لماذا تعتبر ظاهرة “الإرهاق من الأخبار” إيجابية؟

5 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ظهر في العالم مصطلح جديد اسمه “News Fatigue” أي “الإرهاق من الأخبار”. هل شعرت به؟ يمكنني توقع الإجابة؛ نعم بالتأكيد، فأنا متعب من الأخبار، وربما لم أتابع نشرة الأخبار منذ أسابيع أو أشهر.

لا تقلق كما ذكرت لك، فإن الوصول إلى حالة استنزاف من متابعة الأخبار، بات ظاهرة عالمية في السنوات الأخيرة. وفي الولايات المتحدة الأميركية على سبيل المثال كشفت دراسة أجراها مركز بي إي دبليو (PEW) للأبحاث في العام الماضي 2018 أن سبعة من كل عشرة أميركيين يشعرون بالإرهاق من الأخبار.

والسؤال التالي بالطبع؛ ما هو السبب؟

تشكلت هذه الظاهرة في السنوات الخمس الأخيرة، مع تزايد تدفق الأخبار بشكل عام ووصول المتلقي إلى حالة من الإحباط بسبب عدم القدرة على ملاحقتها واستيعابها، ويمكنك إلقاء نظرة الآن على موقع إنترنت لايف الذي يرصد عدد التدوينات والصور والفيديوهات والمعلومات التي تنشر على الإنترنت في كل لحظة حول العالم، لتكتشف أن تصور القدرة على متابعة كل ما ينشر أو حتى أفضل ما ينشر تكاد تصيب العقل بالجمود.

وهنالك سبب آخر للإرهاق من الأخبار، مرتبط بضخامة تدفقها، ألا وهو تزايد الأخبار الزائفة في عصر التواصل الاجتماعي ورسوخها بطريقة يصعب اقتلاعها أو حتى كشفها في كثير من الأحيان.

وإضافة لكل ما سبق، هنالك سبب متعلق بمحتوى الأخبار، بحسب ما تقول الأبحاث والدراسات وبحسب ما يشعر به كل منّا ربما؛ محتوى الأخبار التي باتت ملأى بالاستقطاب السياسي الحاد والحروب والمآسي ربما جعلت الكثيرين يصلون لحالة الإرهاق التي نتحدث عنها.

ولكن، هل وقف الأمر عند الشعور بـ “الإرهاق”؟ لقد تبع ذلك الشعور، تصرف عملي بات يسمى “News Avoidance” أي تجنب الأخبار. لقد اتخذ الكثيرون حول العالم قرارات بتجنب الأخبار، وبحسب دراسة ميدانية لمعهد رويترز عام 2017، فإن أكثر من 50% من سكان العالم باتوا يتجنبون الأخبار كلياً أو جزئياً.

واليوم تتسابق النظريات والاقتراحات من الخبراء لطرح البديل الذي يمكن أن يحل محل الأخبار ويعيد الارتباط مع جمهور الوسائل الإعلامية. تتحدث معظم الآراء عن صحافة العمق كبديل عن الأخبار. وأقل الاقتراحات في هذا المجال هو ما طرحته منصة (ما هو الجديد في النشر WNIP) في مقال اعتبر أن ما يسمى “نظم الأخبار” أو (News Curation) هو البديل عما يسمى “صناعة الأخبار” أو (News Creation)، والمعنى هو معالجة الأخبار وإعادة تنظيمها ضمن سياقات متعددة، منها استخلاص الأخبار الأكثر ملائمة لجمهور محدد من الكم الهائل من الأخبار التي تتدفق في كل ثانية، وهذا ما باتت تنتهجه معظم المنصات العالمية منها جوجل وفيسبوك وأغلب مواقع الصحف ووسائل الإعلام الكبرى، فإذا بحثت أنت وصديقك عن كلمة محددة على جوجل فستحصلان على نتائج مختلفة من حيث الترتيب والأولويات التي يقدمها لكل منكما محرك البحث العالمي. ذلك أن جوجل يبني خوارزمياته بناء على على ما يهم كلاً منكما، مستنداً إلى عدة مؤشرات تجمعها البيانات التي يجمعها، فهو يبنيها على ما قمتم به من عمليات بحث سابقة في موضوعات مشابهة، حيث يكون قد راقب اهتمامكم بالنتائج وفتح الروابط، إضافة إلى عوامل أخرى يعتقد فيها جوجل أنه يفهمك من خلالها، فيسصفي لك من ملايين وآلاف النتائج ما يناسبك.

ولأن هناك بشر أيضاً يعتقدون أنهم يفهمونك بشكل عملي أكثر من التكنولوجيا ومن خوارزميات جوجل، فقد ولدت وظيفة جديدة إلى الوجود في السنوات الأخيرة اسمها “ناظم محتوى” أو (Content Curator). وهذا المتخصص يقدم لك التقارير المستخلصة من الأخبار بطريقة تجميعية ذكية يعتقد أنها تناسب شريحة محددة من الجمهور أو الاختصاصات، ومن أنجح التجارب العالمية في نظم المحتوى بناء على الخبرة الإنسانية وباعتماد أقل على الخوارزميات -وقد لا تصدقون ذلك- لكنها (آبل نيوز). نعم، فقد أسست شركة آبل في السنوات الأخير قسماً للأخبار يتولى العمل فيه مجموعة من خيرة الصحفيين السابقين في وسائل الإعلام الأميركية البارزة، وهم ينتهجون منهج التحقق من الأخبار الرائجة بطريقة بشرية، ويعرضون للجمهور بحسب البلدان حزمة تضم أهم الأخبار الموثوقة.

وعلى صعيد مواز لهذا التوجه الذي ظهر لمواجهة الكم الكبير من الأخبار المتدفقة، ظهر أيضاً مذهب آخر كان هدفه معالجة قضية السرعة الهائلة بتدفق الأخبار والتي باتت تصيب المتابع بالدوار وتتستر تحت غطاء سرعتها الأخبار الزائفة التي تمر دون تحقق وتسجل نفسها كجزء من التاريخ دون أن تنال حقها من التحقق. وهنا ولد مصطلح “الصحافة المتأنية” أو (Slow Journalism)، حيث أعلنت شبكة بي بي سي عام 2017 عن إنشاء وحدة للأخبار المتأنية، وأوضح جيمس هاردينغ رئيس غرفة الأخبار لفريقه عند الإطلاق، أننا “لن نتمكن من التحقق من كل ما ينشر على الإنترنت، لكننا لن نقف مكتوفي الأيدي، وسنتحقق بهدوء من الأخبار والقصص الرائجة على وسائل التواصل الاجتماعي”، بعد أقل من عام يبدو أن هاردينغ وجد فكرة مربحة فقرر الانفصال عن بي بي سي وتأسيس منصة خاصة به مع عدد من الإعلاميين اسمها ترتيس ميديا، وهدفها كما تعلنه هذه الشبكة بوضوح هو “أخبار من نوع مختلف” تعتمد على استخلاص الأهم والمدقق من الأخبار وفلترتها على الرغم من السرعة والتزييف المحيطين بعالم الأخبار. والأهم في هذا النموذج الذي اتبعه هاردينغ، هو أن الأخبار ستكون للمشتركين فقط. إنه نموذج جديد للأعمال في عصر فوضى الأخبار والإرهاق منها، فإذا أردت خلاصة الأخبار والتقارير المهمة والتقارير الحصرية فعليك أن تدفع ثمنها، وهذا النموذج لا يختلف عما تدفعه لآبل وكل التطبيقات التي تقدم لك خدمات ومعلومات آمنة وخاصة. ويبقى بالطبع نموذج نيويورك تايمز في الصحافة هو الأبرز عالمياً في تحقيق الأرباح جراء هذا النموذج الذي طبقته الصحيفة منذ نحو عشر سنوات، وقد حقق مؤخراً أرباحاً تاريخية بلغت أكثر من 700 مليون دولار عام 2018 من اشتراكات القراء في النسخة الإلكترونية فقط، حيث قرر 4.3 مليون شخص حول العالم الاشتراك في نيويورك تايمز لتقدم لهم الأخبار والتقارير المتأنية المعمقة المدققة. كما انتشر هذا الاتجاه في العالم، عبر معظم الصحف والمنصات العالمية التي تعتمد المحتوى الأصيل والمعمق ومنها هارفارد بزنس ريفيو. وبحسب دراسة معهد رويترز الصادرة عام 2018، فإن الاشتراكات المدفوعة من قبل القراء للحصول على المحتوى الإلكتروني ارتفعت بشكل ملفت في العالم وخاصة لدى فئة الشباب و”خلافاً لما هو متوقع” كما يقول التقرير.

وهكذا فقد تحول “إرهاق الأخبار” إلى مشكلة للجمهور تسمى في علم التسويق “نقطة الألم”، ونقطة الألم للمستهلك أو الزبون هي فرصة لولادة نماذج أعمال جديدة، منها ما ظهر لمقاومة التدفق الكبير عبر نموذج “نظم الأخبار” ومنها لمواجهة السرعة والتزييف، عبر ولادة منصات الاشتراك والتحقق من الأخبار، ومنها أيضاً ما ظهر لمواجهة السلبية في الأخبار، ومن أبرز تجاربها في العالم منصة “الأخبار الإيجابية – Positive News” وهي عبارة عن منصة إلكترونية ومجلة مطبوعة تم تأسيسها بتعاون بين مجموعة من القراء، وبحسب ما توضحه هذه المنصة على موقعها الإلكتروني، فإن 1,500 شخص ( أعمارهم بين 18 و89 عاماً)، ينتمون إلى 33 دولة في العالم ساهموا في التبرع المادي لتأسيس هذه المنصة، والتي تهدف بحسب رسالة المنصة إلى التركيز على صحافة من نوع جديد هي الإيجابية والخطوات الصحيحة بدلاً من “الكآبة والعذاب” كما عبرت رسالة الموقع. ولم يكن هذا الموقع سوى واحداً من طفرة ظهرت في السنوات الأخيرة عالمياً وعربياً كرد على موجة الدم التي حملتها الأحداث والحروب التي شهدتها المنطقة.

لكن يبقى السؤال؟ هل نسينا شيئاً حينما قررنا التأني في الأخبار؟ هل يمكن أن يذهب ضحايا المعاناة أو الظلم أو الاعتداء بسبب قرارنا بالتأني في نشر الأخبار؟ الجواب هو “لا” بالتأكيد، فعلى الرغم من أن صحافة التأني ولدت بسبب التدفق السريع والهائل للأخبار، واندساس المزيف ضمن الحقيقي، فإن ظهور الأخبار المزيفة التي ساهمت بطغيانها وسائل التواصل الاجتماعي كانت بحد ذاتها نبأ ساراً بالنسبة لوسائل الإعلام المحترفة. وبحسب هذه الفكرة التي طرحتها هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي، فإن تدفق الأخبار الزائفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي وعلى يد شخصيات غير متخصصة، قد خلق الحاجة لعودة الإعلاميين المحترفين لتولي زمام الأخبار بحيث أصبحت الأخبار تصدر عن أشخاص ومؤسسات مسؤولة عن مصداقيتها. وما يزال اليوم صراع خفي قائم بين الإعلام الحقيقي وبين شخصيات خلقت حول نفسها أو خلقت حولها مؤسسات وحكومات هالة إعلامية، وذلك في محاولة للعبث بالتاريخ والحاضر وتشويه الحقائق.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .