لماذا يعتبر اتجاه جوجل إلى تكنولوجيا معلومات المرضى خطوة كبيرة؟

5 دقيقة
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تعتبر الاتفاقية التي عُقدت مؤخراً بين شركتي “جوجل” و”أسنشن” (Ascension) – صاحبة المنظومة الضخمة للخدمات الصحية الوطنية بالولايات المتحدة – علامة أخرى على دور الثورة الرقمية في تطوير مجال الرعاية الصحية. نحن على أعتاب حقبة جديدة سيصبح بمقدور الأطباء فيها أن يطبقوا بشكل فوري التجربة البشرية الجمعية في علاج أي مرض من أجل رعاية كل مريض مصاب بالحالة المرضية نفسها.

بموجب هذه الاتفاقية، سترسل “أسنشن” إلى خدمات “جوجل” السحابية البيانات الصحية التي تجمعها عن مرضاها البالغ عددهم 50 مليوناً، ومن ثم تقوم “جوجل” بمعالجة تلك البيانات لمساعدة “أسنشن” على إدارة مرضاها ومواردها المالية بشكل أفضل. إلا أن ردود الأفعال المستنكرة للاتفاقية تؤكد بوضوح أن تغييراً بهذه الضخامة لن يتحقق أبداً بسلاسة. فقد أثار الإعلان عن الاتفاقية مخاوف بشأن خصوصية المرضى وإساءة استخدام المعلومات لصالح أطراف ثالثة تحقق منها مكاسب خاصة. أدى هذا إلى فتح تحقيق من جانب وزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأميركية، وصدور مطالبات من أعضاء الكونغرس الأميركي لإجراء مزيد من الاستجوابات. نحن بلا ريب على وشك خوض ما يمكن أن تكون معركة مصيرية وشرسة وطويلة حول كيفية إدارة المعلومات الصحية الشخصية في العصر الرقمي.

للمرضى حق لا يمكن إنكاره في حماية خصوصية بياناتهم الصحية الشخصية والسيطرة عليها. بينما يحتاج الأطباء والمستشفيات إلى قدر من الحرية لاستخدام معلومات المرضى الذين يتولون رعايتهم. إن المرضى والممارسين الصحيين والمجتمع ككل مهتمون بأن يتعلموا من خبرتنا الجمعية في مجال الرعاية كيفية الوقاية من الأمراض وعلاجها بشكل أفضل. كما يريد رواد الأعمال في قطاع التكنولوجيا عائداً على استثماراتهم عندما يضيفون قيمة إلى كيفية إدارة بيانات الرعاية الصحية. ستكون المعركة القادمة حول كيفية إدارة هذه المصالح المتضاربة أحياناً، خلال قيام تكنولوجيا المعلومات الصحية بتطوير منظومتنا للرعاية الصحية.

إذا تجاهلنا الأمور القانونية لوهلة، ففيما يلي العناصر الأساسية التي تقوم عليها العلاقة بين “جوجل” و”أسنشن”: تمتلك “أسنشن” أطناناً هائلة من البيانات التي جمعتها خلال رعايتها ملايين المرضى الذين يدخلون منشآتها. كان من المعتاد حفظ تلك البيانات في سجلات ورقية يجب نقلها يدوياً واسترجاعها بمشقة لخدمة أي غرض بخلاف رعاية مريض بعينه في مكان معين ووقت معين. ونتيجة تبني نظام السجلات الصحية الإلكترونية على مستوى شبه عالمي خلال العقد الماضي، أصبحت كل تلك المعلومات مخزنة الآن في صورة إلكترونية يمكن أن تنتقل فوراً إلى أي مكان يحتاجها ويستفيد منها، بشرط حماية خصوصية المرضى.

يحقق هذا فوائد فورية عديدة للمرضى. إحدى هذه الفوائد هي أن تاريخهم الشخصي يصبح متاحاً دوماً عند تلقيهم الرعاية في أحد مراكز “أسنشن” (وربما مراكز أخرى غيرها). وتتمثل فائدة ثانية في أن أطباء “أسنشن” وممرضيها يمكن أن يتعلموا من تجارب جميع مرضى “أسنشن” الذين يعانون من حالات مرضية مماثلة، خلال رعايتهم لمريض بعينه. وعن طريق تطبيق تقنيات البحث والذكاء الاصطناعي، قد تصبح “أسنشن” قادرة أيضاً بشكل فوري على حشد الدروس المستفادة من جميع الأبحاث العلمية لتطبيقها وفقاً لاحتياجات كل مريض. تلك الأبحاث بغاية الضخامة لدرجة أن حتى أكثر الأطباء خبرة وتخصصاً يواجهون صعوبة في مواكبتها. كما يمكن أن تفيد خبرات “أسنشن” الأبحاث الطبية على نطاق أوسع.

يكمن التحدي في أن تطبيق هذه الاستخدامات المبتكرة للبيانات الإلكترونية يتطلب مجموعة متنوعة من المهارات المعلوماتية والتحليلية والبحثية التي لا تتمتع بها غالبية الأنظمة الصحية. أحد الحلول المنطقية هو لجوء مؤسسات الرعاية الصحية مثل “أسنشن” إلى الشراكة مع أطراف ثالثة تتحلى بالإمكانات اللازمة. وهنا يأتي دور “جوجل”. فهي تتمتع بمهارات تكنولوجيا المعلومات – بما في ذلك مجال الذكاء الاصطناعي – التي لا يمكن أن تجاريها “أسنشن” فيها.  كما أن “جوجل” عكفت على الاستئثار بالقادة والباحثين المشهورين على المستوى الوطني في مجال الرعاية لتنشئ قاعدة قوية في مجال المعلوماتية والأبحاث المتعلقة بالرعاية الصحية.

و”جوجل” ليست وحدها في هذا الشأن. فقد دخلت منصة “واتسون” التابعة لشركة “آي بي إم” هذا المجال منذ بعض الوقت. ويبدو أن شركتي “أمازون” و“آبل” تسيران على الدرب نفسه. كما أن هناك أفواجاً من الشركات الناشئة التي تبحث عن كل فرصة لإضافة قيمة إلى مجال الرعاية الصحية عن طريق التنقيب في بيانات المرضى. حين يدخل قطاع الرعاية الصحية – الذي يمثل 18% من اقتصاد الولايات المتحدة – العصر الرقمي فجأة، جالباً معه كميات هائلة بشكل غير معقول من البيانات المخزنة غير المستغلة، تصبح الفرص المتاحة أمام قطاع الأعمال مهولة. يُشاع أن “جوجل” لن تتقاضي أجراً من “أسنشن” عن خدماتها، لكن من المحتمل أن يكون ذلك بسبب الطبيعة الاستكشافية للعمل الذي ستقوم به “جوجل” في هذه المرحلة من مجال معلوماتية الرعاية الصحية النامي. بيد أن المستهلكين في المستقبل لن يكونوا بمثل هذا الحظ.

لا يمكن بالطبع تنحية الأمور القانونية جانباً لوقت طويل. من المحتمل أن تكشف الصفقة بين “جوجل” و”أسنشن” المعلومات الصحية الشخصية لملايين من مرضى “أسنشن” أمام موظفي “جوجل”. ألا ينتهك هذا قانون إخضاع التأمين الصحي لقابلية النقل والمحاسبة لعام 1996، والمتعلق بحماية الخصوصية الصحية للمرضى؟ عادة ما يهاجم مقدمو الرعاية الصحية هذا القانون باعتباره قانوناً صارماً ومتعنتاً يحول تماماً دون قدرتهم على مشاركة معلومات المرضى مع بعضهم البعض أو حتى مع المرضى أنفسهم ومع أسرهم.

في الواقع، على الرغم من سمعة هذا القانون المخيفة، فإنه مليء بالثغرات القانونية، وعلى الأرجح أن المحامين في “جوجل” و”أسنشن” قد وجدوا ثغرة مناسبة في هذا القانون لدعم اتفاقيتهم. إحدى هذه الثغرات أن مقدمي الرعاية الصحية الخاضعين لهذا القانون – أو ما يسمى الكيانات المشمولة بقانون الخصوصية الصحية – يحق لهم مشاركة المعلومات الصحية الشخصية دون موافقة المريض لثلاثة أسباب رئيسة: العلاج والمطالبات المالية والعمليات التشغيلية.

يُقصد بالعلاج أنه يحق للأطباء مناقشة الأمور المتعلقة بمرضاهم مع أطباء معالجين آخرين دون الحصول على موافقة المرضى في كل مرة. دون هذه المرونة، سيصبح الأطباء مقيدين تماماً في قدرتهم على استشارة زملائهم لمصلحة مرضاهم المشتركين. أما المطالبات المالية فتعني أنه يحق لمقدمي الرعاية استخدام المعلومات الصحية الشخصية كي يتقاضوا أجرهم من شركات التأمين. بينما يُقصد بالعمليات التشغيلية أنه يحق لمقدمي الرعاية استخدام المعلومات الصحية الشخصية للوفاء بالاحتياجات التشغيلية الحيوية في مؤسساتهم، بما في ذلك تحسين جودة وسلامة الرعاية التي يقدمونها. حين تلجأ جهة مشمولة بالقانون إلى طرف ثالث لتحقيق أي من هذه الأهداف، تصبح هذه الجهة الخارجية شريكاً تجارياً ويجب أن تلتزم هي أيضاً بلوائح قانون الخصوصية الصحية.

إن أنشطة إدارة البيانات التي ستنفذها “جوجل” لصالح “أسنشن” قد ينطبق عليها تماماً هدف تلبية الاحتياجات التشغيلية لـ “أسنشن” لتحسين جودة الرعاية التي تقدمها، ويمكن اعتبار “جوجل” بهذه الصفة شريكاً تجارياً. بمقتضى هذا التفسير، يمكن أن تصبح مشاركة بيانات المرضى دون موافقتهم أمراً قانونياً بموجب قانون الخصوصية الصحية. وتعكف وزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأميركية – التي تفرض هذا القانون – على دراسة هذه العلاقة للتأكد ما إن كانت تلتزم بمتطلبات قانون الخصوصية الصحية.

ومع ذلك، حتى لو اتضح أن هذه العلاقة قانونية من الناحية الفنية، فإنها تثير قضايا تشريعية مُعلَّقة بالغة الأهمية. إذ لم يتوقع أبداً المشرعون الذين صاغوا قانون حماية الخصوصية الصحية الدور الذي ستمارسه الإنترنت أو عمالقة التكنولوجيا مثل “جوجل” و”آبل” أو مهارة قراصنة المعلومات الذين يبدو أنهم قادرون على اختراق أكثر نظم البيانات تأميناً إذا أرادوا. إن مشاركة سجل ورقي قديم ومترب مع جهة خارجية يختلف تماماً عن إرسال نسخ إلكترونية عبر النظام السحابي، حيث يمكن أن تتعرض للقرصنة من أي مكان على كوكب الأرض، على الرغم من كل جهود الطرف الثالث. على الأرجح لم يعد قانون حماية الخصوصية الصحية كافياً لطمأنة المرضى بأن بياناتهم الصحية الإلكترونية محمية بشكل كاف.

هناك مسألة أخرى تتعلق بحقوق المنفعة التجارية التي من المتوقع أن تتحقق نتيجة التعاون بين مؤسسات الرعاية الصحية وشركات تكنولوجيا المعلومات. على الأرجح سوف تثمر هذه الشراكات عن أعداد هائلة من حقوق الملكية الفكرية التي ستُباع بشكل مربح دون معلومات المريض (كالخوارزميات والبرمجيات) إلى مقدمي رعاية صحية آخرين، بل وحتى إلى شركات أخرى تطور منتجات الرعاية الصحية وتسوقها (كشركات الأدوية والأجهزة الطبية والخطط الصحية). ومع ذلك، ففي نهاية المطاف سوف تنتج هذه الأرباح من المعلومات الصحية الشخصية لملايين المرضى الذين على الأرجح لن تكون لديهم أدنى فكرة بكيفية استخدام بياناتهم. هل ينبغي منحهم الفرصة للموافقة على هذه الاستخدامات التجارية لبياناتهم؟ هل ينبغي أن يكون لهم نصيب ولو ضئيل في المكاسب؟

يجب علينا الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها لتحقيق المنافع الفردية والمجتمعية لثورة المعلومات الصحية، كما سيتعين علينا فرز المصالح ووجهات النظر العديدة المتضاربة التي تنشأ عند كل نقطة تحول في تاريخ البشرية.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .