ماذا لو أصدرت المصارف المركزية عملة رقمية؟

12 دقيقة
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: أصبحت العملة رقمية بالفعل منذ أعوام. لكن النموذج الأساسي للخدمات المصرفية لم يتغير كثيراً، لأن النظام يعتمد على فكرة أنه ممن الممكن تحويل العملة الرقمية الصادرة عن المصارف التجارية إلى نقد ورقي، وهذا الأمر من مسؤوليات المصرف المركزي. يستكشف هذا البحث ما يمكن أن يحدث إذا بدأت المصارف المركزية بإصدار العملة الرقمية مباشرة، ويرى مؤلفه خبير التكنولوجيا المالية أجاي موكيرجي أن الفكرة التي تستكشفها الصين ودول أخرى حالياً ستقلب النظام المصرفي التقليدي، ويقول إن الانتقال إلى العملة الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي سيكون آمناً أكثر للمودعين (لأن العملة الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي ستكون من المسؤوليات المباشرة للمصرف المركزي المصدر لا من مسؤوليات المصارف التجارية)، وسيلغي ضرورة أن تأخذ المصارف التجارية الودائع المالية من المستهلكين والأسر بصورة مباشرة، وسيجعل نسبة كبيرة من البنى التحتية للمصارف زائدة عن الحاجة، وسيتيح مراقبة النظام المالي وتنظيمه بفعالية أكبر وسيثبت أن هذا النموذج أكثر شمولاً. تصل المبالغ الذي يحتمل توفيرها من التكاليف في الولايات المتحدة وحدها إلى 750 مليار دولار سنوياً، أي ما يساوي إنفاق الأسر الأميركية على الغذاء.

أكثر من 97% من الأموال المتداولة اليوم هي من إيداعات الحسابات المصرفية؛ أي الدولارات التي يتم إيداعها عبر الإنترنت في المصارف التجارية التي تحولها إلى سلسلة من الشفرات الرقمية. أدت رقمنة الحركات المالية التي تجرى بواسطة بطاقات الائتمان وبطاقات الخصم الفوري وتطوير تطبيقات الخدمات المصرفية على الهواتف الذكية إلى نقل كثير من الحركات المالية التي كانت قائمة على الأموال النقدية إلى الفضاء الرقمي.

حتى اليوم، لم يطرأ على الأعمال المصرفية تغيير يذكر بعد التحول الرقمي، في الغرب على الأقلّ، حيث يستمر اللاعبون الجدد مثل شركة “باي بال” (Paypal) بالاعتماد على العملاء الذين يربطون الخدمة ببطاقاتهم المصرفية، سواء كانت بطاقات خصم فوري أو بطاقات ائتمان. نشأ عدد قليل من المصارف التي تعمل عبر الإنترنت فقط، مثل “تشايم” (Chime) و”نوبانك” (Nubank)، ولكن نقول مجدداً إنها تعمل على النماذج القائمة. شهد القطاع المالي الصيني زعزعة بدرجة أكبر، كما تبين من ظهور مؤسستي “آنت فايننشال” (Ant Financial) التابعة لشركة “علي بابا” و”وي بانك” (WeBank) التابعة لشركة “تينسنت” اللتين استغلتا قوانين حماية خصوصية البيانات الفضفاضة وتحليلات البيانات الذكية للهيمنة على مدفوعات المستهلكين ودخلتا أيضاً في مجال الخدمات المصرفية المقدمة للأفراد والشركات الصغيرة. لكن عموماً، تكيفت المصارف التقليدية جيداً مع رقمنة الأموال.

وقد يتغير ذلك قريباً.

إن الدافع لإجراء تغيير جذري أكبر نابع من الصين التي كان مصرفها المركزي يجري تجربة مع أحد أشكال النقد يسمى “العملة الرقمية الصادرة من المصرف المركزي” (CBDC)، بناء على رؤيته لها على أنها العملة التي ستستخدم في المستقبل لتلغي الحاجة إلى النقود الورقية في نهاية المطاف.

في عالم العملة الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي سيتم الاحتفاظ بالشفرة الرقمية لكل وحدة عملة افتراضية في محفظة رقمية وسيتمكن حامل المحفظة من نقل هذه الشفرات بسلاسة إلى المحفظة الرقمية لشخص آخر، على نحو مماثل لما نراه في المحافظ الرقمية المستخدمة في التكنولوجيا المالية وشركات التكنولوجيا الكبرى اليوم، مثل “فينمو” (Venmo) و”آبل باي” (ApplePay)، والمحافظ الرقمية التي تقدمها المصارف التقليدية مثل “زيل” (Zelle)، وهي مؤسسة تعاونية تضم 6 مصارف ومنها “تشيس” (Chase) و”بنك أوف أميركا” و”ويلز فارغو”. في الصين، سيتم منح تراخيص بتقديم هذه الخدمات لأربعة مصارف حكومية وثلاث شركات اتصالات ستعمل جميعها كمراكز توزيع للمحافظ الرقمية بدلاً من الإيداع النقدي، وسيقوم المستخدمون بتصوير رموز الباركود بكاميرات هواتفهم من أجل إجراء عمليات الدفع في المتاجر أو إرسال الأموال إلى محافظ رقمية أخرى على أجهزة الهواتف الذكية، وسيتلقى “مصرف الشعب الصيني” (PBOC) بصورة دورية نسخاً عن حركات العملاء المالية المخزنة على قاعدة بيانات هجينة مركزية وقائمة على البلوك تشين.

بدأت التجربة الصينية بتوزيع 100 مليون يوان رقمي عن طريق برامج اليانصيب في 9 مدن، منها مدن شينجن وسوجو وتشنغدو وشونغان ومنطقة مكتب الألعاب الأولمبية الشتوية لعام 2022 في مدينة بكين، وبحلول نهاية شهر سبتمبر/أيلول عام 2021، سجل برنامج تجربة العملة الرقمية نحو 500 مليون حركة مالية مع 140 مليون مستخدم. سيتم طرح اليوان الإلكتروني (E-Yuan) بالكامل في أثناء دورة الألعاب الأولمبية الشتوية التي ستنظم في شهر فبراير/شباط من عام 2022، وإذا تم التوصل إلى اتفاقيات ثنائية مع السلطات النقدية الأجنبية، فسيتمكن السائحون والمسافرون من رجال الأعمال الذين يزورون الصين من امتلاك محفظة إلكترونية صينية على هواتفهم الذكية.

يتمثل جزء من دافع الصين لإدخال العملة الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي في تقليل اعتماد البلاد على منصتي “علي باي” (Alipay) و”وي تشات” اللتين تضمان حالياً 94% من الحركات المالية عبر الإنترنت، بقيمة 16 تريليون دولار، كما أنه يساعد على الحدّ من تهديد العملات الرقمية المستقلة (مثل بيتكوين) التي يحتمل أن تهدد قدرة الحكومات على إدارة أنظمتها الاقتصادية، وهو احتمال لن تتمكن الحكومة الصينية من مواجهته برباطة جأش.

لكن الصين ليست الدولة الوحيدة المهتمة بالعملة الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي، فالسويد وسنغافورة وكوريا الجنوبية من بين 13 دولة أخرى تجري برامج تجريبية أيضاً. ومن المرجح أن تحذو الولايات المتحدة حذوها، إذ يقوم البنك الاحتياطي الفيدرالي في بوسطن بالتعاون مع معهد “ماساتشوستس للتكنولوجيا” (إم آي تي) (MIT) حالياً بتصميم نموذج أولي للعملة الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي. من المحتمل أن تشعر الولايات المتحدة بالقلق من تخلفها عن الركب ومن التهديد الذي يحتمل أن توجهه لها عملة اليوان الرقمية الصينية واحتمال بروزها كعملة احتياطية عالمية تحلّ محلّ الدولار الأميركي.

في النهاية، ستكون التكنولوجيا التي تدعم عليها العملة الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي هي البلوك تشين التي تقوم عليها عملة البيتكوين. تتألف هذه التكنولوجيا من كتل سجلات بطابع زمني تضم أنشطة الحركات المالية المشفرة ويقوم جميع المشاركين الموثوقين في الشبكة بتدقيقها على نحو مستمر، وهي تعمل على اعتماد اللامركزية في التخزين وإجراء العمليات الموثوقة لنقل الأموال. على الرغم من أن البلوك تشين بطيئة وغير قادرة بعد على دعم التطبيقات الواسعة النطاق، فمن المتوقع أن تنضج في غضون الثلاثة إلى خمسة أعوام المقبلة ومن المرجح أن تتغلب على القيود التي تحدها.  وبالتالي، سيتم في مرحلة معينة استبدال البنية التحتية الرقمية الحالية، ما سيحدّ من اعتماد الوافدين الجدد على الموارد والقدرات التي تسيطر عليها المؤسسات المالية القائمة.

كيف ستغير العملة الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي الخدمات المصرفية؟

قبل قرنين من الزمن كان الأفراد أو المؤسسات في النموذج التقليدي للمصارف يتلقون الأموال (من الاستثمارات أو المدفوعات) ويودعونها في المصارف التي تستخدمها لتقديم القروض، مع حجز نسبة تفرضها الجهات التنظيمية (تساوي 10% عادة) تبقى متاحة ليتمكن المودعون من سحبها وتحويلها إلى أموال نقدية، وكانت المصارف تحقق الربح من الفرق بين الفائدة (القصيرة الأجل غالباً) التي تدفعها للمودعين الذين تبيعهم خدماتها والفائدة (الطويلة الأجل غالباً) التي تتقاضاها على القروض الممنوحة للشركات العميلة أو الاستثمارات في الأوراق المالية المكافئة (مثل سندات الشركات أو السندات الحكومية).

على الرغم من أن القوانين تضمن ألا تقدم المصارف الفردية قروضاً تزيد على إجمالي ودائعها مطروحاً منها المخزون الاحتياطي، فقد تضخم مستوى الائتمان في النظام المصرفي العام. عندما يقدم المصرف قرضاً يودع المقترض العائدات في حسابه ليتم التعامل معها بعد ذلك على أنها وديعة جديدة ويتم إقراضها مرة أخرى بعد طرح المخزون الاحتياطي منها. تتكرر هذه العملية عدة مرات وتعني أن الودائع التي تصل إلى 16 تريليون دولار في الولايات المتحدة تؤدي إلى تخصيص المصارف 50 تريليون دولار لتمويل القروض المباشرة ودعم إصدارات السندات. هذا التأثير المضاعف يغذي النمو الاقتصادي، لكن المعروض النقدي الجديد الذي تم توفيره يأخذ شكل ائتمان خطر. فمعدلات التخلف عن السداد مرتفعة، وتصل المبالغ غير المسددة في الأوقات العادية إلى 200 مليار دولار سنوياً ويمكن أن تكون أكبر من ذلك 3 مرات في أوقات الأزمات. وكما أظهر انهيار عام 2008، فإن تكلفة هذا التخلف عن السداد تتحملها الأسر في نهاية المطاف.

تنطوي الأعمال المصرفية على عدة مخاطر: قد يتخلف المقترضون عن السداد، وقد تكون أسعار الفائدة القصيرة الأجل أعلى من الأسعار الطويلة الأجل، وقد يسعى المودعون إلى سحب مبالغ نقدية أكثر مما هو متاح للسحب. يتم تخفيف هذه المخاطر عن طريق رأس المال السهمي، وإمكانية الحصول على الدعم الحكومي (عادة من خلال قروض الملاذ الأخير من المصارف المركزية)، وخطط التأمين على ودائع الأفراد، وكل ذلك له ثمن.

يكمن الاختلاف بين العملة الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي والنقد الرقمي العادي الصادر عن المصارف التجارية في أن كل وحدة نقدية من العملة الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي سيكون لها هوية رقمية فريدة لا تتغير، كما ستقع ضمن مسؤوليات المصرف المركزي المباشرة، تماماً مثل الدولار أو اليوان الورقيين حالياً. هذا اختلاف رئيسي عن العملة الرقمية الحالية التي تقع ضمن مسؤوليات المصرف المصدر حتى لو كانت نظرياً قابلة للتحويل إلى نقد ورقي عند الطلب، وهي ميزة تستند إلى توفر الأموال النقدية بشكلها المادي لدى المصرف. هذا الاختلاف يفسر إلى حد كبير احتمال أن تؤدي العملة الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي إلى زعزعة النموذج الأساسي للنظام المصرفي الذي لطالما اعتمد على النقد الورقي (أو قابلية التحويل إليه).

فلنلق نظرة على الآثار الرئيسية للنموذج المصرفي القائم على العملة الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي:

نهاية الهلع المصرفي

النقد الورقي هو في الأساس إقرار بالدين لحامله صادر عن مصرف مركزي، يمكن لحامله إنفاقه (أو ادخاره) في أي وقت. تعتمد العملات الرقمية اليوم على قابلية تحويل الشفرات الرقمية الصادرة عن المصارف التجارية إلى نقود ورقية، والتي تعتمد بدورها على حيازة المصرف التجاري للأموال الورقية التي ستستخدمها في التحويل. وهذا الارتباط بالنقد الورقي هو ما يمنح قيمة للعملة الرقمية الصادرة عن المصارف التجارية ويجعل استخدامها آمناً.

لكن العملات الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي هي من مسؤوليات المصرف المركزي المباشرة، مثل النقد الورقي تماماً، ما يجعلها آمنة أكثر من الأموال الرقمية الصادرة عن المصارف التجارية. يبدو الأمر في جوهره وكأن جميع المواطنين يملكون حسابات جارية لدى المصرف المركزي؛ فتصل رواتبهم وأرباح استثماراتهم إلى هذه الحسابات ويمكنهم الاحتفاظ بأموالهم النقدية فيها ويمكن أن يقرر المصرف المركزي أن يدفع الفوائد لهم عليها، لكن على عكس الإيداع التقليدي أو الحساب الجاري في مصرف تجاري لن يواجه المودع أي مخاطر لأن المصرف المركزي في نهاية المطاف هو ائتمان سيادي مدعوم بقدرة الحكومة على فرض الضرائب لا بالأموال الاحتياطية ورأس المال السهمي، ولن يواجه المصرف المركزي أزمات “الهلع المصرفي”، وبالتالي لا ضرورة لخطط التأمين التي تحمي المودعين من الهلع المصرفي، وعلى مستوى النظام المصرفي بأكمله تتوزع جميع مخاطر السيولة (والائتمان) على جميع السكان وليس على قاعدة المودعين لكل مصرف على حدة.

نهاية النقد الورقي والودائع المصرفية الخاصة

عندما يصبح المصرف المركزي الوسيط الوحيد فعلياً للحركات المالية، لن تضطر المصارف للتنافس على المودعين من الأفراد أو الشركات علماً أن جزءاً كبيراً من قيمتها السوقية يعتمد حالياً على نجاحها في هذه المنافسة. بدلاً من ذلك، سوف تقترض جميع المصارف بصورة أساسية من المصرف المركزي بالجملة من أجل تمويل أنشطة الإقراض الخاصة بها، وبذلك يصبح المصرف المركزي الملاذ الأول للإقراض وليس الأخير. ومع تأمين التمويل، ستستند المنافسة بين المصارف بصورة كاملة إلى القدرة على تمييز القروض الجيدة وتسعيرها وسد الفجوة بين أسعار الفائدة القصيرة الأجل والطويلة الأجل بكفاءة، الأمر الذي سيقلل من هوامش الأرباح في تلك المصارف لصالح المقترضين الجيدين عن طريق المشاركة في مشاريع تخلق القيمة. سيتم استبدال المنافسة على ودائع العملاء بالمنافسة على توزيع محافظهم الإلكترونية بواسطة أفضل الحلول المبتكرة سهلة الاستخدام.

كما ستسهل العملة الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي دخول لاعبين جدد من قطاع التكنولوجيا المالية (فينتك) لأن سمعة العلامة التجارية للمصارف القائمة، على اعتبارها أمينة على أموال الناس، إلى جانب شبكات فروعها ومنافذ تقديم الأموال الورقية التابعة لها لن تشكل عائقاً أمام دخولها إلى السوق. سيكون المصرف المركزي هو حامي أموال الجميع وستكون تحركاته المالية هي الأكثر وضوحاً، ولن نضطر إلى تحويل الأموال الرقمية إلى نقود ورقية بما أن وحدة العملة الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي هي بحدّ ذاتها من مسؤوليات المصرف المركزي المباشرة ومساوية تماماً للنقود الورقية وليست قابلة للتحويل إليها فحسب، ما يلغي الحاجة إلى النقود الورقية. لن يحتاج الناس بعد الآن إلى منافذ لتوفير الأموال النقدية ولا إلى الكثير من الأماكن لإيداع نقودهم أو أشياءهم الثمينة الأخرى.

تنظيم أسهل وتنفيذ السياسة

في عالم العملة الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي، يمكن من الناحية النظرية مراقبة جميع الحركات المالية بمساعدة تحليلات البيانات والذكاء الاصطناعي من أجل تحديد المصارف التي تواجه صعوبات أو تشارك في معاملات مشكوك فيها بسرعة أكبر. في حين تعتمد الجهات التنظيمية المالية في الوقت الحاضر على التقارير التي تقدمها المصارف، ما يعني أن الإجراءات العلاجية تأتي متأخرة وبتكلفة أكبر غالباً. إضافة إلى ذلك، في عالم العملة الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي يمكن لمؤسسة المقاصة رؤية الشفرة المصرفية الرقمية، وبالتالي يصبح أسهل بكثير على السلطات تحديد أطراف الحركات المالية، ما يؤدي إلى جعل اكتشاف النشاط الإجرامي أبسط بكثير والحدّ من خاصية الأسواق السوداء في البلدان التي تتعامل إلى حدّ كبير بالأموال النقدية بشكلها المادي. تقدر تكلفة الاحتيال التي تتحملها شركات الخدمات المالية الأميركية بما يعادل 1.5% من الإيرادات، أو قرابة 15 مليار دولار سنوياً.

يعمل الانتقال أيضاً على تبسيط تنفيذ السياسة النقدية، إذ يمكن للمصرف المركزي تغيير العرض بصورة فورية عن طريق إصدار الشفرات أو إلغائها في حساباته. لكن عن طريق دفع الفائدة على أرصدة العملة الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي، يمكن للمصرف المركزي نقل السياسة النقدية إلى الأسر مباشرة بدلاً من التأثير على أسعار الودائع التجارية من خلال الأسعار التي يقدمها للمصارف على حساباتها الاحتياطية لديه. أما اليوم، مع احتفاظ الناس بأموالهم في المصارف التجارية، فلا يمكن لصانع السياسات التأثير على سلوكات المستهلكين والشركات إلا بصورة غير مباشرة.

شمول أكبر

لا تتطلب الحركات المالية بالعملة الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي حساباً مصرفياً، وهذا مهم في البلدان النامية حيث لا يحصل ثلث السكان تقريباً على الخدمات المالية التقليدية ولكن يمكنهم الاتصال بالإنترنت عبر الهاتف النقال (في الولايات المتحدة، قرابة 5% من الناس لا يحصلون على الخدمات المصرفية). يمكن للمستهلك الهندي الذي لا يحصل على الخدمات المصرفية والذي يملك رقم تعريف الهوية الرقمية “آدهار” (Aadhar) وهاتفاً ذكياً إجراء حركات مالية بسهولة عبر تطبيق على الهاتف الذكي، وهذا يعني أنه سيكون بإمكان دول العالم المتقدم التوصل إلى طرق سهلة إلى حدّ ما لدمج بعض الفئات السكانية في النظام المالي الذي لم يشملها من قبل.

ما هي نتيجة كل ذلك؟

من شأن هذه التغييرات أن تلغي الكثير من التكاليف والمخاطر الضمنية في النظام التقليدي الذي بُني عندما كان العملاء بحاجة إلى فروع آمنة للمصارف من أجل إيداع أكياس النقود، ونتج عن ذلك بنية تحتية للعمليات والمدفوعات بقيمة تريليون دولار تضم 85,000 فرع في الولايات المتحدة توظف 1.2 مليون شخص، أي ما يعادل ثلث سائقي الشاحنات في الولايات المتحدة تقريباً. من المفترض أن تكون هذه البنية التحتية، التي يكلف تشغيلها قرابة 600 مليار دولار سنوياً، ضرورية للتعامل مع جميع الودائع والمدفوعات (هذا الرقم هو 60% تقريباً من نسبة التكلفة إلى الدخل التي تطبقها المصارف الأميركية على الإيرادات ذات الصلة التي تبلغ قرابة تريليون دولار، يأتي نصفها من الخدمات المصرفية التجارية والنصف الآخر من معالجة المدفوعات).

ولكن إذا لم يعد العملاء بحاجة إلى إيداع النقود فعلياً، فسيكون إنفاق 600 مليار دولار سنوياً على البنية التحتية المادية هو هدر فعلي للمال، وكأننا ندفع أجرة سائق واحد من كل 3 سائقي شاحنات ليتجول بشاحنة فارغة لمدة عام كامل. إلى جانب الهدر غير الضروري في البنية التحتية المادية، نجد أن النظام بطيء ومكلف؛ تستغرق تسوية المدفوعات في المتوسط ما بين يوم و3 أيام، وتستهلك رسوم معالجة البطاقات نصف هوامش ربح البيع بالتجزئة. كما أن تحويل الأموال عبر الحدود هو عملية ابتزازية، إذ يمكن أن تكلف العامل المهاجر ما يصل إلى 50 دولاراً لتحويل بضع مئات من الدولارات إلى بلاده عن طريق مصرف تجاري.

أما عند الاحتفاظ بالودائع في المصارف المركزية وبالعملة الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي، فلن يكون بإمكان المصارف بعثرة ودائع العملاء كما تفعل حالياً، ما سيؤدي إلى الحدّ من مخاطر النظام المصرفي بدرجة كبيرة. وأيضاً، بما أن العملة الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي تتيح إجراء الحركات المالية بصورة فورية، يصبح تداول الأموال أسرع وتقلّ الحاجة إلى الائتمان قصير الأجل وبالتالي تقلّ مستويات الديون الإجمالية بنسبة 25% أو ما يعادل 13 تريليون دولار. ومن الممكن أن ينتج أثر أكبر عن خفض معدلات التخلف عن السداد بسبب دقة بيانات الحركات المالية بالعملة الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي في مراقبة استخدام الائتمان. وبجمع مستويات الديون المنخفضة مع معدلات التخلف عن سداد الائتمان المنخفضة التي نراها في البلدان التي اعتمدت تاريخياً على بيانات الحركات المالية (أقل بنسبة الثلثين مقارنة بالولايات المتحدة)، أقدّر أن ينخفض إجمالي العجز عن سداد الائتمان الأميركي من 200 مليار دولار إلى 50 مليار دولار فقط.

ومع ذلك، يمكن للانتقال إلى نظام مصرفي قائم على العملة الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي أن يساعد الاقتصاد الأميركي على توفير ما يصل مجموعه إلى 750 مليار دولار سنوياً، أي ما يعادل تقريباً ما تنفقه الأسر الأميركية على الغذاء في نفس الفترة.

ما الذي نستفيده؟

لا تخلو العملة الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي من المشكلات، وأحد مخاطرها الواضحة يتعلق بالخصوصية. يقول عدد من المشرعين في الولايات المتحدة إن الصين ستستخدم اليوان الرقمي من أجل المراقبة المحلية، ويشير عضو “الكونغرس” توم إيمر ممثل ولاية مينيسوتا إلى أنه “بإمكان المصارف المركزية زيادة السيطرة على إصدار الأموال وجمع المعلومات حول طرق إنفاق الناس لأموالهم ولكنها ستحرم المستخدمين من خصوصيتهم. لن تكون العملة الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي مفيدة إلا إذا كانت مفتوحة لا تحتاج إلى الإذن وتتمتع بالخصوصية”.

تدور مخاوف أخرى حول دور المصرف المركزي كالملاذ الأول للإقراض بالجملة، فمن المحتمل أن يكون الائتمان الذي تسيطر عليه الدولة عرضة للضغوط السياسية من أجل الإقراض الذي يركز على القطاع. هل ستوضع معايير رسمية لتحديد المصارف المؤهلة للحصول على تمويل من المصرف المركزي؟ ما مدى سهولة التلاعب بهذه المعايير بطريقة ما؟

ربما كان الشاغل الأكبر هو الأمن، والأمن السيبراني تحديداً. يمكن القول إن النظام الحالي الذي يضم عدة مصارف تحمل مسؤولية أمنها بنفسها يتعرض للاختراق الأمني بتواتر أكبر، ولكن ربما كان هذا الاختراق محلياً بدرجة أكبر. يقول هذا المنطق إنه في حال تعرض المصرف المركزي للاختراق فمن الممكن أن يتعرض النظام بأكمله لخطر قاتل، على الرغم من احتمال أن تكون خطورة وقوع الاختراق بالفعل ضئيلة لأن الحكومة ستضع خبراتها السيبرانية تحت تصرف المصرف المركزي. ستكون المفاضلة بصورة أساسية بين الاختراقات المتكررة التي يمكن التعامل معها والاختراقات الكارثية النادرة، ولا شك في أن المصرف المركزي سيكون أكبر من أن يفشل.

ومع ذلك فإن تكنولوجيا البلوك تشين آمنة للغاية والحركات المالية مقسّمة للغاية، ما يعني أن المصرف المركزي قادر على إدارة نظام موزع ومقسّم بدرجة كبيرة، وبالتالي فهو يوزع مخاطر أي خرق محتمل للأمن السيبراني وتبعاته على نطاق أوسع. في الواقع، من المتوقع أن يؤدي الاستخدام المستقبلي لتكنولوجيا البلوك تشين في الأمن السيبراني إلى تحسين الوضع الحالي.

برأيي، لا بد من الانتقال إلى الأنظمة الاقتصادية القائمة على قدر قليل من الأموال النقدية أو غير النقدية تماماً وتعتمد على العملات الرقمية الصادرة عن المصرف المركزي التي تتنافس هيئاتها النقدية السيادية على ميزات وتكاليف شبيهة بالبرامج. ومن المؤكد أن ظهورها سيزعزع القطاع المصرفي ويضع مؤسساته القائمة الكبيرة والقوية في منافسة مع مؤسسات التكنولوجيا المالية الذكية ذات الأصول القليلة والخبرة التكنولوجية القوية التي تركز بدقة على خلق قيمة ضمن أنظمة العمل أكثر من تركيزها على بناء الإمبراطوريات الاحتكارية. سيتمكن النموذج المصرفي الجديد من تقديم خدمات أفضل وأسرع إلى عدد أكبر من الأشخاص، وتقديم الائتمان للشركات بشروط أفضل مع الحفاظ على السيولة والكفاءة في أسواق رأس المال. من المرجح أن تصبح المخاطر أقل، وعلى الرغم من فقدان درجة معينة من الخصوصية، فإن فوائد الحماية من الاحتيال والجرائم الأخرى ستشكل تعويضاً أكبر.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .