في المواقف غير المألوفة التي تنطوي على مخاطر عالية، قد يكون من الصعب أن تظل هادئاً ومنفتح الذهن، وعندها يكون رد فعلنا الغريزي هو التمسك بما نجح معنا في الماضي. وهذا أمر طبيعي، كما أنه يمكن أن يساعد بشكل جيد في المواقف المألوفة. لكن اللجوء إلى العادات القديمة في المواقف الجديدة التي تتطلب حلولاً جديدة يبوء بالفشل عادة. يكمن التحدي في أن المواقف الجديدة العالية الضغوط غالباً ما تخلق مستوى من القلق يؤدي إلى ردود الفعل نفسها التي عادة ما تقيدنا، ما يعوق الابتكار. وهذه هي “مفارقة التكيف”: عندما نكون في أمسِّ الحاجة إلى التعلم والتغير والتكيف، يُرجّح أن نتصرف بالأساليب القديمة التي لا تناسب الموقف الجديد، ما يؤدي إلى اتخاذ قرارات أسوأ وحلول غير فعالة.

ليتمكن القادة من اجتياز فترات التقلبات بنجاح، يجب أن يعتمدوا شكلاً متطوراً من ضبط النفس نسميه “الهدوء المتعمَّد”. تشير كلمة “متعمَّد” إلى الوعي بأن لديك الحرية في اختيار كيفية عيش الموقف والاستجابة له. ويشير “الهدوء” إلى التفكير بعقلانية في أفضل الطرق للاستجابة، دون أن تكون محكوماً بالعادات القديمة.

تُعد استراتيجية “الهدوء المتعمَّد” حلاً لمفارقة التكيف؛ فهي تمكّن القادة من التصرف بإبداع وموضوعية مع تحديد أهداف، حتى في أصعب الظروف، وتساعدنا على التعلم والتكيف مع التحديات الجديدة عندما تكون المخاطر أعلى. فممارسة “الهدوء المتعمَّد” تغير علاقتنا بحالة عدم اليقين.

الهدوء المتعمَّد في الواقع العملي

تأمّل هذا المثال الافتراضي. جمال هو مدير مبيعات في شركة لتصنيع السلع الاستهلاكية تواجه اضطرابات تتعلق بالتكنولوجيا والسوق بالإضافة إلى ضعف المبيعات. عندما تجري معه مديرته مكالمة لتحذيره من أن أرقامه يجب أن تتحسن، يشعر بالضغط والإحباط والقلق. ويرد بالأسلوب الذي نجح معه في الماضي، قائلاً لها: “سوف أحسّنها”. ويقول لنفسه إنه يحتاج فقط إلى مضاعفة جهوده والقيام بكل ما هو ممكن لبيع المزيد. ولكن من الممكن ألا يتحسن واقعه الجديد بالأساليب القديمة، وألا تساعده في الخروج من هذا الموقف الصعب. فماذا لو لم تنجح طريقة الترغيب والترهيب التي كانت ناجحة في الماضي؟ في هذه الحالة، من المرجح أن يؤدي تحديد أهداف جديدة للمبيعات ومنح المزيد من الحوافز ووضع عواقب على الأداء وإخبار أعضاء فريقه أن عليهم العمل بجدية أكبر وتحسين أدائهم، إلى الفشل أو إلى نتائج عكسية. وعندما يؤدي بذل جهود أكبر في الطرق القديمة إلى الفشل، حينها يبدأ جمال بالشعور بالذعر، ما يدفعه إلى اتباع الطرق نفسها بقوة أكبر، بدلاً من التكيف مع الواقع الجديد واكتشاف حلول جديدة.

إذا كان جمال سيتبع استراتيجية “الهدوء المتعمَّد”، فسيتنفس بعمق ويقيِّم وضعه، ويناقشه بصراحة مع مديرته. وسيعترف بأنه لا يملك جميع الإجابات، وأن الأساليب التقليدية لم تعد تجدي نفعاً، وأن لديه دلائل على أن المشهد التنافسي سيجعل من الصعب الحفاظ على مستوى المبيعات. ربما لا يزال يشعر بالقلق، لكنه يتفهّم أن الأمان الزائف الذي تشعره به الأساليب القديمة هو شكل من أشكال الإنكار الذي لا يوفر سوى فترة راحة قصيرة. إذ من الأفضل أن يعبر عن مخاوفه، وأن يتعامل مع شعوره بعدم الارتياح، وأن يفتح حواراً حول استكشاف أساليب جديدة.  ويمكنه أيضاً البحث عن استجابات جديدة وطلب المساعدة في التوصل إلى أفكار جديدة.

بعد ذلك، يجب أن يفكر في كيفية التعامل مع فريق المبيعات. في هذا السيناريو الافتراضي، ستفشل طريقة جمال التقليدية القائمة على الترغيب والترهيب، لأن في الأساس يجب اتباع أساليب جديدة لمواجهة التحديات الجديدة. بدلاً من ذلك، يحتاج إلى استكشاف الموقف، والدعوة إلى طرح أفكار جديدة، والاعتراف بأنه لا يملك جميع الإجابات. قد يشعر أعضاء الفريق بالتوتر، ولكن يمكن أن يمنحهم جمال بعض الأمل والتفاؤل، إلى جانب النظر إلى الموقف بواقعية. ويمكنه أيضاً دعوة فريقه إلى المساعدة في اكتشاف حلول جديدة بطريقة تشجعهم على الإبداع والتعلم دون خوف من العقاب، بدلاً من الأساليب القائمة على “بذل جهد أكبر في الشيء نفسه” التي تؤدي إلى تناقص العائدات. لا توجد ضمانات، ولكن من المرجح أن تؤدي هذه الاستجابة إلى إيجاد حلول جديدة وتحقيق نتائج جيدة في ظل عدم اليقين.

هل تنجح استراتيجية “الهدوء المتعمَّد” فعلياً؟ نعم. صممنا برنامجاً للقادة قائماً على استراتيجية “الهدوء المتعمَّدة” لشركة أدوية عالمية منحت 1,450 قائداً جلسات تدريب أسبوعية لمدة 30 دقيقة تقريباً لمدة 12 أسبوعاً، ثم قمنا بقياس التغييرات في سلوكهم وأدائهم (بما في ذلك التقييمات الذاتية وتقييمات مدرائهم وزملائهم في الفريق وزملائهم الآخرين). وكانت النتائج مذهلة. بالمقارنة مع مجموعة ضبط (تضم الذين طُلب منهم محاولة تحسين السلوكيات والنتائج نفسها، لكنهم لم يشاركوا في البرنامج)، أظهر المشاركون في برنامج بناء القدرات القيادية تحسناً أكبر بثلاث مرات في السلوكيات والنتائج المستهدفة، بما في ذلك الأداء القيادي بشكل عام، والتكيف مع الظروف غير المخطط لها، والتفاؤل، وفعالية العلاقات (على سبيل المثال، المشاركة الوجدانية والتعاطف)، والتعاون مع الآخرين والتعاضد (على سبيل المثال، تعزيز الأمان النفسي)، واكتساب معارف ومهارات جديدة. بالإضافة إلى ذلك، تَحسَّن شعورهم بالرفاهة أكثر بـ 7.5 مرات من مجموعة الضبط. وأشارت تعليقات المشاركين المفتوحة إلى أنهم شهدوا فوائد كبيرة في حياتهم الشخصية أيضاً.

3 مهارات يجب تطويرها لتصبح أكثر قدرة على التكيف

كيف يمكنك البدء؟ هناك 3 عناصر رئيسية لصقل “الهدوء المتعمَّد”:

مرونة التعلم

تتعلق بالتعلم من التجربة، وتجربة أساليب جديدة، والتعامل مع المواقف الجديدة بعقلية النمو، والتماس الملاحظات والتعلم منها، وتطبيق هذه الدروس آنياً في المواقف الجديدة. فالمبدأ هنا هو أن القادة يجب أن يكونوا متعلمين حتى في أصعب الظروف. ومن الصعب المبالغة في تقدير مدى أهمية ذلك: أظهر تحليل ميتا لعشرات الدراسات التجريبية أن القدرة على التكيف ومرونة التعلم كانتا أهم المؤشرات على أداء القائد وقدراته.

يمكنك “بناء هذه العضلة” عن طريق تحديد الطريقة التي تريد التصرف بها في المواقف الصعبة. على سبيل المثال: “بدلاً من محاولة تجهيز استجابات لجميع التحديات الصعبة وغير المتوقعة التي قد تواجهني اليوم، سأتعامل معها بفضول وعقلية منفتحة، مع التماس وجهات نظر متعددة”. فالقيام بذلك يساعدك على أن تظل منفتحاً على الملاحظات والتعلم، وتعديل استجابتك التي قد تكون رد فعل تلقائي غير مفيد.

التحكم في الانفعالات

هو القدرة على تمييز المشاعر وفهمها وإدارتها، وتحويلها إلى طرق مثمرة للتفكير والتصرف. تُظهر البحوث باستمرار أن القادة الذين يتمتعون بقدرة أكبر على التحكم في الانفعالات، يكونون هم وفِرقهم أفضل أداءً بصورة ملحوظة. وقبل التحكم في استجاباتك العاطفية، عليك أولاً أن تدرك ما يثيرها وما تخبرك به، لأنها يمكن أن تمنحك معلومات قيّمة للغاية.

حاول تدوين مذكراتك لبضعة أيام، بما في ذلك الأوقات التي شعرت فيها أن هناك ما أثار مشاعرك، مع وصف أفكارك وأحاسيسك الجسدية وأفعالك في هذا الموقف. وبعد أسبوع، سيكون لديك عدد من هذه المواقف، ويمكنك البدء بملاحظة الأنماط. كلما فعلت ذلك، أصبح من الأسهل عليك إدراك هذه الأنماط في خضم استجابة عاطفية لموقف ما. وهذا هو الوقت الذي يمكنك فيه البدء بالتحكم في انفعالاتك، وتعلُّم ليس فقط معالجة المشاعر غير المفيدة بل أيضاً أن تتقبل الشعور بعدم الارتياح الذي يقترن بها.

الوعي المزدوج

هو الاندماج بين الظروف الداخلية (التجارب والأفكار والمشاعر والاستجابات) والظروف الخارجية (قراءة موضوعية للموقف وتحديد ما يدعو إليه). وهنا ندمج بين شيئين مهمين: الوعي بمشاعرنا وافتراضاتنا وعاداتنا ذات الصلة بالاستجابات (لا سيما تحت وطأة الضغط)، وطبيعة الموقف الذي نواجهه. من خلال أخذ بعض الوقت لتقييم أنفسنا والموقف، لن نفهم دوافعنا وأهدافنا الحقيقية على نحو أفضل فحسب، وإنما سنفهم أيضاً ما يتطلبه الموقف، وكيف ستخدمنا عاداتنا وميولنا في هذه اللحظة. وهذا يتيح لك ملاحظة نفسك في أثناء الموقف، ثم مطابقة استجاباتك مع متطلبات اللحظة الراهنة.

في هذه اللحظة ستتمكن من التحكم في انفعالاتك. فكلما أصبحت أكثر وعياً بما يثير كل نوع من مشاعرك، بالإضافة إلى ما يمكنك تعلمه في تلك اللحظة، زادت قدرتك على التمهل والتفكير فيما يتطلبه الموقف فعلياً. حتى إن مجرد طرح هذين السؤالين “ما الذي يتطلبه هذا الموقف؟ وما الذي سيفيد في حل هذه المشكلة؟” هو في حد ذاته أسلوب من أساليب التحكم في المشاعر والانفعالات. فالتنقل بمرونة ما بين التفكير في الموقف والتفكير فيما تحتاج إلى معالجته، لا يُعد استجابة فعالة للموقف فحسب، وإنما أيضاً استجابة فعالة لتهيئة نفسك للنجاح في الوقت الحاضر.

خلال فترات التحول والتغيير المنهجي، يمكنك اكتساب جميع المهارات الثلاث المذكورة أعلاه من خلال التفكير المتأني واتباع العادات الصحية والوعي والممارسة. التغيير صعب، لا سيما التغيير التحويلي الكبير. غالباً ما نحتاج إلى خلق شعور قوي بوجود ضرورات مُلحة لتحفيز الأشخاص، ولكن “المنصة المحترقة” نفسها التي تدفع الأشخاص إلى إجراء تغيير يمكن أن تخلق أيضاً بيئة “تفاعلية للغاية” حيث يجد الأشخاص صعوبة في التعلم والابتكار والتكيف. يمكن أن يساعدنا “الهدوء المتعمَّد” على الازدهار في أوقات عدم اليقين. ولا يحدث هذا لمرة واحدة فحسب، إذ يجب تعلُّم “الهدوء المتعمَّد” وإعادة تعلمه حتى تفقد “مفارقة التكيف” قوتها. قد لا تؤدي الممارسة إلى الإتقان، لكنها بالتأكيد ستُحسِّن الأداء. وعندما يكون القادة مبدعين ومبتكرين ومنفتحين، فإن ذلك يعود بالنفع على مؤسساتهم بأكملها.