لقد فشل العديد من الشركات الأميركية في فهم العلاقة بين أكبر اتجاهين اقتصاديين العام الماضي: سوق العمالة المحدودة وزيادة تنظيم الموظفين لأنفسهم. على الرغم من تراجع العضوية النقابية على مدار العقود الأربعة الماضية، منح انخفاض معدلات البطالة الموظفين قوة أكبر في التفاوض، ما أدى إلى ارتفاع عدد المطالبين بإجراء انتخابات نقابية إلى حد كبير. يشير ترابط هذين الاتجاهين إلى تغيير جوهري في العلاقة بين الموظفين وأصحاب المؤسسات. ستخسر الشركات التي تتجاهل هذه الاتجاهات فرصة لإنشاء شكل جديد أكثر استدامة وإنصافاً من الرأسمالية، وإذا استمرت في ذلك، فلن يكون لنظرتها القاصرة حول تنظيم النقابات تداعيات كبيرة على مستقبل اقتصادنا فحسب، بل على الديمقراطية في الولايات المتحدة أيضاً.

لنلقي نظرة على هذين الاتجاهين الاقتصاديين ثم نفحص تأثيرهما المحتمل عند النظر إليهما معاً.

الاتجاه الأول هو الاستمرار المخالف للتوقعات لظاهرة سوق العمالة المحدودة؛ كان معدل البطالة نهاية العام الماضي أقل من 4%، ومقارنة بما كان عليه الحال منذ عقود، أصبح لدى الموظفين، ومنهم ذوو الأجور المنخفضة، قدرة أكبر على الاستقالة والعثور على وظائف بأجور أعلى وظروف عمل أفضل إذا لم يكونوا راضين عن وظائفهم الحالية. وهذا ما فعله بالضبط الكثير من الموظفين خلال الفترة التي أطلق عليها “الاستقالة الكبرى”.

الاتجاه الثاني هو ما شهدناه من نمو كبير في التنظيم النقابي، تمكّن موظفو الشركات التي كان يُعتقد في السابق أن تشكيل النقابات فيها مستحيل، مثل ستاربكس (Starbucks) وأمازون (Amazon) وآر إي آي (REI) وآبل (Apple) وتريدر جوز (Trader Joe’s)، من تنفيذ حملات ناجحة لتنظيم أنفسهم. لقد شهدنا كيف كان عمال السكك الحديدية مستعدين لتعطيل نظام النقل السككي دعماً لمطالبهم بإجازات مرضية مدفوعة الأجر قبل أن يتدخل الكونغرس والرئيس للاستجابة لمطالبهم. كما تلقى المجلس الوطني لعلاقات العمل (NLRB) في العام الماضي عدداً كبيراً غير مسبوق من الطلبات لإجراء انتخابات نقابية.

يرى العديد من الشركات هذه الأحداث تهديداً، وتنظر إليها على أنه وجود عدائي مستمر لها في أماكن عملها، وهذا مفهوم، لكن وجهة النظر الدفاعية هذه تفتقر إلى منظور مهم آخر، فهي على وجه التحديد تسيء فهم السبب الذي يدفع الموظفين إلى تحمل عناء إنشاء نقابة أو التهديد بالإضراب من أجل تحسين الأجور وظروف العمل في الوقت الذي يستطيعون فيه تقديم استقالتهم والبحث عن وظيفة أخرى. فالموظفون في الواقع يحاولون إيصال رسالة إلى أصحاب المؤسسات مفادها أنهم يريدون تحسين مكان عملهم، وليس التخلي عنه.

في الواقع، يُعد تنظيم النقابات عملية معقدة وشاقة بسبب طبيعة قانون العمل في الولايات المتحدة، إذ قد يواجه الموظفون الذين يحاولون تشكيل نقابة حملة مناهضة شرسة لثنيهم عن ذلك يقوم بها أصحاب المؤسسات. على سبيل المثال، في الحملات البارزة الأخيرة في أمازون وستاربكس، أجبرت الشركتان موظفيها على الاستماع إلى خطابات تحريضية ضد النقابات ووجهت المشرفين للضغط عليهم للتصويت ضدها. بالإضافة إلى ذلك، رأى الموظفون العشرات من زملاء العمل يُطردون أو يتعرضون للمضايقة لترك وظائفهم، وذهبت ستاربكس إلى حد إغلاق متاجرها التي تشهد نشاطاً نقابياً قوياً. يواجه الموظفون الذين ينفّذون الإضرابات مخاطر كبيرة، ولا يتمتعون إلا بمستوى ضئيل من الحماية. بموجب قانون علاقات العمل الوطني وقانون العمل بالسكك الحديدية، يمكن لأصحاب المؤسسات استبدال أي عامل ينفذ إضراباً بشكل دائم، ما يمنح فعلياً أصحاب المؤسسات الحق بطرد الموظفين لممارستهم حقهم في اتخاذ إجراء جماعي.

لكن الموظفين الذين يتولون مهمة إنشاء النقابات يحاولون في الواقع تحسين شركاتهم لصالح جميع الموظفين وليس لمصلحتهم الخاصة فقط. المساومة الجماعية هي الآلية الرئيسية التي يمكن للموظفين من خلالها الإسهام في كيفية إدارة الشركة، وغالباً ما يكون لدى الموظفين رؤى جيدة قد تكون أفضل من رؤية مدرائهم حول كيفية زيادة كفاءة الشركة وتحسين الإنصاف فيها. فالموظفون الذين يكافحون لإنشاء النقابات إنما يفعلون ذلك لصالح شركتهم في النهاية.

على سبيل المثال، أرسل مئات عمال تقديم القهوة في ستاربكس مئات الرسائل إلى مدرائهم يطالبون فيها بالاعتراف بنقابتهم، ويعبرون عن قلقهم بشأن تجربة عملائهم وليس فقط عن ظروف عملهم. وبالمثل، فإن نقابة موظفي ألفابت (التي تمثل موظفي جوجل) ضمّنت في بيان رسالتها هدف مساعدة جوجل لتحقيق شعارها غير الرسمي “لا تكن شريراً”. يتمتع أصحاب المؤسسات في الشركات التي يتم فيها تنظيم حملات أو إضرابات بفرصة أفضل لبناء بيئة عمل تشجع الموظفين على البقاء فيها، ولكن فقط إذا كانوا منفتحين على سماع ما يحاول موظفوهم لفت انتباههم إليه.

لا يفعل معظمهم ذلك للأسف، وبدلاً من ذلك يتجهون لشن حملات شرسة ضد تنظيم العمال لأنفسهم. تجسد تصرفات شركتي أمازون وستاربكس نهج المحصل الصفري هذا تماماً، بمعنى أن أي انتصار للنقابة ستعتبره الشركة هزيمة لها. لقد ارتكبت الشركتان بالفعل أو اتهمهما المستشار العام للمجلس الوطني لعلاقات العمل بارتكاب عشرات الانتهاكات لقانون العمل، بما في ذلك ترهيب العمال الذين يدعمون النقابة وتسريحهم ورفض التفاوض مع النقابة بعد فوزها بالحق في تمثيل العمال. وصف الرئيس التنفيذي لشركة ستاربكس هوارد شولتز النقابة بأنها “قوة خارجية” واتهمها بأنها تريد “تعطيل” أعمال الشركة ووصف الحملة بأنها “اعتداء” على الشركة. وبالمثل، اعتبر الرئيس التنفيذي لشركة أمازون، أندرو جاسي، أن النقابة تمثل عقبة أمام نجاح الشركة. كلفت هذه الحملات المناهضة للنقابات الشركات ملايين الدولارات، وهي أموال كان من الممكن استخدامها في الواقع لتحسين حياة موظفيها.

ولكن لا حاجة لأن تخوض الشركات حرباً ضد موظفيها، فثمة طرق بديلة تؤدي إلى نتائج أفضل لكل من العمال وأصحاب المؤسسات.

اعمل مع موظفيك

إذا كان شن حملة مناهضة للنقابات هو الأسلوب التقليدي المتبع في الشركات، فما هو البديل إذاً؟ في الواقع، لدى الشركات مزيد من الخيارات غير إعلان الحرب على النقابات أو مجرد الترحيب بها بأذرع مفتوحة فقط، وسيكون لديها عدة خيارات للتعامل مع حملة تنظيم الموظفين لأنفسهم إذا رفضت رؤية الموقف على أنه لعبة محصلتها صفرية.

نظراً لإيماني منذ زمن طويل بقيمة المساومة الجماعية، أنصح الشركات بالتواصل بشكل استباقي مع الموظفين الذين يحاولون تنظيم أنفسهم وإخبارهم بأن الشركة ستعترف طوعاً بالنقابة إذا كانت قادرة على إثبات أن غالبية العمال يريدون تمثيلاً نقابياً. من الناحية الفنية، ينطوي “الاعتراف الطوعي” بالنقابة على التزام الشركة بالتنازل عن حقها بموجب قانون العمل الوطني (NLRA) للمطالبة بفوز النقابة بالانتخابات التي يجريها المجلس الوطني لعلاقات العمل قبل أن تقبل الشركة إرادة العمال بالتمثيل النقابي. عادة ما يتخذ دعم الموظفين للتمثيل النقابي شكل عرائض أو بطاقات موقعة منهم تُقدم إلى الإدارة عبر النقابة.

وحتى أصحاب المؤسسات الذين يقررون عدم الاعتراف طوعاً بالنقابات، ثمة خيارات أخرى للتعبير عن موقفهم بشأن قضية تنظيم النقابات، فالخيار ليس دائماً الرفض أو الموافقة كلياً على تشكيل نقابة. على سبيل المثال، بدلاً من إبلاغ الموظفين أن الإدارة تعتبر دعم النقابة خيانة للشركة أو قراراً مُضللاً، يمكن للشركات ببساطة أن تتخذ موقف الحياد وتبلغ الموظفين أن هذا قرارهم وأن الشركة لن تتدخل فيه. كما يمكن لأصحاب العمل إبلاغ الموظفين أنها ستحترم حقهم في التمثيل النقابي ولن تلجأ إلى مقاضاتهم أو إعاقة هذا الأمر بأساليب أخرى على الرغم من أنها تعتقد أن لا حاجة للنقابة.

بعد تحديد أصحاب المؤسسات موقفهم من بدء حملة التنظيم النقابي، يتعين عليهم تحديد كيفية التصرف خلال الحملة. يمكن لأصحاب المؤسسات اختيار الحياد تماماً أو الاشتراك بنشاط مع النقابات لخلق ظروف أفضل لإجراء حملة عادلة.

ينطوي اتخاذ موقف الحياد على توجيه المشرفين بعدم التعبير عن آرائهم، واحترام حق الموظفين بإثارة قضية النقابة خارج العمل، ورفض توظيف مستشارين أو مكاتب محاماة للقيام بحملة مضادة.

بينما تنطوي الشراكة على إجراء مفاوضات مع النقابة على اتفاق للسماح لها بالتواصل إلى حد ما مع الموظفين في مكان العمل، ربما في أوقات الاستراحة أو خارج موقع العمل. يمكن لأصحاب المؤسسات أيضاً تزويد النقابة بمعلومات الاتصال للموظفين وطمأنة الموظفين إلى أنه بمقدورهم استخدام البريد الإلكتروني أو الهواتف الخاصة بالعمل لمناقشة حملة النقابة خارج ساعات العمل دون أي رقابة من صاحب المؤسسة. يُظهر هذا النوع من اتفاقيات الوصول للموظفين أن صاحب المؤسسة يثق بقدرتهم على اتخاذ قرار جيد بناء على المعلومات المقدمة، ويجب ألا تُفهم هذه الاتفاقيات على أنها دعم للتنظيم النقابي.

بغض النظر عن النهج الذي يتخذه صاحب المؤسسة، لا يزال بمقدوره اتخاذ تدابير للحفاظ على علاقة إيجابية مع موظفيه خلال حملة النقابة. على سبيل المثال، يمكنهم التفاوض مع النقابة على اتفاق يمتنع بموجبه الطرفان عن توجيه أي تعليقات سلبية أو انتقاد أحدهما للآخر في أثناء الحملة، وقد يكون من المفيد أيضاً للنقابة وصاحب العمل التفاوض حتى على ردود محددة يدليان بها للموظفين عندما يُسألان عن موقف كل منهما حيال الآخر. ثمة أسلوب مفيد آخر لتجنب خروج أي عواقب سلبية غير مقصودة عن نطاق السيطرة، وذلك من خلال التفاوض على عملية التهدئة حول أي سوء فهم أو رد على الجهات الفاعلة التي تخرج عن الاتفاق من كلا الطرفين. يمكن أن يكون هذا النمط من عملية التهدئة بسيطاً مثل الالتزام بلفت نظر الطرف الآخر إلى أي مشكلة متصورة قبل طرحها في الاتصالات مع الموظفين. ويمكن لأصحاب العمل والنقابات أيضاً تعيين طرف ثالث محايد لحل أي خلاف قد ينشأ حول سلوك الحملة بسرعة.

أخيراً، يتمتع أصحاب المؤسسات، حتى أولئك الذين يصرون على حقهم في إجراء انتخابات برعاية المجلس الوطني لعلاقات العمل، بفرصة للتعبير عن احترامهم لقرار موظفيهم بعد الانتخابات. في الواقع، يحاول العديد من أصحاب المؤسسات إطالة المعركة لأطول فترة ممكنة، فيلجؤون إلى التقاضي أمام المجلس الوطني لعلاقات العمل والمحاكم الفدرالية، ما يستغرق وقتاً طويلاً، لتأخير الالتزام الحتمي بالاعتراف بالنقابة بعد حصولها على الأغلبية، ما يجبر النقابة على إنفاق مواردها على عملية التقاضي والعمل على الحفاظ على دعم العمال لها. يمكن لأصحاب المؤسسات اتخاذ قرار بعدم اللجوء إلى هذه الأساليب وقبول نتيجة الانتخابات بدلاً عن ذلك حرصاً منهم على عدم إثارة أي ضغينة تجاههم. وحتى إذا جرت معركة شرسة بين صاحب المؤسسة والنقابة، إذا قرر صاحب المؤسسة عدم اللجوء إلى التقاضي والانتقال سريعاً إلى طاولة المفاوضات، فإنما يُظهر بذلك احترامه لقرار موظفيه وعملية التفاوض أيضاً.

يمكن للنقابات مساعدة أصحاب المؤسسات أيضاً

يمكن لأصحاب المؤسسات الذين يدركون أن حملات تنظيم النقابات تمثل قوة عمل ملتزمة ومندمجة جني فوائد كبيرة. أولاً، يمكنهم زيادة استبقاء الموظفين (المشكلة التي تعانيها شركتا ستاربكس وأمازون). غالباً ما تؤدي التقارير الإخبارية المطولة والتغطية عبر وسائل التواصل الاجتماعي لخطوط اعتصام الموظفين والتسريح غير القانوني إلى الإضرار بسمعة الشركة أمام موظفيها أو الموظفين المحتملين. لكن الأبحاث تثبت أن النقابات تقلل من معدل دوران الموظفين،

حيث يمكن أن تشمل فائدة علاقة الشركة بموظفيها أولئك الذين لا ينتمون إلى النقابة أيضاً. على سبيل المثال، تُظهر نتائج أحدث استقصاء حول معنويات موظفي ستاربكس الإداريين، وليس فقط معنويات عاملي القهوة، هذا التأثير الديناميكي. ولأن شركة ستاربكس اتخذت موقفاً أكثر صرامة وتشدداً مع عمالها النقابيين فقط، أعطاها موظفوها الإداريون تقييمات منخفضة غير مسبوقة لسلوكها الأخلاقي وقدرتها على الوفاء برسالتها وقيمها المعلنة. بالمقابل، قررت شركة مايكروسوفت اعتماد بعض الاستراتيجيات المذكورة آنفاً رداً على حملة النقابات بين موظفي شركة ألعاب الفيديو بليزرد أكتيفيجن (Blizzard Activision) التي استحوذت عليها العام الماضي. وقد وصف نائب رئيس مجلس إدارة مايكروسوفت قراره باتخاذ نهج متعاون أكثر مع حملة النقابة بأنه يوجه رسالة إلى جميع موظفي مايكروسوفت تثبت التزامه بالاستماع إليهم والعمل معهم بشكل جيد.

ثانياً، إذا نجحت الحملة التنظيمية وأدت إلى تمثيل نقابي، يمكن لصاحب المؤسسة بدء علاقة جديدة مع النقابة في سياق يزيد احتمال أن تكون هذه العلاقة مثمرة. تعكس نتيجة المساومة الجماعية توازن القوة والثقة بين الأطراف المعنية. في ظل سوق العمالة المحدودة هذا، يتمتع الموظفون بعنصر قوة أكبر في التفاوض من ذي قبل. ومع وجود جو من الثقة في أثناء المساومة، يمكن لأصحاب المؤسسات والنقابات تجاوز عملية المساومة التقليدية التي تنطوي على محاولة كل جانب أن يكون صاحب اليد العليا، والعمل معاً سريعاً للتوصل إلى حلول للمشكلات.

ولعل الأهم هو أن نهج العلاقة التعاونية بدرجة أكبر بين الشركات والنقابات يتمتع بالقدرة على إنشاء شكل أكثر إنصافاً واستدامة للرأسمالية. لقد شهدنا على مدى العقود الماضية العواقب السلبية لتراجع الحركة العمالية، ونواجه في الوقت الحالي مستويات تاريخية من تفاوت الدخل ناجمة عن المنافسة بين أصحاب المؤسسات لخفض الأجور، ولدينا نظام سياسي يميل نحو تفضيل مصالح الأفراد والشركات الأكثر ثراءً، كما تقف الديمقراطية على أرضية غير مستقرة. على الرغم من أن أصحاب المؤسسات لا يتحملون المسؤولية وحدهم عن ضعف الحركة العمالية، فإن ميلهم المتزايد لشن حملات شرسة وغير قانونية مناهضة للنقابات هو جزء مهم من المشكلة، لذلك من المنطقي أن يتمثل جزء من الحل في سعي أصحاب المؤسسات للاستماع إلى مطالب موظفيهم واحترامها، وسيعود ذلك بالفائدة على الجميع.