إذا أردت قيادة عملية الابتكار بنجاح فعليك التعلّم من مشروع “جوجل برين”

6 دقائق
مشروع غوغل برين
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تدمج شركة “آبل” بين التقنية والتصميم. أما شركة “آي بي إم” فتستثمر في أبحاث تسبق عهدها بعشر سنوات. وشركة “فيسبوك” تتحرك بسرعة وتحافظ على بنية ثابتة (ولم تعد تعاني من أي خلل الآن). فماذا عن مشروع “جوجل برين”؟

كل واحدة من هذه الشركات تعد رائدة في مجال الابتكار، كل بطريقتها الخاصة. ولكن الأمر الذي يجعل شركة “جوجل” (المعروفة رسمياً الآن باسم “ألفابت”) مختلفة عن سواها هو أنها لا تعتمد على استراتيجية ابتكار واحدة، ولكنها تستخدم مجموعة من الاستراتيجيات لتخلق نظام ابتكار دقيق وفعال في آن معاً ويبدو أنه بالفعل يولد عشرات الابتكارات.

إن “جوجل” شركة ضخمة بلا شك، تبلغ عائداتها 75 مليار دولار أميركي، ويعمل فيها أكثر من 60 ألف موظف، ولها نطاق واسع ومذهل من المنتجات، ابتداء من محركات البحث وصولاً إلى أنظمة تشغيل الأندرويد بالإضافة إلى أعمال في مجالات ناشئة كالسيارات ذاتية القيادة. ومن أجل التوصل إلى فهم أفضل لعمليات الابتكار في “جوجل” ألقيت نظرة عن كثب على ما تفعله الشركة في مجال “التعلم العميق” وهو شكل معقد بجنون من الذكاء الاصطناعي يساعد الآلات على اكتساب المعلومات والتصرف بناء عليها تماماً كما يفعل الإنسان.

استراتيجيات “التعلم العميق” في شركة “جوجل”

الالتزام الصارم بالبحث العلمي

كأي أمر تقوم به “جوجل”، فإن مبادرة التعلم العميق تعود إلى الالتزام الواضح لدى الشركة بممارسات البحث العلمي. فروح الاكتشاف باتت جزءاً أساسياً من روح العمل في الشركة. بدأت شركة “جوجل” أصلاً من مشروع بحثي أجراه سيرجي برين ولاري بيج لوضع تصنيف للشبكة بتمويل من “مؤسسة العلوم الوطنية الأميركية” (NSF). ويبدو أن هذا الشغف بالبحث العلمي لم ينقطع ولا تزال “جوجل” تستثمر مليارات الدولارات كل عام في مجال الأبحاث والتطوير.

ولكن هذا لا يكفي للوقوف على حقيقة ما يجري في الشركة. فـ “جوجل” تشتري باستمرار شركات ناشئة صغيرة، كثير منها تأسس بالاعتماد على أبحاث أكاديمية، كما أن الشركة تضخ استثمارات في عشرات الشركات الأخرى وذلك عبر صندوق رأس المال الاستثماري في الشركة. (جدير بالذكر هنا أن شركة “ديب مايند تكنولوجيز” (Deep Mind)، التي استحوذت عليها “جوجل” مؤخراً، قد تمكنت من إلحاق الهزيمة بلي سيدول البطل الأسطورة في لعبة Go World).

أما الطريقة الأخرى التي تحدد بها الشركة الابتكارات العلمية وتصل إليها فتكون عبر الشراكة الفاعلة مع مجتمع البحث العلمي. فالشركة تمول 250 مشروع بحث أكاديمي كل عام، وتنشر نتائج هذه الأبحاث في قواعد بيانات عامة مثل (arXiv)، بالإضافة إلى موقع نشر الأبحاث الخاص بها. كما تدعو الشركة 30 عالماً متميزاً كل سنة لقضاء الإجازة الأكاديمية في “جوجل”.

وكثيراً ما يقرر باحثون متفوقون البقاء في الشركة، حيث توفر “جوجل” لهم بيئة بحثية فريدة ويكون بين أيديهم قواعد بيانات لا مثيل لها، وذلك في أفضل بيئة حاسوبية في العالم، وكل ذلك مع فرصة للاستمرار في نشر الأبحاث، وهكذا صارت “جوجل” بيئة جاذبة لأفضل العلماء والباحثين، ومنهم على سبيل المثال أندور إنغ، وهو باحث مميز في مجال الذكاء الصناعي، وكان قد حل في “جوجل” أول مرة عام 2010.

الابتكار من الأدنى للأعلى

لدى وصول أندرو إلى “جوجل” شكّل بسرعة فريقاً مع باحثين آخرين هما كريغ كورادو وجيف دين وكانا مهتمين أيضاً بشكل جديد من الذكاء الصناعي يدعى التعلّم العميق. وسرعان ما شرع الباحثون الثلاثة بالعمل سويّة كجزء من العشرين بالمائة من وقتهم، وذلك حسب التقليد السائد في الشركة لتشجيع الموظفين للعمل على المشاريع التي تثير اهتمامهم. والحقيقة أن بعض أهم منتجات “جوجل” مثل البريد الإلكتروني (Gmail) وأخبار “جوجل”، وأداة (Adsense) قد ابتكرت في مشاريع ضمن فترة العشرين بالمائة هذه، علماً أن الذين عملوا على هذه المشاريع كانوا يفكرون بأمر آخر. فهم لم يكونوا مهتمين بتطوير منتجات جديدة، وإنما كانوا راغبين في توسيع حدود الممكن لديهم.

ولنفهم ما الذي كانوا يسعون إليه، يجدر بنا أن نعلم شيئاً عن طريقة عمل الدماغ. حين ترى صديقك عبر مقهى مزدحم بالناس، يبدو لك الأمر كأنه حدث منفرد، ولكنه في الواقع ليس كذلك. فالأجزاء المختلفة من الدماغ تعالج جوانب مختلفة من التجربة، كالألوان والأشكال، وتدمج بين ذلك في مفاهيم أكبر، مثل الوجه البشري وتسريحة الشعر، أو أسلوب تصميم مصمم شهير.

ويطلق العلماء على هذه الجوانب المختلفة “مستويات التجريد”، في المقابل، تعمل أجهزة الكمبيوتر عادة بطريقة خطية، لذا فإنه من الصعب أن تتعامل مع مستويات متعددة من التجريد. ولكن رأى فريق الباحثين الثلاثة إمكانية تحسين هذا الجانب في أجهزة الكمبيوتر، فزادوا هرم مستويات التجريد إلى 20 أو 20 مستوىً، مما يعزز القدرة على التعلم العميق على مستوى الآلة بشكل أفضل مما كان عليه في السابق.

حاضنة داخلية

كان التطوير يجري منذ فترة طويلة. أخبرني كورادو: “كي تتعلم الشبكة، فإنك تحتاج إلى بيانات، و”جوجل” تمتلك الكثير الكثير من البيانات. العنصر الآخر هو تقنيات الحوسبة فائقة السرعة، وقد ساعدتنا تقنيات “جوجل” في الحوسبة المقسّمة في ذلك كثيراً. ولذلك كنا قادرين على إحراز التقدم بسرعة هائلة في مجال تعلم الآلات”.

وبعد انقضاء 18 شهراً على البدء في المشروع، انتقل الفريق للعمل على المشروع في “جوجل إكس”، أي قسم الأبحاث الداخلية في الشركة. وقد تمكّن أعضاء الفريق هناك من تكريس وقتهم في العمل على فكرة التعلم العميق، كما كانت لديهم فرصة تعيين خمسة أو ستة خبراء ومهندسين آخرين يحملون شهادات دكتوراه في مجالات الرياضيات وعلوم الأعصاب وعلم الكمبيوتر.

يقول كورادو: “لقد كان الوقت الذي قضيناه في فترة “الحضانة” في “جوجل إكس” مرحلة لا غنى عنها. لقد كان بإمكاننا العمل هناك على تطوير تقنية بعينها دون أن نكون منشغلين بمنتج ما. وبينما كنا في البداية ثلاثة أشخاص نعمل على المشروع بشكل جزئي، فقد صرنا الآن ثمانية أو تسعة نعمل طوال الوقت على فكرة واحدة. هذا هو الحجم المثالي للتحرك بسرعة كبيرة. لقد كنا في البداية أشبه بشركة ناشئة تتمتع بمصادر هائلة كالتي لدينا هنا”.

وكانت نتيجة البقاء في هذه البيئة الحاضنة للتوصل إلى منتج حقيقي يدعى (DistBelief). لقد صار هذا المنتج نظام تعلّم الآلات من الجيل الأول. ولم يمض الكثير من الوقت حتى ضُمّن هذا النظام في العديد من منتجات “جوجل”، مثل خرائط “جوجل” و”جوجل” ترجمة وحتى في “يوتيوب” (لمساعدة المستخدم في العثور على ما يبحث عنه).

الابتكار كنشاط مركزي

في العام 2012 “تخرّج” فريق العمل من “جوجل إكس”، وهو القسم الذي أعيدت تسميته ليصبح “جوجل برين” (دماغ غوغل)، والذي نما في حجمه ليضم مئات الباحثين، ومنهم الآن جيفري هينتون، وهو أحد عمالقة الباحثين في مجال التعلم العميق، والذي انضم إلى الفريق في عام 2013. كما تم تطوير نسخة محدثة من (DistBelief) تدعى (TensorFlow) والتي صارت ضمن المصادر الحرّة بموجب ترخيص من فئة “أباتشي”.

وقد صار فريق “جوجل برين” اليوم جزءاً أساسياً من نظام بيئة الابتكار التي شكّلته. فالفريق يعمل بشكل فعال مع “العملاء” الداخليين من فرق العمل داخل “جوجل” وذلك لجعل التعلم العميق أساساً في كل ما تفعله الشركة. ويمكن لأي فرد داخل “جوجل” تقريباً استخدام (Tensor Flow) لجعل منتج ما أكثر ذكاء وفعالية.

فقد مكّن هذا البرنامج أداة “جوجل صوت” (Google Voice) من البحث بشكل أسرع وأدق، حيث قلل نسبة الخطأ من 23% إلى 8% فقط، وقلل الوقت المستهلك في إتمام عملية البحث إلى ما يقارب ثلث الثانية. كما تم تخفيض نسبة الخطأ في البحث باستخدام الصور إلى الثلثين، وبإمكان المستخدمين الآن البحث عن صور غير مصنفة لأي شيء كان، كصور غروب الشمس أو صور أنواع معينة من فصائل الكلاب.

كما ساعد البرامج في إنتاج سمات جديدة، كخاصية “الرد الذكي” (Smart Reply) في خدمة البريد الإلكتروني في “جوجل”، والتي تقدم للمستخدم مقترحات مخصصة للرد على بعض الرسائل الواردة. كما صارت خدمة الترجمة في “جوجل” تغطي 100 مستخدم من قبل 99% من سكان المعمورة. وسيتوصل قسم “جوجل برين” إلى منتجات جديدة أخرى، وقد أثبت فعلاً أثره الضخم في تحسين القدرات الأساسية للشركة.

الحلقة المحكمة من التقييم

في معظم المؤسسات، يتم التعامل مع الابتكار بوصفه عملية خطيّة من البحث والتطوير والتجريب والتطبيق، بحيث تجري كل خطوة على حذة. ولكن في “جوجل”، نجد أن كل عملية ترتبط بحلقة محكمة من التقييم والمراجعة، حيث يعمل الباحثون وطاقم العمل على المنتجات معاً في تطوير المنتجات الجديدة وتحديد الجوانب التي يلزم القيام بالمزيد من الأبحاث فيها.

يقول كورادو: “إن الاقتراب من البيانات وتحديد الاحتياجات الحقيقية للمستخدمين يمنحك الفرصة للتوصل إلى المزيد من الابتكارات”. ويعمل كورادو بشكل فاعل مع أعضاء فريقه مع فرق عمل المنتجات ومع موظفي “جوجل” الآخرين الذي يعملون على مشاريع جزئية ضمن آلية العشرين بالمائة من وقت العمل. فهم ليسوا مجموعة من العباقرة المجانين الذين يعملون على تطوير أمور خرافية في مختبراتهم المعتمة، بل هم أفراد متعاونون ينخرطون مع بقية الموظفين في بقية الأقسام.

هكذا يعمل قسم “جوجل برين” ضمن نظام بيئة الابتكار في “جوجل”. فبرنامج (Tensor Flow) يوفر إمكانية الوصول إلى أدوات أساسية لتعلم الآلة، والتي تفتح أبواباً جديدة أمام مهندسي “جوجل” والذين يتواصلون بدورهم مع العلماء في “جوجل برين” ليطوروا منتجات وسمات جديدة. وهذا يخلق مجموعة غنية من القضايا والمشكلات ويساعد في كذلك في جذب باحثين مميزين جدد إلى “جوجل” ليستمروا أيضاً في تطوير تقنيات جديدة مذهلة.

إن الذي يمنح “جوجل” هذه الخصوصية هي تلك الطريقة في دمج مجموعة كاملة من استراتيجيات الابتكار في عملية واحدة متكاملة. فمدراء المنتجات يركزون على احتياجات العملاء، والباحثون يتناولون ما يتيح لهم العلم تناوله، والمهندسون يعملون على مشاريع جانبية خلال العشرين بالمائة من وقت عملهم ليحققوا شغفهم. ويمكن لأي شخص يحقق التميّز اتباع واحدة أو أكثر من هذه الأساليب.

وهذا الأمر يتطلب أكثر من فلسفة في الإدارة أو خط معتمد من العمليات، وإنما يتطلب روحاً حقيقية للاستكشاف تكون جزءاً لا يتجزأ من تكوين المؤسسة بأكملها، للوصول إلى مشروع يشابه مشروع “جوجل برين”.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .