الاستثمار في تعليم الإنسان ومهاراته: الوصفة الإماراتية في صناعة المستقبل

4 دقائق
صناعة المستقبل
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

عرفت البشرية نموذج “التعلم الثقافي” منذ قرون طويلة، وكان على مر العصور الطريقة المثلى لنقل المعلومات والخبرات وأساليب الحياة المختلفة من جيل إلى جيل، عبر منظومة اجتماعية متكاملة تتوارثها الأجيال، وتهدف للحفاظ قدر الإمكان على الوعاء الثقافي المجتمعي متماسكاً، وتؤسس لمنهجية تعلم راسخة وهويّة متفرّدة تميز تلك المجتمعات. ولا شك أنه مع تطور المجتمعات، تطورت أساليب التعلم الثقافي وتحولت إلى منظومة مؤسسية يشرف عليها المجتمع والدولة، وتضمن نقل العلوم في إطار يجمع بين المعلمين والطلبة وبعض النظم التعليمية والإدارية، داخل ما أصبح يُسمى بالمدارس ومؤسّسات التعليم العالي. فكيف يمكن صناعة المستقبل استناداً إلى هذه المعطيات؟

نشاهد اليوم العالم يزخر بالمدارس والجامعات بكافة أنواعها وتخصصاتها، وتتنوع نظم التدريس والتدريب باختلاف احتياجات المجتمع، وبما يخلق أجيالاً تُحقق إضافات جديدة للبشرية من خلال تطوير العلوم بشقيها النظري والتطبيقي. ومع ذلك، ظل التعلّم الثقافي يتكيف مع تطور نظم التعليم الحديثة ومتطلّبات الحياة، وظل في العديد من المجتمعات الأساس الحقيقي للتعلم العميق. ففي المدارس، تعتمد منهجية التعليم على سيل متدفق من المعلومات، ولكنها ومع غزارتها، لم تكن دوماً معياراً لنجاح التعليم وتطوره، حيث أثبتت تلك المنهجيّة عدم فعاليتها على المدى الطويل. وأثبت التعليم التفاعلي جدارة وأثراً إيجابياً أكبر على المدى البعيد مقارنة بمنظومة التلقين.

اقرأ أيضاً: الإدارة في ظل المستقبل الغامض

لم يتم حتى الآن إثبات أن التعليم والتعلم يخضعان لمسار محدد أو منهجية معينة، حيث يمكن نهل العلم واكتساب الخبرات من عدد غير محدود من الأساليب التي تناسب مختلف المجتمعات. كما أن هناك عناصر تعليمية فريدة تتميز بها كل ثقافة، وأثبتت فعاليتها عبر التاريخ، وبالتالي فقد نجت تلك العناصر الثقافية من موجات التغيير العاتية التي عصفت ببعض ثقافات التعلم الهشة. وبالانتقال إلى الوصفة الإماراتية في التعلم، نجد أن الإرشاد يتربع على قمة عناصر التعليم والتعلم في المجتمع الإماراتي منذ زمن بعيد، حيث حافظ مفهوم الإرشاد على بريقه الذي لم يبهت طيلة عقود منذ قيام دولة الإمارات بشكلها الحديث، بل وتكيف وتطور مع نظم التعليم العالمية، وكُتب له البقاء في وجدان كل معلم وتلميذ إماراتي.

كان الإرشاد هو عنوان التعليم بمفهومه القديم خارج الصفوف المدرسية، حينما كان آباؤنا وأجدادنا يصطحبون أبنائهم إلى المجالس، حيث العلم والخبرات الحياتية المستقاة من الحكمة التي وهبتها حياة الصحراء إلى آبائنا المؤسسين. فقد كانت المجالس ولا تزال مجالساً للكرام ومدارس الأصالة والقيم. حيث تحافظ على هويتها وأصالتها كمركز لمنظومة التعليم في دولة الإمارات حتى بعد ظهور التعليم المنظّم في كل أنحاء الدولة. ومازالت تلك المجالس ترسخ لمبدأ التعلم مدى الحياة، ونهل العلم والخبرات من أهلها انطلاقاً من القاعدة الراسخة بأن العلم ليس له نهاية، وأن آفاق التطور غير محدودة. وهو النهج الذي ينبغي أن ينشأ عليه كل أفراد المجتمع ويستمرون عليه من المهد إلى اللحد.

صناعة المستقبل في دولة الإمارات العربية المتحدة

لقد استطاعت الدولة تحقيق التوازن الدقيق بين الانفتاح ومواكبة العصر في تطبيق أساليب التعليم المتطورة، ولكن بأسلوب خاص لم يخلع أبداً عباءة الماضي، وظل يحمل قيم المجالس العلمية والتعليمية التي تحظى بأهمية مجتمعية هائلة. فقد تطور مفهوم المجالس في الإمارات وأصبحت تستضيف نخبة من المسؤولين والعلماء والخبراء لوضع الرؤى والخطط والمساهمة في نهضة الوطن، وتنتشر المجالس في كل ربوع دولة الإمارات، مثل مجلس محمد بن زايد، ومجلس البطين، والمجالس المماثلة له في مختلف المناطق. وأصبحت هذه المجالس المتجذرة في الثقافة الإماراتية هي النواة الحقيقية لمؤتمراتنا ومنتدياتنا العالمية التي تستضيف نخب العلماء والخبراء والمسؤولين من مختلف دول العالم.

وفي هذا السياق تبلور برنامج “خبراء الإمارات” من المجالس وثقافة الإرشاد لاستكمال منظومة التعليم الوطنية لتأسيس قاعدة من الخبرات والكوادر الاستشارية الوطنية، وإتاحة الفرصة أمام الخبراء والوزراء والمسؤولين لنقل خبراتهم إلى الجيل الجديد وصقل مهاراتهم العملية والحياتية لتواكب متطلبات العصر. ويشكل البرنامج منصة لانطلاق الخبراء الإماراتيين نحو تعميق تخصصاتهم، والهدف النهائي منه هو إنشاء شبكة من المتخصصين في قطاعات محددة يشكلون معاً مجموعة من الخبرات الوطنية تساهم في دفع عجلة التطور إلى الأمام.

اقرأ أيضاً: استثمار بالمستقبل

كما تمثل المهارات امتداداً لعنصر التعلم الثقافي في دولة الإمارات، وترسيخ مبدأ التعلم مدى الحياة عبر النموذج المُستقى من مجالسنا العريقة. حيث أصبحت المهارات الشخصية والعملية ضرورة لتأهيل الكادر البشري المحلي، كمكمل لنظم التعليم التقليدية كما كان سابقاً، حيث كانت المجالس تمد كل أفراد المجتمع بالمهارات الشخصية. فمنها تعلموا كيف يسيرون في دروب الحياة ومنعطفاتها، وكيفية التعامل مع متغيرات البيئة من حولهم بحكمة متسلحين برصيد هائل من القيم الإماراتية الأصيلة والمبادئ الإنسانية القائمة على العمل والاجتهاد والتسامح. وعلى الجانب الآخر كانت هناك الكتاتيب قبل إنشاء المدارس، والتي كانت ترفد المجتمع بالمهارات العملية في العلوم والرياضيات واللغة، وكذلك تعلم الفنون والحرف، وغيرها من المهارات التي تساعد الأفراد على المعيشة والتطور. وتماماً كما تطوّرت منظومة التعليم بشقيها المنظّم والتعلّم الثقافي خارج الصف، مرّت المهارات بشقّيها، الشخصي والعملي، بعملية التطوّر ذاتها لتتحوّل إلى إطار مؤسسي فاعل يهدف إلى ترسيخ هذه المفاهيم في المجتمع والحياة اليومية لدى أفراده.

ونتيجة لتلك الرؤية، جاء إطلاق “استراتيجية البرنامج الوطني للمهارات المتقدمة” في دولة الإمارات، حيث تعكس الاستراتيجية 12 مهارة متنوعة تم اختيارها بدقة لتراعي كافة الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية لدولة الإمارات وتوجّهاتها المستقبليّة. وتم تصنيف المهارات تحت 3 فئات، هي (المهارات الأساسية) وتضم كلا من المهارات العلمية والتكنولوجية والمالية، وتشمل الفئة الثانية (الكفاءات) وتضم التفكير النقدي، والإبداع، والتواصل، والتعاون، أما الفئة الثالثة (السمات الشخصية) تتمثل في التكيف، والقيادة، والوعي الاجتماعي والثقافي، إلى جانب كل من التعاطف، وتطوير الذات. بالإضافة إلى المهارات التخصصية في العديد من المجالات كالطباعة ثلاثية الأبعاد، والأمن الإلكتروني، وعلم البيانات، والتصميم الرقمي وغيرها الكثير.

ولا تقتصر المهارات على مرحلة ما بعد التعليم من أجل صناعة المستقبل بطريقة صحيحة، بل نعمل مع مختلف الجامعات على ضرورة إدماج تلك المهارات في منظومة التعليم الشاملة، ليصبح التعليم والمهارات وجهان لعملة واحدة لمواكبة المتغيرات في عالمنا الحالي ذي التخصصات العلمية المتشابكة والمعقدة، والتي تتطلب بجانب العلوم التخصصية، جرعة هائلة من المهارات لتكسب الطلبة القدرة على التطور في تخصصاتهم. كما ينعكس ذلك على ضرورة تطوير أساليب التدريس لتواكب متطلبات المرحلة في تضمين المهارات في المناهج الدراسية بشكل مبتكر، لتصبح العملية التعليمية مزيج فريد بين التعليم التقليدي ومميزات التعليم خارج حدود الصف الدراسي من أجل صناعة الإنسان العصري بشكل متكامل. وفي السياق نفسه، أصبح من الضروري أيضاً تطوير المناهج بشكل يلائم “التعليم الفردي” من خلال تنويع أساليب الفهم بشكل يوائم القدرات المختلفة للطلبة، فقد أصبحت هناك العديد من الأساليب التعليمية المبتكرة مثل التعلم من خلال سرد القصص والتدريبات العملية ومقاطع الفيديو وألعاب الذكاء والتسلية وغيرها. وهو ما ينعكس على فهم جميع الطلبة المناهج الدراسية واستيعاب المهارات ضمن مدخلات المنظومة التعليمية بكل سهولة.

اقرأ أيضاً: 3 خطوات تحدد قادة المستقبل

إن تطوير قدرات ومهارات المواطن الإماراتي وغرس مبدأ التعلم مدى الحياة في نفسه هو غايتنا من أجل صناعة المستقبل القادم، ولا نهدف فقط من وراء ذلك إلى إعداده لنيل الوظائف أو العمل فقط، بل إعداده للمستقبل المتغيّر اعتماداً على الوصفة الإماراتية في التعلم التي تجمع بين نظم التعليم الحديثة وعناصر التعلم الثقافي المتجذرة في تاريخ الأمة، والتي أثبتت جدارتها في مواءمة كافة المتغيّرات التي مرّت بها دولتنا، على الرغم من صغر سنّها النسبي مقارنة بدول العالم المتقدّم، لتقف اليوم بثبات بين صف الدول الأولى وترسل شبابها وآمالها نحو الفضاء.

اقرأ أيضا: طريقة جذب المستثمرين.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .