القيادة في حقبة ما بعد الجائحة: كيف تغيرت إدارة الأعمال خلال أزمة “كوفيد-19″؟

7 دقائق
القيادة في حقبة ما بعد الجائحة
shutterstock.com/Love the wind
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ما الذي نتعلمه من الاستماع إلى أكثر من 50 رئيساً تنفيذياً اضطرتهم الظروف إلى التعامل مع تداعيات جائحة “كوفيد-19” دون دليل إرشادي يتلمّسون خطاه؟ وما الدروس التي تعلمناها؟ وكيف تحولت الفيادة في حقبة ما بعد الجائحة؟ أدى التعامل مع أزمة “كوفيد-19” إلى تسليط الضوء على عدد من الجوانب المهمة وإبراز بعض المبادئ الأساسية. فدعونا نحاول إلقاء نظرة فاحصة عليها.

تخضع معظم الشركات التقليدية لقيود إدارية مفرطة، ولكنها تفتقر إلى القيادة الرشيدة. تستند هذه الفرضية إلى أساس منطقي يدعي أن الإدارة منوطة بتقليل المخاطر والتعامل مع التعقيدات، وهو ما يمكن تحقيقه عن طريق إدارة العمليات التشغيلية وتحديد آليات العمل بدقة متناهية. وتهدف آليات العمل بطبيعتها إلى تقليل هامش العشوائية وتوليد وفورات الحجم وتوسيع نطاق العمل والتعلم من الأخطاء. يشير هذا المنطق ضمنياً إلى أن التغيير والتحوّل منوطان بالقيادة ولا علاقة لهما بالإدارة. ومن البديهي أن تؤدي المراحل التطورية لسيناريوهات الأعمال الحالية إلى ضرورة التوصل إلى رؤية جديدة.

فقد شهدنا في السنوات الأخيرة تحولاً جذرياً في نموذج العمل والذي يُعزى في الغالب إلى “التحول الرقمي”. أدى هذا إلى إرغام كافة الشركات التي نشأت في عصر الصناعة على إجراء عملية تكيف داروينية كانت مؤلمة إلى حدٍّ كبير. من الواضح أن نمو “الموروثات” (خليط من الموارد الملموسة وغير الملموسة وآليات العمل والقيم والعادات المتأصلة في الشركات المدمجة) يأتي مصحوباً بتنامي التحدي المتمثل في ضرورة تغيير المسار عندما نلاحظ أن ثمة عاصفة تلوح في الأفق.

وعلى الرغم من كل العواصف والرياح التي كانت تهب بشدة على بيئة الأعمال في الأساس، فإن التحول الرقمي الذي أشرنا إليه آنفاً أدى إلى عواصف أعنف وأشد خطراً، حتى إن الكثيرين لم يترددوا لحظة واحدة في وصفها بالعاصفة الهوجاء. لقد شهدنا على مدى العقود القليلة الماضية إصابة الاقتصاد بالركود على فترات متباعدة بسبب أزمات الطلب (كتراجع معدلات الاستهلاك الذي شهدناه عقب أحداث 11 سبتمبر/أيلول)، وأزمات العرْض (وخير مثال عليها ارتفاع أسعار الخدمات بشكل دوري بسبب ارتفاع أسعار النفط)، أو الأزمات المالية (مثل الأزمة المالية لعام 2008 التي اندلعت شرارتها بإفلاس بنك “ليمان براذرز”). لكن أياً منا لم يشهد من قبل صدمة تجمع بين هذه الأزمات الثلاث في وقت واحد. أضف إلى ذلك كل المصاعب التشغيلية التي كانت تواجه عدداً لا يُحصى من الشركات في خضم محاولاتها للتكيف مع النموذج الرقمي الحديث. فلم يكذبوا، إذاً، حينما قالوا عنها إنها عاصفة هوجاء.

لقد بتنا نشعر بأن حجم الحدث الذي شهدناه خلال العام الماضي أدى إلى “التغير المناخي” بصورة دائمة، على الأقل في بعض المجالات. لذا أردنا أن نلقي نظرة فاحصة على هذه المسألة مع عدد من الأشخاص الذين جرى تكليفهم بتولي دفة القيادة وإنقاذ سفنهم من الغرق بحكم مناصبهم ومسؤولياتهم خلال هذه المرحلة الانتقالية المعقدة. وقد شرُفنا بالتحدث إلى أكثر من 50 مديراً من الصف الأول حول هذا الموضوع بالذات، وتمخضت محادثاتنا عن نتائج رائعة للغاية، كان من أبرزها أن هذه الأزمة تستلزم وفرة في “القدرات القيادية” أكثر من احتياجها إلى “المهارات الإدارية”. بعبارة أخرى، لقد حان الوقت لأن ينظر المدراء بعين الاهتمام إلى تفعيل قدرتهم على التعبير عن رؤى جديدة لأعمالهم ونماذجهم التشغيلية التي يجب أن تختلف عن النماذج السابقة في بعض النواحي. إذ يجب أن تكون الشركات قادرة على العودة وغرس جذورها في “البيئة الجديدة” بكل السبل الممكنة.

مبادئ لتحسين القيادة في حقبة ما بعد الجائحة

تطرقت محادثاتنا إلى 5 موضوعات على وجه التحديد، وأردنا تلخيصها في 5 مبادئ. ونوردها هنا بقصد الاسترشاد بها ونحن نتحسس طريقنا خلال هذه الحقبة.

اتبع أسلوب “فيجيتال”

كان ما بين 800 ألف إلى 900 ألف شخص في إيطاليا يُجرون كل عام عمليات الشراء عبر الإنترنت لأول مرة في الأوقات “العادية”. وخلال عملية الإغلاق الشامل (من فبراير/شباط إلى مارس/آذار 2020) التي استمرت لمدة 100 يوم، اختار أكثر من 2.1 مليون شخص حلول التجارة الإلكترونية. وهذا يدل على أن الإيطاليين تغلبوا على سلسلة من الحواجز النفسية، وهو السلوك الذي سيمتد أثره حتماً إلى قطاعات أخرى، ما سيؤدي بدوره إلى حدوث تغييرات ملموسة في تلك القطاعات أيضاً.

يحاول هؤلاء المستهلكون جس النبض باعتبارهم مستجدين في التعامل بأسلوب “فيجيتال” (ويُقصَد به الجمع بين الأساليب التقليدية والرقمية) من خلال تجربتهم الأولى في استخدام التقنيات الرقمية، سواء من حيث مستوى الراحة في التعامل (بالمعنى الأوسع للكلمة) أو الحلول التي يمكن أن تطرحها. وسيتعلمون بسرعة كيفية استخدام وظيفة المحفظة الرقمية على هواتفهم الذكية وكيفية مسح الرموز الشريطية لدفع ثمن المشتريات بالطرق الذكية. وسيزداد إقبالهم على أسلوب الدفع الذاتي في المحال التجارية أينما أُتيح لهم ذلك، وسيبدؤون الاستمتاع بالخيارات الفورية في مختلف الخدمات التي يستخدمونها، وما إلى ذلك.

ويشبّه الكثير من الخبراء والمحللين هذا الأسلوب الهجين الذي يجمع بين الطرق الرقمية والمادية بشجرة المانغروف، حيث تنمو هذه الشجرة في المياه قليلة الملوحة التي تنساب بين الأنهار والبحار. ونحن نعلم الآن أن عملية الامتزاج والتهجين التي نشهدها حالياً قد فاضت إلى درجة أنها “محت” أي تصور بإمكانية انفصال المياه العذبة عن المياه المالحة. ويحاول عدد هائل من الشركات التي دخلت العصر الرقمي تحقيق أقصى استفادة من هذا الوضع، وذلك من خلال تعلم غرس جذورها في هذه المياه قليلة الملوحة، وهو ما أكده الرئيس التنفيذي لإحدى كبرى الشركات في مجال التوزيع في إيطاليا، قائلاً بإصرار إن هذه العملية حتمية ولا رجعة فيها.

كُن مرناً

بات العمل الذكي ممكناً، وفوائده لا يمكن إنكارها بحال من الأحوال، لكننا نحتاج إلى وضع سيناريوهات تحقق التوازن بين الذهاب إلى المقرات المكتبية والعمل من المنزل. ونهدف من وراء هذا الأسلوب إلى التخفيف من الآثار الجانبية لعجز زملاء العمل عن التفاعل بشكل شخصي عند العمل عن بُعد، وهي الحقيقة التي بدت واضحة خلال الفترة الماضية.

فقد أكد معظم المدراء الذين تحدثنا معهم أنه لا يوجد بين أيديهم دليل إرشادي، واستحالة استنساخ الحلول المطبقة في الشركات الأخرى أو إعادة تطبيق النماذج السابقة. وهذا يعني ضرورة اتباع القادة لأساليب التخطيط المرن والرشيق. فقد قال لنا الرئيس التنفيذي لإحدى الشركات متعددة الجنسيات العاملة في قطاع الخدمات إنه يتعين على المرء اتباع النهج نفسه الذي يجري استخدامه عادةً في إدارة شركة ناشئة، بمعنى أنه يجب أن يتصف بشيء من التواضع وأن يطبّق النموذج التنظيمي الصحيح بإصرار وعزيمة، وأن يسعى باستمرار إلى تحسين القيمة المضافة، يوماً بعد يوم. من الواضح أن التحدي الرئيسي يكمن في التحرك نحو المستقبل مع احترام الجذور التي مكّنت الشركة من النمو والازدهار في الماضي. وقد أشار المدير العام لإحدى الشركات متعددة الجنسيات العاملة في مجال الأغذية والمشروبات إلى أننا سنضطر إلى إعادة النظر في عمليات التعلم وديناميكيات العلاقات والهياكل التنظيمية الهرمية التي ألِفناها في مكان العمل.

كُن صلباً

يقول نسيم نقولا طالب إن هناك مواقف لا تكفي فيها القدرة على التحمل (الحفاظ على استمرارية النظام عند وقوع صدمة). إذ يتعين على الشركات أن تسعى جاهدة لتحقيق الصلابة (بمعنى القدرة على الازدهار في خضم الفوضى، وتحاشي التورط في معارك جانبية لخلق ميزة تنافسية). وكلمة الفوضى (Chaos) هي كلمة يونانية الأصل تشير إلى النتائج المترتبة على التسرع والغموض. وقد قال لنا الرئيس التنفيذي لإحدى الشركات متعددة الجنسيات العاملة في السوق العامة، ورئيس شركة عملاقة في قطاع السيارات، والرئيس التنفيذي لشركة خدمات عامة، إنهم حرصوا على تشكيل فرق عمل خاصة في خضم أزمة “كوفيد-19” لصياغة عدد من السيناريوهات المختلفة لمرحلة ما بعد الإغلاق. كانت هذه الشركات تتوق إلى البحث عن القصور الذاتي الديناميكي القادر على تسريع عودتها إلى العمل في أقرب وقت تسمح به الظروف.

تعامل بأقصى درجات السرعة

لا يمكن أن تعتمد الشركات اليوم على نقاط قوتها وحدها للابتكار في ظل تلاحق موجات التغيير بسرعة مذهلة وتسارع الأحداث بصورة غير مسبوقة. وهو ما أشار إليه الرئيس التنفيذي لإحدى شركات خدمات النقل، حينما ذكّرنا بأهمية بناء بيئات عمل شاملة في هذه المرحلة، ومقاومة إغراء تقليصها إلى أنظمة فردية. علينا أن نتعاون مع مختلف الجهات (سواء كانت جامعات أو مراكز بحثية أو شركات ناشئة أو شركات أخرى) لبناء أنظمة تعمل فيها المكونات الفردية ككيان واحد، بطريقة متواصلة إلى حد ما لتقديم خدمات ذات قيمة مضافة للعميل النهائي بأفضل المستويات الممكنة. وعلّق اثنان من قادة قطاع السيارات على هذه المسألة قائلين إن هذا قد يعني في بعض الحالات التحول إلى التعاون مع المنافسين، أي التعاون المؤقت مع واحدة أو أكثر من الشركات المنافسة وتوحيد القوى من أجل الصالح العام. ونعتقد أنه يجب استغلال هذه الفرصة للبناء من جديد، واستثمار بعض الجهد في إعادة البناء على الأساسات القديمة، ولكن بصورة جزئية فقط. فنحن نعيش في حقبة لا تتيح أمامنا سوى مجال صغير للنزعة الفردية ولا تعيرها الكثير من الاهتمام. ومن هنا يجب أن تنظر الشركات والمؤسسات إلى نفسها باعتبارها منصات مرنة قادرة معاً على تقديم قيمة مضافة أكبر بكثير مما يمكن أن يقدمه كلٌ منها بمفرده.

كُن فضولياً

أجمع كل المهنيين الذين التقيناهم على أهمية القدرة على الاحتفاء بالتغيير وتغليب الشك على اليقين، ليس بتلك الطريقة الباعثة على القلق ولكن بطريقة بنّاءة، والشغف بعملك، واتفقوا على أنها باتت الآن مكونات أساسية أكثر من أي وقت مضى. وأكد رئيسان تنفيذيان لشركتين تعملان في مجال السلع الاستهلاكية سريعة التداول على ضرورة الأخذ بالأسلوب الهجين في هذه الحالة على وجه التحديد، وهو ما يستلزم المزج بين المهارات الشخصية والفنية، علاوة على الجمع بين الحدس والشغف من ناحية وريادة الأعمال والإبداع والبيانات والتكنولوجيا من ناحية أخرى. وكان “حب الاستطلاع” العبارة التي ترددت على ألسنة الجميع دون استثناء.

تحثنا هذه التحولات المزلزلة إلى نسف الكتيب الإرشادي لنماذج القيادة المتعارف عليها وإعادة كتابته من جديد. إذ يتعين على القادة الجدد تغيير سلوكياتهم بصورة شاملة من خلال اتباع ما نسميه نموذج المحددات الخمسة. أولاً: العناية (أي العناية بالأفراد)، ثانياً: السبب (أي الغرض يتجاوز حدود النتائج المالية قصيرة الأجل)، ثالثاً: التعاون (أي التكاتف مع أصحاب المصلحة داخل الشركة وخارجها، بما في ذلك الإدارة وقوة العمل والمؤسسات والمنافسين)، رابعاً: الإبداع (فمثل هذه الأوقات تتطلب جرعة وفيرة من الارتجال وتطبيق الإبداع على أوسع نطاق ممكن)، خامساً: الشجاعة (أي القدرة على اتخاذ إجراء والتشكيك في كل ما تؤمن بصحته، حتى لو لم يكن بمقدورك حساب كل المخاطر أو معرفة كافة المتغيرات).

لن يكون بوسعنا تحقيق إعادة الانطلاق الاقتصادي الكبير إلا إذا واجهنا التحدي الماثل أمامنا من خلال وضع تصور جديد لمستقبل توحّد فيه الشركات ومؤسسات المعرفة جهودها سعياً لتحقيق أهدافها مع توليد القيمة المشتركة، وتطوير القيادة في حقبة ما بعد الجائحة. ويتعين على قادة اليوم أن يسعوا جاهدين لإتاحة فرص الرخاء لأجيال المستقبل دون أن تسيطر عليه قلة قلية من الفئات المحظوظة كما هو الحال الآن بكل أسف. فقد ذكّرتنا جائحة كورونا بضرورة تعميم تجربة العولمة، والاعتراف بفوائدها، ولكن دون أن ننسى أبداً المسؤوليات الملقاة على عاتقنا. وقد قال بابلو نيرودا ذات مرة: “لا يكفي أن نولد من رحم أمهاتنا، بل يجب أن نولد من جديد.. تلك هي الولادة الحقيقية”. والقرار قرارنا نحن الآن. ولا مجال لأي أعذار.

ملاحظة: الأفكار الواردة في هذه المقالة مستمدة من سلسلة من المحادثات مع أكثر من 50 رئيساً تنفيذياً يعملون في مختلف القطاعات على مستوى العالم.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .