لماذا على المستثمرين ورواد الأعمال التوجه نحو التمويل الأخضر؟

5 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

استطاع “التمويل الأخضر” أن يفرض نفسه بقوة على مستوى الدوائر الحكومية والمنتديات الدولية. ليس هذا فحسب، بل بات يعتبر فرصة جديدة للمستثمرين من أجل تنمية ودائعهم المالية وتنمية هامش الربح، وهو ما قد يدفع الكثير من رواد الأعمال للعمل وفق مبادئه للاستمرار في الحصول على التمويل، خصوصاً وأنّ المساهمين والمستهلكين والمستخدمين، كل من جانبه وعلى مستواه، أصبحوا أكثر اهتماماً بالقضايا المتعلقة بالاستدامة. 

وقد أصبحت الاستدامة مطلوبة في كثير من المشاريع ليس لأنها مرغوبة على المستويين السياسي والأخلاقي فحسب، ولكن لأن مردود “التمويل الأخضر” المتنامي أصبح يجذب إليه انتباه من يريد الاستثمار والربح.

إنّ الربح والاستدامة يجعلان من “التمويل المستدام”، كما يحلو للبعض تسميته، فرصة لا تعوض من أجل قيام رواد الأعمال بتمويل المشاريع من خلال المستثمرين، من دون التفريط بالقيم التي أصبحت تفرض نفسها، والمتعلقة بالوعي بمدى التأثير على المنظومة الإيكولوجية والمناخ، والاستعمال الرشيد والعقلاني للموارد الطبيعية، ووقع المشاريع الإيجابي على المجموعات السكانية وثقافاتها. 

تختلف التعريفات لمفهوم “التمويل الأخضر” من جهة لأخرى. لكنني أحتفظ فقط بتعريف منظمة “المناخ العالمي” لأنه تعريف شامل ويمكن تلخيصه في أنه “آلية تمويلية أو استثمارية (رأسمال، قرض، بيع، شراء) أو آلية لتدبير المخاطر (مثل الضمانات عن الاستثمار، أو التأمينات…) يتم وضعها في شكل عقود مع شركات أو أشخاص ذاتيين أو وكالات خاصة أو عامة بهدف خلق النتائج العينية الواضحة والإيجابية المتعلقة بالبيئة والتي يتمخض عنها خلق حقوق عينية قابلة للتحويل حسب المعايير المتعارف عليها دولياً”.

الجديد في هذا التعريف بالمقارنة مع التعريف الكلاسيكي هو النتائج العينية المتعلقة بالبيئة، أي أنّ الأثر يكون قابلاَ للتحقق منه ومن مدى ملائمته لمعايير الاستدامة.

“تمويل المناخ” هو جزء من “التمويل الأخضر” ويهتم بتمويل التخفيف من انبعاثات الغازات المساهمة وتأثيرها على الانحباس الحراري أو بوضع مشاريع للتخفيف من آثار التحولات المناخية على السكان. وهذا يتم بحسب “كلايميت مونديال” إما عن طريق دعم موارد المشاريع الإنمائية العامة أو الخاصة، عبر تحفيزات جمركية أو تمويل عن طريق سوق الكربون، أو عبر تحسين بنية الرأسمال، أي التخفيض من تكاليف الرأسمال والقروض المصرفية”.

إنّ الاتجار في ترخيصات الكربون (أي الترخيص للشركات لتجاوز السقف المحدد لانبعاث الكربون والتي يتم شراؤها عبر أسواق الكربون الناشئة في العديد من الدول) هي وسيلة لتمكين المستثمرين من “تخضير” مجهودهم الاستثماري وتطمين المساهمين حول ضرورة أخذ الاستدامة بعين الاعتبار في بناء المشاريع.  

ويمكن لتمويل المناخ أن يتم عبر “سندات خضراء” وهي عبارة عن صكوك تصدرها شركات معينة بموافقة السلطات المختصة لتمويل المشاريع عن طريق اكتتاب المستثمرين الذين يهتمون بقضايا الاستدامة فيها دون التفريط في الربح. لقد وصل إجمالي قيمة “السندات الخضراء” التي تم إصدارها في العديد من الدول عام 2017 إلى مئة مليار دولار وذلك حسب “مبادرة السندات الخضراء”.

ومن المحتمل أن تصل قيمة الإصدارات إلى حوالي 700 مليار في السنة في غضون السنوات العشر المقبلة وقيمة السندات الصادرة والموجودة في سوق السندات حوالي 5 تريليون دولار في العام 2035 وذلك حسب تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهو ما يشكل فرص سانحة للمستثمر لجني أرباح طائلة من دون التفريط في القيم الكونية المشتركة، وكذلك لرائد الأعمال للأخذ بعين الاعتبار هذا التحول الكبير في مصادر التمويل، وذلك من خلال اعتماد الاستدامة كمعيار أساس في التخطيط الاستراتيجي لعملية تطور رائد الأعمال. 

يقول نانيت ليندنبيرغ  من المعهد الألماني للتنمية، إنّ ميادين اهتمام التمويلات الخضراء تشمل السلع والخدمات البيئية (مثل تدبير المياه أو حماية التنوع الطبيعي والمناظر الطبيعية)، والحماية أو التخفيف من الأضرار الناجمة عن التحولات المناخية والبيئية أو التعويض عنها، وتمويل السياسات العمومية التي تشجع عمليات الحماية والتخفيف من الأضرار وكذلك الأمور التي تتعلق بنظام التمويل الأخضر في جوانبه القانونية والمؤسساتية.

تعد مزايا التمويل الأخضر مهمة، نذكر منها احتساب الأخطار المترتبة عن التقلبات البيئية والمناخية في المخطط المالي للمشروع والاهتمام المتزايد من طرف الحكومات والجهات الرسمية بهذا النوع من التمويل، وتنامي الطلب على المشاريع المستدامة. تسرد روسيل مارس عدة مزايا مثل إمكانية تحسين التواصل حول الاستدامة، وإعطاء صورة أفضل للعلامة التجارية، وخلق انسجام أفضل بين فرق المال وفرق الاستدامة داخل نفس الشركة، والتجاوب مع مطالب المستثمرين الذين يرون في المشاريع المستدامة فرصة لعدم القلق بشأن المخاطر البيئية المكلفة. وتضيف مارس أنّ تعلم تقنيات التمويلات الخضراء ليست بالمعقدة بالنسبة للفرق العاملة في ميدان الاستثمار والتمويل. 

إنّ من أهم التحديات المطروحة على مستوى التمويل الأخضر هو عدم توفر سيولة كبيرة بعد في ما يخص “السندات الخضراء”، وغياب آليات دقيقة لجمع المعطيات حول الاستدامة واحتسابها في التقارير المالية والاستثمارية السنوية وعدم تطور آليات المراقبة والفحص الخاصة بالتمويل الأخضر. الدراسة التي قام بها “برنامج الأمم المتحدة للبيئة” حول “ملاءمة النظام المالي مع التنمية المستدامة”، تسرد مجموعة من التحديات مثل “صعوبة إدخال عناصر بيئية خارجية كعناصر داخلية في المشروع الاستثماري” و”عدم الوضوح في تعريفات التمويل الأخضر”، وعدم توفر المعلومات اللازمة للقيام بالتحليلات المطلوبة. ولكنها تؤكد على أنّ هذه الصعوبات يمكن تجاوزها مثلاً عبر تنسيق أكبر بين القطاع العام والخاص، وضبط أكثر للقواعد وتوافق أكبر حول المعايير، وتبادل المعلومات، وتسهيل تعلم التقنيات والممارسات. 

في الورقة الخاصة بـ”تشجيع نمو عالمي مستدام عبر التمويل الأخضر- أي الدور الخاص  لمجموعة العشرين” والمقدمة على هامش قمة الدول العشرين في هامبورغ العام الماضي، يقول الفريق الساهر على “سياسة المناخ والتمويل” إنه من الضروري الانفتاح على القطاع الخاص من أجل تحقيق “التحول الأخضر” ولهذا وجب ملاءمة النظام المالي مع متطلبات الاستدامة. وهذا يتطلب من مجموعة العشرين، بحسب التقرير، وضع القواعد العامة والمتفق عليها للتمويل الأخضر، ووضع مجموعة معايير أكثر شفافية في ما يخص كشف “مخاطر الكربون والمخاطر البيئية”، وتشجيع نمو “سوق الاستثمارات على مستوى عالمي”، ومساعدة الدول الأقل نمواً في “وضع وتنفيذ خرائط طريق وطنية خاصة بالتمويل المستدام”. وفي نظري، فإنّ هذه الآليات هي في طور الإنجاز لأن الحكومات والقطاع الخاص لديهم الوعي الكامل بأهمية خلق الشروط لنمو مضطرد للتمويل الأخضر وربح رهان التنمية والاستدامة في آن واحد. 

إنّ “التمويل الأخضر” يعد فرصة واعدة وهو قطاع ينمو بشكل سريع ومن المحتمل أن يعرف قفزات كمية ونوعية في غضون السنوات القليلة المقبلة. لهذا على المستثمرين أن يتبادلوا المعلومات ويطوروا الوسائل لضبط وتنظيم المقاربة واعتماد نماذج متعارف عليها لكي لا تحصل انزلاقات في هذا الإطار أو لا يتم تحويل التمويل الأخضر عن غايات الاستدامة. 

وعلى رائد الأعمال أن يتعرف على الآليات المستعملة للحصول على التمويلات خصوصاً عبر قطاع “السندات الخضراء” الواعد لإيجاد التمويل للمشاريع وللمخططات التي تطوّر وتنمي أعماله. تقول مادلين كاف إنّ الدراسات تبيّن أنّ ريادة الأعمال والشركات التي تعتمد المقاربة المستدامة قد تنمو بشكل أكبر من الأخرى التي تعتمد على أشكال تقليدية في التمويل والتدبير. وهذا أمر طبيعي نظراً لتنامي وعي العملاء بضرورة الحفاظ على المنظومة الإيكولوجية والحد من التغيرات المناخية وآثارها. كما على رائد الأعمال أن يدخل الاستدامة في مخططه كعامل أساسي من عوامل نجاح المشروع، خصوصاً عبر التركيز على قضايا فعالية استخدام الطاقة واستعمال الطاقات والموارد البديلة ودراسة التأثير على المنظومة وعلى حياة الساكنة وعلى الثقافة المحلية. 

قطعت بعض الدول العربية أشواطاً متقدمة ولا بأس بها في ما يخص التمويل الأخضر. بحسب مقال سلمان جعفر، فالأردن كان سباقاً في إيجاد الآليات الحكومية لتقديم عروض للتمويل الأخضر. وقد وضعت الإمارات العربية المتحدة أجندة طموحة للاستدامة يتبوأ فيها التمويل الأخضر مكانة مهمة. وفي المغرب، وضع البنك المركزي خارطة طريق لوضع آليات جديدة للتمويل وتدبير أفضل للمخاطر والتكوين وقواعد الشفافية. 

من جهته، يقول بشار الناطور إنّ “الصكوك الخضراء يمكن أن تكون فرصة لإعطاء دفعة قوية” للتمويلات البديلة (التمويل الإسلامي). ما هو مهم لرائد الأعمال العربي هو التعرف على هذه القنوات المتاحة ودراسة فوائدها ومعرفة الفرق بين تقنياتها ووضع خارطة لفرص التمويل المتاحة. وعلى المستثمر العربي أن يدرك أنّ المستقبل هو للاقتصاد الأخضر والتمويل الأخضر والتحول العام نحو الاستدامة. وقد حط المستقبل في ما يخص التمويل الأخضر رحاله في الحاضر منذ بضع سنوات. وهناك من المستثمرين من أصبح يستفيد من الإقبال المتزايد على الصكوك والسندات الخضراء. وأخيراً التقى الربح والهدف النبيل، وهو حلم راود الكثير منذ زمن. 

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .