لقد زعزعت جائحة كوفيد-19 قوانا وجعلتنا نواجه صعوبة في الحفاظ على صحتنا النفسية. ففي الولايات المتحدة، ارتفعت نسبة البالغين الذين يعانون أعراضاً حديثة مرتبطة باضطراب القلق أو الاكتئاب من 36.4% عام 2020 وحتى 41.5% عام 2021، لدرجة أن فرقة الخدمات الوقائية الأميركية، وهي لجنة خبراء تديرها وزارة الصحة والخدمات الإنسانية، قدّمت توصية بأن يجري الأطباء فحصاً على جميع المرضى البالغين الذين تقل أعمارهم عن 65 عاماً بحثاً عن أعراض مرتبطة بالقلق. كما قدّرت مجلة ذي لانسيت (The Lancet) أن الجائحة تسببت في 53.2 مليون حالة إضافية من اضطراب الاكتئاب الشديد على مستوى العالم و76.2 مليون حالة أخرى من اضطرابات القلق على مستوى العالم.

وإذا كان أحد موظفيك يعاني مشكلات في صحته النفسية، فكيف تتحدث عن ذلك معه إذاً؟ على الرغم من أن واجبك يتمثّل في إجراء محادثة قد تكون صريحة ومحرجة معه، فليس من واجبك أن تكون معالجاً نفسياً في المكتب، أو أن تتوصل معه إلى حل ما. وذلك يؤكد ما قالته رئيسة قسم شؤون الموظفين في شركة فايس ميديا غروب (Vice Media Group)، ديزي أوجيه دومينغيز: “نحن لسنا معالجين نفسيين، لكن من واجبنا إبداء بعض الاهتمام في علاقاتنا مع فرقنا، وضمان امتلاك الموظفين الموارد التي يحتاجون إليها ليتمكنوا من أداء أعمالهم على أكمل وجه”.

ولحسن الحظ، فإن التعامل مع محادثات الصحة النفسية ممكن حتى لو لم تكن خبيراً فيها. وعلى الرغم من أن خوفك من طرح الأسئلة الخاطئة أو من طرح موظفك أسئلة لا يمكنك الإجابة عنها أمر طبيعي، يمكنك اتخاذ خطوات استباقية لخلق ثقافة تشجع على إجراء مثل تلك المحادثات المحرجة ضمن الحدود وتتيح للموظفين التماس المساعدة التي يحتاجون إليها.

وإذا كان إجراء محادثات حول صحة موظفك النفسية يجعلك تشعر بالتوتر، فاحرص على تنفيذ هذه الخطوات الثلاث:

  1. احرص على إعداد بعض الأسئلة حول الصحة النفسية مسبقاً لتعزز شعورك بالثقة.
  2. التزم بإجراء مناقشات هادفة حول الصحة النفسية واضمن حماية حدودك وحدود فريقك في الوقت نفسه.
  3. خصّص وقتاً للتواصل؛ فهو أهم خطوة.

كن مستعداً لإجراء محادثات محرجة

تؤكد رئيسة العمليات في شركة مايند شير بارتنرز (Mind Share Partners) لاستشارات الصحة النفسية في أماكن العمل غير الربحية، جين بورتر، ضرورة أن يكون المدراء على دراية بأساسيات ممارسات الخصوصية في أماكن العمل، وأن يضمنوا إعداد مجموعة من الأسئلة قبل إجراء محادثات حول الصحة النفسية.

وتنطوي نصيحة بورتر على أن تكون فضولياً بشأن تأثير تحديات الصحة النفسية على الموظف وليس على سببها. وتقول: “يمكنك أن تسأل عن أي شيء تريده حول تأثير تلك التحديات على أعمالهم وعلى أماكن عملهم، فذلك من حقك”. وتقول إن الأسئلة التي عليك تجنب طرحها هي تلك التي تستفسر عن سبب معاناة الموظف من تلك المشكلات. ابتعد عن الأسئلة التي تستفسر “عما يجري في منزله، وعن جذر المشكلات، وتاريخه الصحي، وأي أسئلة أخرى ذات صلة، فتلك أسئلة يطرحها المعالج النفسي فقط”.

كما ينص قانون الأميركيين ذوي الإعاقة على قاعدة أساسية وهي أنه لا يمكنك ممارسة التمييز ضد أي شخص على أساس الصحة. وذلك يعني بحسب بورتر أنه “لا يمكنك إجبارهم على التحدث عن صحتهم”، لكن يمكنك معالجة تأثيرات صحتهم على العمل، كما ينص القانون أيضاً على ضرورة أن يوفّر أصحاب العمل “تسهيلات معقولة” للموظفين ذوي الإعاقة، بمن فيهم أولئك الذين يعانون أمراضاً نفسية.

وتقترح بورتر طرح أسئلة مفتوحة وإقرانها بملاحظات غير انتقادية. على سبيل المثال: “مرحباً، لاحظت أنك كنت غائباً في اجتماعاتنا المعتادة، وأردت تفقد أحوالك فقط”، أو “أنت مدير مشاريع رائع، لكني لاحظت أن أداءك انخفض مؤخراً. أريد تفقّد أحوالك فقط ومعرفة إن كنت بحاجة إلى أي دعم، أو إلى إجراء محادثة صريحة مع شخص ما”. وهي أسئلة إنسانية لكنها متعلقة بالعمل بحسب بورتر.

في المقابل، ماذا تفعل إذا كان موظفك صريحاً معك؟ تقول بورتر: “من الواضح أنه شعر أنك شخص جدير بالثقة، وهذا أمر جيد”. وتنطوي وظيفتك بصفتك مديراً حينها على الإصغاء، ومن ثم تمكين موظفك من الحصول على المساعدة، لكن تؤكد بورتر أيضاً ضرورة “ألا يشعر موظفك أنك ستتخلى عنه أو تصدّه، بل نوصي دائماً باتباع نهج تعاوني”.

وتوافق أوجيه دومينغيز على ذلك. يمكنك أن تقول: “أشعر أنني أتجاوز حدودي الآن، لكنني أفكر في التواصل بشكل سري مع إدارة الموارد البشرية للتأكد من أنني أقدم لك كل الدعم الذي تحتاج إليه، ويمكننا عقد لقاء آخر في غضون أسبوع”. يمكنك حتى أن تقترح عليه مرافقته إلى مكتب الموارد البشرية أو التواصل مع مجموعات التقارب المتخصصة في الصحة النفسية. وتضيف أوجيه دومينغيز: “إن تلقيهم دعماً من شخص ما في مكان آخر لا يعني أنهم لا يرغبون في تلقي دعم منك. بل يعني أنهم يتلقون الدعم من أماكن متعددة وعليك حينها التركيز على مجالات الدعم المتعلقة بالعمل”.

وإذا كانت الثقة في إدارة الموارد البشرية داخل المؤسسة منخفضة، فتقترح بورتر ربط الموظف بمجموعات التقارب والمجموعات القائمة على الأقران التي تعزز الثقة بين الموظفين. “فغالباً ما يكون الموظفون في هذه المجموعات قد عملوا مع إدارة الموارد البشرية أو اختبروا فوائد الصحة النفسية. وقد تكون رواية القصص وتطبيع تلك المشكلات خطوة مفيدة للغاية”.

احرص على وضع حدود والالتزام بها

إن وضع الحدود الشخصية عند الحديث عن الصحة النفسية مهم جداً، بمعنى الحدود والقواعد التي نضعها لأنفسنا في علاقاتنا، إذ قد ننزعج عندما نتجاوز حدودنا أو حدود الآخرين ونشعر بالاستنزاف العاطفي وعدم الراحة. ويخشى العديد من المدراء بالفعل أن يصبحوا المورد الذي يلجأ إليه موظفوهم لمواجهة تحديات الصحة النفسية خوفاً من أن يتجاوزوا حدودهم، ما يؤدي إلى إضعاف طاقاتهم وحالتهم المزاجية، ويدفعهم إلى تجنب إجراء محادثات محرجة مع أعضاء فرقهم.

ومع ذلك، هناك طريقة لإجراء هذه المحادثات وحماية الحدود، كما تقول اختصاصية علم النفس السريري، الدكتورة إميلي أنهالت. فعندما يتعلق الأمر بأسلوب مشاركة الموظفين مشكلاتهم في مكان العمل، تقترح أنهالت استخدام نهج “المشاركة ضمن الحدود”؛ أي: مشاركة قدر بسيط فقط من المعلومات مع الآخرين لدعوتهم إلى التواصل ولتتجنّب أنت وفريقك المخلفات العاطفية.

وكما تقول أنهالت: الفكرة هي أن “هناك حداً فاصلاً بين الانفتاح والانغلاق. فالانغلاق يعني أننا لا نكون على طبيعتنا في العمل. فعندما نمر بوقت عصيب جداً ويسألنا أحد ما عن أحوالنا ونقول: “أنا بخير، وكل شيء على ما يرام. لمَ تسألني؟” فذلك نهج خاطئ، لأن الآخرين سريعو الفهم وقد يشعرون أننا نغلق احتمالات التواصل الصادق. أما الانفتاح فيعني أن “يُفصح الموظفون عن الكثير من عواطفهم في العمل لدرجة أن يجد الآخرون أنفسهم في وضع المعالجين لهم أو يضطروا إلى إصلاح مشكلاتهم على الرغم من أن ذلك ليس من مسؤولياتهم.

لنفترض أن موظفاً ما يخوض تجربة طلاق، وعقله مشوش جداً لدرجة أن أثّرت مشكلته تلك على عمله. فإذا ادعى أنه بخير، فهو شخص منغلق جداً ولا يُفصح عن الحقائق، في حين أنك ترغب أنت وزملاؤك تفقدّ أحواله فقط! لكن عندما يقول من جهة أخرى: “زوجتي كانت تعاملني بإجحاف، ولا أعرف ما عساي أن أفعل. أستيقظ كل يوم مترقباً ما يخبئه لي اليوم من أحداث، وتمضي أيامي على المنوال نفسه. ما الذي عليّ فعله من وجهة نظرك؟ كيف عليّ التعامل مع الوضع”، فأسلوبه ذلك منفتح جداً.

ما الحل الوسط إذاً؟ تقول أنهالت إن حل المشاركة ضمن الحدود يعني أن يقول الموظف: “أواجه بعض التوترات في العلاقة في المنزل، لأكون صادقاً معكم. ومن المؤكد أن ذلك يؤثر على تفاعلي في العمل. وأنا ألتمس الدعم بالفعل بشأن هذا الموضوع. وسأكون ممتناً لك إن منحتني قليلاً من الوقت الإضافي على هذا الموعد النهائي. هل هذا ممكن؟

ويمكنك بصفتك مديراً أن تكون قدوة في ممارسة نهج المشاركة ضمن الحدود. فإذا قصدك أحد الموظفين الذي يعاني مشكلة ما، فيمكنك أن تقول: “من الواضح أنك تواجه الكثير من الصعوبات، وأريد التأكد من حصولك على الدعم الذي تحتاج إليه”. ونكون في تلك الحالة وضعنا حدودنا وساعدنا الموظف على تحديد ماهية الخطوات التالية. تقول أوجيه دومينغيز إنه يمكنك أيضاً الحفاظ على الحدود ودعم الموظف من خلال تخصيص وقت له. فإذا لاحظت وجود أزمة صحة نفسية في أثناء اجتماعك الفردي مع الموظف، فيمكنك إنهاء الاجتماع بقولك: “اجتماعنا التالي المقرر بعد خمسة أيام من الآن. هل يمكنك الانتظار حتى ذلك الحين؟ أم ترغب في عقد اجتماع في وقت أبكر؟” واحترم بعد ذلك تفضيلاته وأبدِ موافقتك على الموعد الذي يختاره.

ومن المهم عندما تضع حدودك أن تفهم أن مخاوفك وتحدياتك قد تنجم عن ميلك إلى مساعدة الموظفين، كما تقول الرئيسة على مستوى العالم لقسم الصحة والرفاهة في شركة أوكادو غروب (Ocado Group)، أرتي كاشياب آينسلي. بمعنى آخر، عادة ما يميل المدراء إلى “إبداء المشاركة الوجدانية والتعاطف، لكن للمدراء مهام ومنجزات ومسؤوليات عديدة على جداول أعمالهم”، ولا تكفي ساعات اليوم لإتمامها. ويمكن للمدراء تقديم الدعم والإرشاد بالفعل، لكن من المحتمل أن تضم المؤسسة مهنيين آخرين ممن خصصوا الوقت الكافي وأعدوا البرامج التدريبية لمساعدة الموظفين على تجاوز مشكلات الصحة النفسية.

لكنها تشير مع ذلك إلى أن معدلات الأمراض النفسية مرتفعة للغاية، وأن الكثير من الموظفين بحاجة إلى دعم إضافي، وتؤكد ضرورة أن تمنح الشركات المدراء الوقت لتلبية الاحتياجات المتزايدة لفرقهم. إذ ليس من العدل أن نتوقع من المدراء أن يدعموا احتياجات فرقهم بينما لا يوجد لديهم وقت كافٍ لإجراء هذه المحادثات.

خصّص وقتاً للتواصل، فهو الخطوة الأهم.

لعلّ أهم ما يمكن للمدير فعله لدعم موظفيه هو تخصيص وقت للاستماع إليهم، ومن ثم تحديد احتياجاتهم.

وتقول أوجيه دومينغيز إنه إذا بدا أحد أعضاء الفريق “قلقاً”، فأطرحُ عليه سؤالاً بسيطاً: “هل تريد مني أن أستمع إلى مشكلاتك أو أن أساعدك أو أن أحاول تشتيت انتباهك؟”

وهو سؤال مهم جداً، “لأنني عندما أتّفق معهم على ماهية الخيار الأنسب، فأنا أشجع الموظفين بذلك على طلب ما يحتاجون إليه بدلاً من وضع افتراضات حول احتياجاتهم. كما أن ذلك يوضح مسؤولياتي تجاههم بصفتي مديرتهم. قد يختارون أن أصغي إليهم فقط أحياناً دون أن أتدخل في الحلول، فالمشكلة تتعلق بهم فقط. وإذا كانوا بحاجة إلى المساعدة، فسأضمن حصولهم على الموارد التي يحتاجون إليها”. وإذا كان الموظف بحاجة إلى وسيلة إلهاء، فتقول أوجيه دومينغيز: “ما رأيك أن نذهب في نزهة أو نحتسي فنجاناً من القهوة افتراضياً”. تساعد هذه الاستراتيجية أيضاً على تعزيز قوة موظفيك، بمعنى أنهم لن يترددوا في طلب المساعدة، مقابل محاولتك افتراض ما يحتاجون إليه.

إن المحادثات التي تجريها مع موظفيك هي جزء من الثقافة التي تحاول بناءها. ويشير المدير السابق للمعاهد الوطنية للصحة النفسية، توماس إنسل، إلى أن 10% فقط من نتائج الصحة النفسية هي نتيجة تقديم خدمات الصحة النفسية السريرية. إن العوامل المؤثرة على الصحة النفسية واسعة النطاق ومرتبطة بالمجتمع، ولعلّ أهمها أماكن عملنا التي تُعدّ أهم عامل يؤثر في صحتنا النفسية. فأماكن العمل التي تتمتع بصحة نفسية سليمة تضمن أن يشعر موظفوها بالتقدير والاهتمام وتؤمن بقدرتهم على إحداث تأثير وتتيح لهم التمتع بقدر أكبر من السيطرة على أوقاتهم وأعمالهم وقراراتهم.

لذا تذكر: لا تنطوي مهمتك على أن تكون معالجاً نفسياً في المكتب من أجل الحفاظ على صحة موظفيك النفسية بل على أن تكون مستعداً للاستماع.