كيف أطلقت الشركات الكبرى سياسات الغضب؟

5 دقائق
خلق قيمة مشتركة هو استراتيجية مؤسسية تقدم فوائد مجتمعية لزيادة الأرباح واكتساب ميزة تنافسية
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

لا ينبغي أن تُلام الشركات بشكل مباشر على الغضب والإحباط اللذين شوها موسم الانتخابات الرئاسية، ولكنها أيضاً ليست بريئة تماماً. فتزايد التفاوت الاقتصادي الذي يستقطب السياسة الأميركية لا يُعد النتيجة الحتمية لنظام السوق الحرة، ولكنه أيضاً نتيجة الخيارات التي يتخذها قادة الشركات. وتلك الخيارات هي ما ساهم في بناء السلوك المناهض للشركات الذي تبناه الطرفان.

تُعد الأمثلة الواضحة على السلوكيات غير القانونية وغير الأخلاقية، مثل غش شركة “فولكس فاغن” (Volkswagen) في اختبار الانبعاثات والوسائد الهوائية القاتلة لشركة “تاكاتا” (Takata)، التي تعد جزءاً من المشكلة. فهاتان الشركتان ليستا شركات أميركية، إلا أن أفعالهما غير المشروعة أثّرت على ملايين المستهلكين الأميركيين، وساهمت بالتأكيد في جزء من الشعور بالإحباط الذي يسود المناخ السياسي الراهن في أميركا.

الشركات الكبرى وتوزيع أرباحها

تُعد الشركات التي تقع مقاراتها في الولايات المتحدة وتستخدم ممارسات مريبة، ولكنها قانونية تماماً، أحد العوامل المهمة أيضاً. فمثلاً عندما تجبر شركة “والت ديزني” (Disney) موظفيها على تدريب البدلاء الأجانب منخفضي الأجور قبل تسريحهم من العمل، أو عندما يسد مدراء صناديق التحوط بشراسة الثغرات في حوافز الأداء، أو عندما تُجري الشركات الكبرى عمليات اندماج معقدة لخلق انعكاسات ضريبية تسلب أرباحهم المحلية مع فرض ديون داخلية، أو عندما تفرض البنوك رسوم حماية من السحب على المكشوف على العملاء الغافلين أصحاب الدخل المنخفض، فهم بذلك يقوضون الرفاه طويل الأجل للولايات المتحدة.

تُحوّل تلك الشركات بذلك المال بعيداً عن الخزانات العامة والعاملين بأجور لتقديم فوائد إضافية قصيرة الأجل، وهو ما لا يؤدي بأي حال إلى تحسين فرص الشركة على المدى الطويل. وعلى الرغم من أن تأثير القرارات التي تتخذها الشركات ضئيل، فإن تلك التوجهات التراكمية تساهم في تزايد أوجه عدم المساواة في توزيع الثروة، وفي ركود أرباح الطبقة المتوسطة، وهو ما يُعزز الفقر المتأصل فيما يقرب من 50 مليون أميركي. ربما لم ترتكب تلك الشركات الكبرى أي خطأ، ولكن هذا لا يعني أن ما فعلته كان صائباً.

هناك أيضاً ضرر يُعد أكثر دهاءً، ناتج عن القرارات المتعلقة بتخصيص رؤوس الأموال، وهو عندما تخزن الشركات 1.9 تريليون دولار نقداً وتحتفظ بالأرباح الأجنبية في الخارج، وتستخدم رأس مالها لإعادة شراء الأسهم. فتزايد الثروات الذي تدفعه السوق متصاعدة الأسعار لا يمكن فصله عن تآكل الطبقة المتوسطة، عندما تسهم إعادة شراء الأسهم والاحتياطات النقدية في دفع أرباح الأسهم وأسعارها لأعلى، ولكنه لا يسهم بشيء فيما يتعلق بخلق فرص عمل أو زيادة الإنتاجية الوطنية. وبالنظر إلى أن الأميركيين الأكثر ثراءً، الذين يمثلون 10%، ويمتلكون 81% من الأسهم وصناديق الاستثمار المشتركة كلها، تُعد تلك الاستخدامات لأموال الشركات تحويلاً مباشراً لأرباح الشركات بعيداً عن خلق فرص عمل واستثمار رؤوس الأموال، وهو ما يزيد بدوره من عدم المساواة في الدخل. كما أن التوجه إلى عمليات إعادة الشراء أصبح متسارعاً بشكل كبير. فعمليات إعادة شراء الأسهم، باعتبارها نسبة مئوية من النفقات الرأسمالية، قد ارتفعت ارتفاعاً غير مسبوق بنسبة 113% في السنوات الخمس الماضية، مقارنة بنسبة 69% في عام 2000 و38% عام 1990.

تُعد الـ 520 مليار دولار التي أنفقتها الشركات عام 2015 على عمليات إعادة شراء الأسهم وحدها كافية لدفع متوسط الأجور لإحدى عشر مليون عامل في الولايات المتحدة، وهم أكثر بكثير من الـ 7.8 مليون مواطن العاطلين عن العمل في الوقت الحالي. لنتناول هذا الأمر من منظور مختلف، الأموال التي أنفقتها الشركات الكبرى على إعادة شراء الأسهم عام 2015، والتي ذهبت إلى الفئة الأكثر ثراءً التي تمثل 10% من عدد السكان، كانت أكثر بـ 60 مليار دولار من إجمالي نفقات الحكومة الاتحادية على برامج شبكة الأمان مجتمعة.

لا أقترح أن الشركات الكبرى ملزمة بإعادة توزيع أرباحها على مَن يحتاجون إليها. ولكن لا ينبغي عليهم أيضاً اتخاذ قراراتها المتعلقة بتخصيص رؤوس الأموال دون إيلاء أي اعتبار للعواقب طويلة الأجل على نجاحها. فقد أظهرت دراسات موثوق بها أن عدم المساواة في الأجور وركودها يضر بنمو الشركات. وأن اختيار الاحتفاظ بالأموال النقدية أو استخدامها لإعادة شراء الأسهم، عوضاً عن استثمار الأرباح في فرص الابتكار والتوسع الجديدة، كان له عواقب حقيقية على اقتصادنا، وهو ما أسهم في الاضطرابات السياسية الحالية.

كان يمكن من خلال الاحتياطات النقدية المتراكمة وتوزيع الأرباح وإعادة شراء الأسهم أن تتاح الفرصة للشركات الأميركية أن تستثمر ما يقرب من 3 تريليون دولار في رأس المال منذ الركود الاقتصادي عام 2008، وهو أكثر من ستة أضعاف حجم “برنامج إغاثة الأصول المتعثرة” (TARP) لإنقاذ المصارف من الإفلاس. لو كان المسؤولون التنفيذيون اتخذوا هذا الخيار، لكان حال الانتعاش الاقتصادي ومتوسط الأجور وعدم المساواة في الدخل مختلفاً كثيراً عما هو عليه اليوم، وكذلك في هذه الدورة الانتخابية.

زيادة أسعار الأسهم وتحسين الأرباح

من السهل أن نفهم لماذا تتمتع عمليات إعادة شراء الأسهم بهذه الشعبية، فالنسبة المئوية العالية لتعويضات الرئيس التنفيذي المتصلة بأسعار الأسهم، وحساسية تلك الأسعار تجاه التقلبات الطفيفة في أرباح الأسهم، وفترة الخدمة القصيرة نسبياً للعديد من الرؤساء التنفيذيين، تعني جميعها أن الرؤساء التنفيذيين لديهم حافزاً قوياً لزيادة أسعار الأسهم وتحسين الأرباح الربع سنوية.

بالطبع يدّعي قادة الشركات أنهم ملزمون قانونياً بفعل أي شيء ممكن لزيادة القيمة المضافة لحاملي الأسهم إلى أقصى حد. إذ تؤثر عمليات إعادة شراء الأسهم بشكل فوري ومباشر على الأسعار والأرباح، على نحو لا تحقق به الاستثمارات طويلة الأجل في النمو والابتكار ذلك التأثير. لكن بيان ما إذا كان هذا النوع من القيادة يهيئ الشركة لتحقيق النجاح طويل الأجل، لهو مسألة مختلفة. لأن القرارات قصيرة الأجل، التي تزيد من الأرباح الربع سنوية، لن تخلق قيمة مضافة لحاملي الأسهم إذا كانت تضر بسمعة الشركة وقيمتها على المدى الطويل. كما أن التمرد السياسي لن يكون في صالح الشركات ولا حاملي الأسهم.

أنا ومايكل بورتر، الأستاذ بكلية هارفارد للأعمال (HBS)، أوضحنا أن الشركات لديها الفرصة وعليها التزام بأن تخلق قيمة مشتركة من خلال السعي إلى تحقيق أرباح وميزة تنافسية بطرق تعزز المجتمعات التي تعمل فيها. فقد ذكرنا أن:

الأرباح ليست متساوية، وهي فكرة غائبة عن التركيز الضيق قصير الأجل للأسواق المالية، وكذلك غائبة عن تفكير الكثير من المدراء. فالأرباح التي تنطوي على هدف اجتماعي تُمثل شكلاً أرقى من أشكال الرأسمالية، شكلاً سيمكّن المجتمع من التقدم بسرعة أكبر مع السماح للشركات في الوقت نفسه بالازدهار بدرجة أكبر. وعندما تضمن الأرباح تحقيق فوائد مجتمعية، فإن العلاقة التبادلية الإيجابية بين ازدهار الشركات والمجتمع سوف تؤدي إلى تحقيق أرباح دائمة.

التحول الاستراتيجي للشركات الكبرى

يتفهم الرؤساء التنفيذيون المتبصرون هذا الرابط الاستراتيجي بين الفوائد المجتمعية وعوائد المساهمين. ففي فبراير/شباط عام 2014 أعلن الرئيس التنفيذي لشركة “سي في إس” (CVS) لوري ميرلو أنه كجزء من التحول الاستراتيجي للشركة صوب توفير الرعاية الصحية، ستتوقف الشركة عن بيع منتجات التبغ. وهو ما يعني أن الشركة تخلت عن 2 مليار دولار من إيراداتها السنوية. كان هذا بمثابة ضربة قوية قصيرة الأمد لعوائد المساهمين في سبيل تحقيق استراتيجية ترمي إلى خلق قيمة مشتركة على المدى الطويل، ورغم ذلك ارتفعت أسعار أسهم الشركة بنسبة 38% في الشهور التالية لذلك الإعلان، وما زالت أعلى بنسبة 22% من السعر الذي كانت عليه وقت الإعلان. كما أن هذا الإجراء لم يكن ذا معنى رمزي بصورة بحتة؛ فبعد ذلك الإعلان بعام، أعلنت الشركة أنه في الولايات، حيث تمتلك الشركة على الأقل 15% من الحصة السوقية، انخفضتْ المبيعات الإجمالية للسجائر لدى جميع أنواع بائعي التجزئة بمقدار 95 مليون علبة.

في الآونة الأخيرة، جمعت “مبادرة 10 آلاف فرصة عمل” (100,000 Opportunities Initiative)، التي تقودها “ستاربكس” (Starbucks) و”معهد آسبن” (Aspen Institute) وشركة “إف إس جي” (FSG) وهي شركة للاستشارات الاستراتيجية وغير هادفة للربح أسستها أنا وبورتر، بين 36 شركة أميركية رائدة لخلق فرص عمل للشباب الأكثر احتياجاً لفرص العمل. تلتزم هذه الشركات بتطبيق ما يتجاوز حدود ممارساتها المعتادة للتوظيف لشغل الوظائف التي يحتاجون إليها من خلال تحديد مصادر جديدة للمواهب في المجتمعات التي استُبعدت من الإنعاش الوطني. وقد أثمرت الفعاليات الثلاث الأولى لتلك المبادرة عن توفير 2,350 فرصة عمل.

ولكن لا يُعد أي من هذا عملاً خيرياً. فخلق قيمة مشتركة هو استراتيجية مؤسسية تقدم فوائد مجتمعية لزيادة الأرباح واكتساب ميزة تنافسية. والمؤمنون بها هم الذين يرون فرصاً سانحة في التآزر بين الشركة والمصالح المجتمعية التي يفوّتها منافسوهم ضيقو الأفق.

لن يغير توفير 100 ألف فرصة عمل المناخ السياسي، ولكن بالطبع ستغيره 11 مليون فرصة عمل. ولذا، فإن قادة الشركات الأميركية أمام خيارين: إما أن يقفوا موقف المتفرج لأنهم يساورهم القلق من المشهد السياسي الحالي، أو الاعتراف بأنه لكي تصبح “أميركا عظيمة مجدداً” هو بالفعل خاضع لإرادتهم إذا اتبعوا استراتيجية ترمي إلى خلق قيمة مشتركة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .