل اجتماعي مختلف: الأول تنافسي والثاني تعاوني والثالث داعم. كما يجري استكشاف أثر التدخلات السلوكية المعروفة كاستخدام الألعاب والتحفيز الاجتماعي على المرضى. وتجمع في إطار التجربة البيانات الضرورية لتوقع الأثر الذي يتركه كل تدخل على كل مريض، وذلك لاختيار الحافز المناسب خصيصاً لكل مريض إلى جانب وصف العلاج المناسب له شخصياً.  

وتجري محاولة أخرى لوضع نهج التدخل الدقيق حيز التطبيق في المكسيك، وذلك في “مستشفى السكري”، الذي يعد أكبر شبكة خاصة لعلاج مرض السكري وارتفاع ضغط الدم في البلاد، والذي يستهدف المجموعات السكانية ذات الدخل المتوسط والمنخفض. عندما يأتي المرضى إلى المستشفى للمرة الأولى تكون مستويات تركيز الغلوكوز في الدم عادة حوالي 11% (وهو مستوى “الأزمة”). ولكن تلك المستويات تستقر بعد عدد قليل من الزيارات، التي يتم فيها تلقي العلاج وتعديل بعض السلوكيات، عند مستوى 7% تقريباً. ويؤدي هذا الانخفاض إلى تقليل عدد نتائج الفحوص السلبية بنسبة تتراوح بين 200% و400%. ولا شك أنّ هذا الإنجاز قصير الأجل جدير بأنْ يحتفى به. بيد أنْ ما يقلق هو أنّ أولئك المرضى قد يعودون إلى سلوكياتهم القديمة غير الصحية ويخسرون ما كسبوه، ما لم يداوموا على زيارة المستشفى عاماً بعد عام.   

يقول ميغيل غارتسا، مدير العمليات في مستشفى السكري: “قد تشكل البيانات جزءاً من حل المشكلة”، مضيفاً: “إننا نقدم خدمة الرعاية الصحية لمرضى السكري منذ أكثر من 7 أعوام. ولقد عاينا أكثر من 30,000 مريض من خلال نموذج الوحدة المتكاملة، ولذلك نمتلك الكثير من البيانات. ويتعين علينا إيجاد المحفزات الصغيرة القادرة على إزالة العوائق ودفع المرضى لممارسة الرياضة بشكل أكبر وتناول طعام صحي والالتزام بتناول الأدوية الموصوفة لهم. ويتعين علينا الاستفادة من البيانات المتوفرة لدينا لكي نعرف ما هي المحفزات التي تؤثر في المرضى على اختلافهم”.

ويعمل مستشفى السكري بالتعاون مع شركة ديلويت على إنشاء “مختبر تعلّم تغيير السلوك” بهدف جمع بيانات التدخل الدقيق وتحليلها وتطوير خوارزميات تنبؤ يمكن تطبيقها على مجموعات أكبر من السكان. ويقول خافير لوزانو، مؤسس مستشفى السكري ورئيسه التنفيذي، “إنّ الهدف هو ضمان الاستفادة من المعرفة المكتسبة حول التدخل الدقيق في مستشفانا وتعميمها لمساعدة ملايين الناس المصابين بمرض السكري في المكسيك والعالم بأسره. عادة ما تكون التغييرات النمطية الواجب إدخالها على سلوكيات حياة مرضى السكري وأنماطها صعبة. وإذا ما استطعنا توظيف بيانات التدخل الدقيق كي نحصر توصياتنا بالتدخلات التي من المرجح أن تؤثر في كل مريض على وجه التحديد أكثر من سواها، فإننا سنخفض تكاليف علاج المرضى ونحصل على نتائج أفضل”.    

اقرأ أيضاً: تطبيقات مفاهيم الاقتصاد السلوكي من قبل المصارف المركزية والبنوك

وفي مختبر التعلم التابع لمستشفى السكري، يتم قياس تأثير الأنماط المختلفة من التدخل الدقيق في أهداف الرعاية المتنوعة، والتي تشمل حضور المرضى من جديد إلى المستشفى بعد ثلاثة أشهر من الموعد الأول، واتباع السلوكيات والعادات الصحية، ومراجعة المستشفى من أجل الاستعلام عن التغذية الصحية والإرشاد النفسي. وسيتم اختبار الأنماط المختلفة من التدخلات السلوكية، التي يتم استهدافها بناء على استجابة المريض للتعاون والتمكين الاجتماعيين، إلى جانب مكتبة الرسائل النصية بمحتواها المتنامي لتحديد أنماط الرسائل التي تحسن الأنماط المختلفة لتفاعل المريض.

إنّ النجاح الأولي في تفاعل مرضى مستشفى السكري مشجع جداً، ولكن من المتوقع أنْ يغدو أفضل مع إطلاق خطط التفاعل الدقيق والبدء في تنفيذها. وإذا ما جرت الأمور وفق المخطط، سيكون الهدف حينئذ اختبار ما نتعلمه من علاج مرضى السكري في علاج العديد من الأمراض الأخرى التي يمكن علاجها عن طريق التغيرات السلوكية، بما في ذلك الجوانب الأخرى لمتلازمة الأيض (مثل ارتفاع ضغط الدم والسمنة) إضافة إلى الاضطرابات الناجمة عن تعاطي المواد المسببة للإدمان.      

وفي نهاية الحديث عن علاج مرض السكري بالمحفزات السلوكية ونظريات الترغيب، لقد عانى حقل إدارة الأمراض في الماضي من بعض المشكلات. ونعتقد أنّ ذلك يعود إلى عدم الاستفادة من المحفزات السلوكية الفعالة سوى على نطاق ضيق. فكما أنّ الأشخاص يستجيبون للأدوية بشكل مختلف، يتضح باطّراد أنهم سيستجيبون بشكل مختلف أيضاً لتدخلات التفاعل السلوكية المصممة بشكل جيد وبما يلائم شخصية المريض وخصوصيته.

اقرأ أيضاً: الاقتصادات السلوكية تساعد على تسريع سداد مستحقات بطاقات الائتمان

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .