إذا لم تكن قد جرّبت هذا الشعور بنفسك، فقد سمعتَ عنه غالباً، إذ يقول الخبر المتداول على نطاق واسع: يعمل العاملون عدداً أكبر من الساعات، ويشعرون بالإرهاق ويعانون الإصابة بالاحتراق الوظيفي، ومن ثم يستقيلون بأعداد كبيرة.

وقد جرّبت هذا الشعور بنفسي. فقد ظللتُ أعمل نائبة لرئيس شركة أوراكل لسنوات، وهي وظيفة تحفل بالكثير من التحديات والأعمال الإنجازية، وفجأة وجدت نفسي مصابة بالاحتراق الوظيفي. فما كان من مديري إلا أن طلب مني أخذ إجازة لمدة 3 أسابيع. وقد ثبت فيما بعد أن قراره هذا كان قراراً صائباً، فقد أدى وقت الفراغ الذي قضيته مع أفراد أسرتي إلى تجديد طاقتي وحيويتي. لكن للأسف سرعان ما تلاشى أثره. ولأنني كنتُ قد افترضتُ أن عملي يحفل بالكثير من المتطلبات، فقد قلَّلت من مسؤولياتي وخفَّضتُ ساعات عملي في المكتب، وقررتُ العمل لمدة 4 أيام في الأسبوع. لكن الغريب في الأمر أن مستوى طاقتي انخفض، ولم يرتفع.

لقد أصبحت وظيفتي روتينية مملة، على الرغم من أنني كنت أتحمَّل مسؤولية إدارية كبيرة. فقد شعرتُ كأنني أحاول عبثاً خلق حالة من الحماس والشغف وسط أرض موحلة بالإجراءات البيروقراطية. وفي حين أن أدائي الوظيفي بدا راسخاً على السطح، فقد شعرتُ في قرارة نفسي بأن عملي خاوٍ لا معنى له. بقيتُ في هذه “الوظيفة السهلة” لمدة عام آخر، معتقدةً أن أي وظيفة جديدة تحفل بالمزيد من التحديات من شأنها أن تستنفد الكثير من الطاقة وتحرمني الاستمتاع بحياة شخصية وأسرية صحية.

وقد استسلمتُ لهذه الحالة من فتور الهمة إلى أن استشرتُ صديقاً يتمتع بالحكمة والحصافة، يشغل منصب عميد إحدى كليات الطب ويعمل طبيباً نفسياً مُدرَّباً، واقترح عليّ أن أنخرط بقوة في العمل لأن هذا لن يستنزف طاقتي، بل سيعززها، وبالتالي سيفيدني هذا الشعور بالرضا ويفيد أسرتي كذلك. باختصار، كنتُ بحاجة إلى أن أجعل عملي هادفاً ومؤثراً.

فقررتُ الاستقالة من عملي ومواجهة تحدٍ جديدٍ من خلال العمل باحثة إدارية ومدرّبة تنفيذية. كنتُ أعمل في بعض الأحيان لساعات أطول بكثير، لكنني كنتُ أمتلك قدراً أكبر من السيطرة على عملي، وكان هذا يُحدث فارقاً ملحوظاً في حياتي. وصرتُ أستمتع بعملي مجدداً وبدا لي عملاً مجزياً. فقد شعرتُ بتجدد طاقتي وحيويتي، وهو ما انعكس على حياتي الأسرية. كانت الاستقالة من عملي جزءاً من الحل، لكن الترياق الحقيقي والأكثر استدامة للاحتراق الوظيفي تمثّل في أداء عمل يحفل بالتحديات ويضيف قيمة واضحة لعملائي.

وقد أثبت لي بحثي الذي يدرس الأشخاص الأكثر تأثيراً في مكان العمل، فضلاً عن تجربتي الشخصية، أن الاحتراق الوظيفي ليس بالضرورة نتيجة العمل الزائد على الحد، وأنه غالباً ما يكون نتيجة ضآلة التأثير. وعلى كل حال، من النادر أن تجد أحداً يطمح لأن يصبح من أرباب الوظائف، لكن الجميع تقريباً يريد أن يصنع الفارق ويحقق أمراً ذا قيمة. وإليك ما يمكنك فعله (أياً كانت درجتك الوظيفية في المؤسسة) لزيادة قدرتك على التأثير في محيطك، دون العمل لساعات إضافية:

قلّل عبء العمل الوهمي

لا يمثّل عبء العمل الفعلي الواقع علينا إلا جزءاً فقط من العبء الذي نواجهه في العمل. وقد قال أكثر من نصف المشاركين في استقصاء للرأي إن المصدر الأساسي للشعور بالتوتر المرتبط بالعمل لم تكن له علاقة بعبء العمل نفسه، بل ذكروا ضغوطاً أخرى، مثل القضايا الماسة بالعناصر البشرية ومحاولات التوفيق بين حياتك العملية والشخصية وانعدام الشعور بالأمان الوظيفي. وتؤدي الفتن والمشاحنات في مكان العمل إلى خلق حالة من الاحتكاك بين العاملين، وتستغرق الأعمال التعاونية المعقدة والاجتماعات اللامتناهية الكثير من الوقت. وقد توصّلت دراسة أخرى إلى أن الموظفين الأميركيين يقضون 2.8 ساعة أسبوعياً في المتوسط في التعامل مع النزاعات في مكان العمل. وتشكل هذه العوامل ما يُعرَف بعبء العمل الوهمي وتؤدي إلى تفاقم الاحتراق الوظيفي.

ويمكنك تخفيف أعباء العمل عليك وعلى الآخرين من خلال تجنب الفتن والمشاحنات في مكان العمل والتعامل مع الآخرين بسلاسة. كيف ذلك؟

نعرف جميعاً زملاء العمل الذين يؤثّرون بالسلب في العمل. قد لا يحرّضون على إثارة النزاعات والخلافات بشكل واضح للعيان، ولكنهم يسهمون ببساطة في خلق جو مشحون بالتوتر من خلال المشاركة في تأجيج الفوضى والصخب في محيط العمل. وهناك الزملاء الذين يؤثّرون بالإيجاب في العمل لأنهم، ببساطة، يتعاملون مع الآخرين بسلاسة. قد لا يصبح العمل نفسه سهلاً بالضرورة، لكن آلية العمل ذاتها تصبح أسهل وأكثر إمتاعاً. إذ يوفرون العون لزملائهم ويسهمون في خلق بيئة إيجابية تخفّف من حدة التوتر وتزيد من متعة العمل، وكلاهما يقلل من الإصابة بالاحتراق الوظيفي. فاحرص على تشكيل فريق من الأفراد الذين يجعلون العمل أسهل وينأون بأنفسهم عن الفتن والمشاحنات. وهذه أسهل طريقة للبدء.

اعمل على زيادة مستوى التحدي في العمل (وليس حجمه)

أجريتُ بحثاً استقصيت فيه رأي مهنيين يعملون في عدد متنوع من القطاعات، وتوصلتُ من خلاله إلى أن ثمة علاقة قوية تربط بين “مستوى التحدي” و”مستوى الرضا” في العمل، وهذا يعني أنه كلما زادت درجة التحدي في عمل الفرد، ازدادت درجة شعوره بالرضا الوظيفي. ولكن البيانات أظهرت أيضاً أن الوظيفة التي تنطوي على أعلى درجات التحدي تشهد ارتفاع الشعور بالرضا الوظيفي إلى أعلى مستوياته، ما يعني أن هناك فائدة كبيرة للتحديات، شريطة أن تكون تحديات مدارة يمكن التحكم فيها. فاحرص على توافر مستويات ثابتة من التحديات الهادفة، أي المشاريع ذات الأثر الواضح والنطاق الواسع الذي يدعوك إلى تجديد طاقتك وحيويتك، ولكن دون التسبب في إصابتك بحالة من التوتر.

وإذا أردتَ رفع مستوى التحدي دون أن تُصاب بالاحتراق الوظيفي، فابحث عن طرق لمراجعة نطاق عملك. لا تتعامل مع الوصف الوظيفي لمنصبك في العمل باعتباره قيداً يكبّل حركتك، ولكن باعتباره قاعدة رئيسية يمكنك من خلالها اكتشاف المشكلات المحورية والسعي لاغتنام الفرص التي تتيح لك القدرة على تقديم إسهامات فعّالة. يمكنك أيضاً أن تحاول ممارسة ما أسميه “القبول الفوري للمهمات” من خلال الموافقة على أي تحدٍّ جديد قبل أن يبدأ عقلك التفكير ويخبرك باستحالة تنفيذها. وكما قال ريتشارد برانسون: “إذا عرض عليك أحدهم فرصة رائعة لأداء مهمة ما، ولكنك لم تكن متأكداً من قدرتك على أدائها، فقل نعم، ثم فكّر في كيفية أدائها لاحقاً!”. ولا يصح طبعاً أن تقبل كل شيء، ولكن يُنصَح بقبول التحديات الجسام، ثم اعمل على محاولة الارتقاء إلى مستواها.

تفاوض على الأشياء غير الملموسة والضرورية للنجاح

عند العمل في مشاريع صعبة محفوفة بالعقبات غير المتوقعة، غالباً ما نفترض أننا بحاجة إلى موارد إضافية (مثل زيادة الميزانية أو عدد الموظَفين) لإكمال العمل، ولكن معظم مواردنا الحيوية غير ملموسة في واقع الأمر. وعند إجراء استقصاء للمهنيين من مختلف القطاعات حول الموارد التي يحتاجون إليها بشدة لتحقيق النجاح، تم إعطاء العوامل الستة التالية أعلى درجات الأهمية: 1) الوصول إلى المعلومات، 2) الإجراءات المُتخَذة من قِبَل القادة، 3) التقييم أو التدريب، 4) الوصول إلى الاجتماعات الأساسية والكوادر البشرية الرئيسية، 5) الوقت، 6) الإسهام في تعزيز المصداقية. ولكن كان هناك شيء واحد ثابت في جميع القطاعات والدول والتركيبات السكانية، وهو مجيء الميزانية وعدد الموظَفين في المرتبتين السابعة والثامنة، أي أنهما كانا أقل العوامل أهمية بهامش كبير. وهذا يعني أنك لا تحتاج إلى الموارد بقدر الحاجة إلى الدعم الإداري وتوفير مظلة من الحماية الإدارية.

ويمكنك زيادة تأثيرك من خلال التفاوض للحصول على التوجيه والتدريب والرعاية التي تحتاجها قبل أن يظهر احتياجك لها فعلياً. على سبيل المثال، بصفتي مديرة شابة نسبياً في شركة أوراكل، أُتيحت لي الفرصة للعمل مع 3 مسؤولين تنفيذيين رفيعي المستوى بالشركة في برنامج تطوير القدرات القيادية الذي سيتم طرحه خلال العام المقبل. وقد شارك المسؤولون التنفيذيون الثلاثة في الجلسة الأولى. وقد حققت هذه الجلسة نجاحاً باهراً، لكنني كنت أخشى انسحاب هؤلاء المسؤولين التنفيذيين من البرنامج بسبب كثرة انشغالاتهم وأن أضطر إلى الاستمرار في البرنامج وحدي دون دعم تنفيذي. وعندما التقينا للتخطيط للجلسة التالية، قررت البوح بمخاوفي تلك. حيث أكدتُ لرئيس الشركة أنني سأبذل كل جهدي في هذا البرنامج، لكنني لن أستطيع النجاح دون مشاركته المستمرة والفعّالة. وقلت له: “إذا توقفتَ عن العمل على إنجاح هذا البرنامج، فسوف أضطر إلى التوقف أنا أيضاً”. سكت رئيس الشركة برهة مفكراً في طلبي الجريء، ثم قال بحزم: “سأعقد معكِ صفقة”. واتصل بمساعده التنفيذي، وقال له: “يحق لـ ليز أن تحصل على الوقت الذي تحتاجه في جدول مواعيدي خلال العام المقبل”. وظل منخرطاً في البرنامج بشكل كامل، وكان عملنا مؤثراً للغاية وتجربة ثرية في مسيرتي المهنية.

شارك عبء القيادة

يتطلب العمل التعاوني بين مختلف التخصصات أن يُبدي المساهمون والمدراء في كافة قطاعات المؤسسة استعدادهم التام للاضطلاع بأدوار قيادية إضافية. ولكن إذا تمت الاستعانة بالأشخاص أنفسهم باستمرار للاضطلاع بالأدوار القيادية، فإن أولئك الذين يتم استدعاؤهم لأداء مهمات قيادية إضافية سينتهي بهم المطاف بالإصابة بداء زيادة عبء العمل المزمن، بينما يبقى الآخرون دون استغلال قدراتهم. وتؤدي كلتا الحالتين إلى الإصابة بالاحتراق الوظيفي.

وتعتمد المؤسسات على نحو متزايد نهجاً أكثر مرونة للقيادة، وهو نهج يبدو أقل انحيازاً لأسلوب البطل الأوحد في القيادة أو ما يُعرَف بأسلوب قطعان الأسود وأكثر شبهاً بأسراب الإوز. حيث يطير سرب الإوز المهاجر في تشكيل مميز يشبه حرف “V” الذي يقدِّر العلماء أنه يمكّن السرب من الطيران لمسافة أطول بنسبة 71% مقارنة بقدرة كل إوزة على التحليق وحدها. إذ تكسر الإوزة الموجودة في مقدمة السرب حدة مقاومة الهواء عند اتخاذه هذا التشكيل، ما يقلل من مقاومة بقية الطيور التي تحلّق في الخلف للهواء. وعندما يُصاب الطائر الرئيسي بالتعب، فإنه يتخلّى عن موقعه ويعود إلى الانضمام إلى بقية التشكيل، وينتقل طائر آخر ليحل محلّه في الصدارة.

إذا كنت جديداً في قوة العمل، فلا تنتظر حتى تتم ترقيتك إلى منصب إداري لكي تضطلع بأدوار قيادية. يمكنك التطوع لقيادة مبادرة أو البحث عن نواقص القدرات القيادية في المواقف اليومية ثم التدخل لملء الفراغ. وإذا كنت في اجتماع يفتقر إلى قائد واضح، فاعرض على الحاضرين تولي إدارة المناقشات. وإذا كان جدول أعمال الاجتماع غير واضح، فيمكنك ببساطة أن تسأل: “ما أهم شيء علينا تحقيقه خلال هذا الاجتماع؟”. وعندما يتمكن أعضاء الفريق من تبادل أداء الأدوار القيادية بسهولة، فستُتاح الفرصة أمام كل عضو في الفريق لأداء دور رئيسي ولن يشعر أحد بالإعياء والتعب.

تجنب المثابرة الطائشة

قد يؤدي التصميم الدؤوب على إنهاء كل شيء نبدأه إلى إهدار الطاقة والموارد. وقد مازحني أحد أصدقائي ذات مرة قائلاً إنه قد فسخ خطبته أخيراً مع امرأة عندما أدرك أنها غير مستعدة لبناء علاقة زوجية مستقرة في المستقبل. وبالمثل، عندما نعجز عن التخلي عن المشاريع غير البنّاءة قبل التصميم على إنهائها، فإننا بذلك قد نهدر وقت مؤسستنا ومواردها التي يمكن استغلالها لمتابعة فرص أخرى ذات قيمة أعلى. علاوة على ذلك، فقد تؤدي محاولات إنهاء المشاريع من أجل إنهائها فحسب إلى تحقيق نصر باهظ الثمن يؤدي فيه النجاح إلى تكبُّد الفائزين (وفرقهم) خسائر فادحة بحيث لا يمكن التمييز بين النصر والهزيمة. ففي أعقاب هذه المعارك يرقد الزملاء المصابون بالإعياء والتعب مترددين في الانضمام إلى الحملات التالية، ويتفاقم الشعور بالاحتراق الوظيفي.

وبدلاً من محاولة إنهاء المشاريع بأي ثمن، قد تحتاج إلى تقليل خسائرك والسماح لنفسك بالتخلي عن بعض المشاريع. وإذا كنت تشك في انخراطك في معركة خاسرة لا محالة، أو كنتَ تعمل على أولويات الأمس، فاسأل نفسك: 1) هل لا يزال هذا المشروع مناسباً في ظل التغيُّرات التي تشهدها بيئة العمل أو السوق بشكل عام؟ 2) هل لا يزال هذا المشروع مهماً للمؤسسة وقادتها؟ 3) هل سنعجز عن النجاح في هذا الأمر، حتى لو لم نستطع إنهاء المشروع الحالي؟ إذا كانت إجابات هذه الأسئلة هي “لا”، فقد حان الوقت للتخلي عنه. لكن لا تتخلّ عن العمل دون الحصول على تصريح من قائدك (أو قادتك) أو أصحاب المصالح، وتأكد من إخبارهم بما ستفعله بدلاً من ذلك لتوفير قيمة أكبر، أو دعهم يوجهوك حينما تنتقل إلى مشروع ذي أولوية أعلى.

قد يبدو عملنا حتمياً ومرهقاً في الوقت نفسه، سواء كنا نعني العمل الحقيقي أو عبء العمل الوهمي. وقد أثبتت ظاهرة “الاستقالة الكبرى” بكل تأكيد أن التوتر والاحتراق الوظيفي يمكن أن ينتشرا كالنار في الهشيم ويصيبا قطاعات كبيرة من قوة العمل. وعلى الرغم من ذلك، فإن الاحتراق الوظيفي ليس أمراً حتمياً. ويُعتبَر تقديم (وتلقي) المكافأة والتقدير اللذين تشتد الحاجة إليهما بداية جيدة، ولكن قد لا يتمثّل الحل في تقليل مقدار العمل نفسه، وقد يتطلب الأمر مزيداً من القدرة على التحكم وتحقيق تأثير أكبر في العمل الذي نؤديه. فنحن بحاجة إلى النظر إلى ما وراء موقع مكان العمل وزمانه والتركيز على طبيعة العمل وأسبابه. وعندما نزيد من أثرنا في كل ساعة عمل، يمكننا إذكاء شعلة الحماس في قلوبنا. وعندما يكون العمل تجربة تراكمية، وليست تجربة تصيبنا بالاحتراق الوظيفي، سنشعر بالرضا الوظيفي والعمل الهادف الذي يغذي أرواحنا.