العمل من التاسعة صباحاً إلى الخامسة مساء لن يحقق الأمان الوظيفي

7 دقائق
الأمان الوظيفي
دياموند سكاي إميدجيز/غيتي إميدجيز
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

ملخص: يُعد الأمان الوظيفي من أهم الأسباب التي تجعل العاملين يفضلون العمل التقليدي على العمل المستقل، لكن تراجع التصوُّر التقليدي حول مفهوم الأمان الوظيفي، إلى جانب إعادة تفكير العاملين فيما يريدونه من حيث تحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية، يدفع المزيد من الناس إلى إعطاء الأولوية للمرونة والاستقلالية والقدرة على التحكم عند اختيار المكان الذي سيعملون فيه. وقد أثبت أحدث البيانات أن النسبة المئوية للعاملين التقليديين بدوام كامل الذين يعتقدون أن العمل المستقل أكثر أماناً من العمل التقليدي قد ازداد بشكل ملحوظ خلال السنوات الأربع الماضية. وأدى هذا التحول الرامي إلى جذب أفضل المواهب واستبقائهم في حقبة ما بعد الجائحة إلى خلق ظروف جديدة توجب على أصحاب العمل منح موظفيهم الحرية والمرونة اللتين يتيحهما العمل المستقل.

 

بصفتنا باحثين نعمل على مدار 11 عاماً على سلسلة أبحاث بعنوان “دراسة حالة الاستقلالية” لصالح شركة “إم بي أو بارتنرز” (MBO Partners)، عكفنا على وضع مخطط بياني للنمو المتزايد لقوة العمل الأميركية المستقلة وملفاتهم التعريفية ورغباتهم واحتياجاتهم.  وتشمل قائمة هؤلاء العاملين كلاً من المستشارين الذين يعملون لحسابهم الخاص والعاملين المستقلين والمتعاقدين المستقلين والعاملين المؤقتين، وغيرهم ممن يعملون بشكل مستقل بدلاً من الحصول على وظائف تقليدية بدوام كامل. وقد لاحظنا مؤخراً شيئاً مثيراً للدهشة، وهو أن الغالبية العظمى من العاملين المستقلين تقول إن العمل المستقل أقل خطورة وأكثر أماناً من العمل التقليدي.

ولطالما كان الأمان الوظيفي إضافة إلى الدخل الثابت والمزايا الجذابة والطمأنينة والتقدم المهني المصاحب للوظائف الثابتة، أحد أهم عوامل الجذب الرئيسية للعمل بدوام كامل في الوظائف التقليدية. وينطوي العمل الحر، أو ما يُعرَف بالعمل المستقل، على عدد من المزايا والعيوب. فقد تحصل على قدر أكبر من الاستقلالية أو تتمتع بمزيد من الحرية لممارسة هواية تحبها أو عمل تستمتع به، لكنك ستفقد ميزة الراتب الثابت والصداقة الحميمة مع زملاء العمل والدعم الذي تقدمه الشركات الكبيرة والصغيرة.

وقد أجرينا استقصاءً عام 2021 شمل 6,240 عاملاً في الولايات المتحدة، منهم 928 عاملاً مستقلاً، وأجاب 68% من العاملين المستقلين بـ “نعم” على عبارة: “أشعر بمزيد من الأمان عندما أعمل بشكل مستقل”، بعد أن كانت نسبتهم لا تتجاوز 32% عام 2011 ونحو 53% عام 2019.

وإليك النتيجة المثيرة للاهتمام بحق: كنا نسأل العاملين بدوام كامل على مدى السنوات الأربع الماضية عمّا إذا كانوا يتفقون مع العبارة القائلة بأن العمل المستقل أقل خطورة من العمل الدائم. ووجدنا أن نسبة أصحاب الوظائف الذين قالوا “نعم” قد ارتفعت من 18% عام 2018 إلى 29% عام 2021. بعبارة أخرى، يقول 7 من كل 10 عاملين مستقلين و3 من كل 10 موظفين تقليديين إن العمل المستقل أكثر أماناً من العمل التقليدي.

من الواضح أيضاً أن العاملين، خاصة العاملين ذوي المهارات العالية والأجور الجيدة، يصوّتون لصالح هذا الرأي بقوة. وقد أفاد “مكتب إحصاءات العمل” بأن ما يقرب من 4.3 ملايين أميركي استقالوا من وظائفهم في شهر يناير/كانون الثاني من عام 2022 وحده. وفضّل الكثيرون ممن استقالوا من وظائفهم اللجوء إلى العمل المستقل. ووفقاً لدراسة أجرتها شركة “ماكنزي”، فإن “31% من الموظفين الذين استقالوا من وظائفهم خلال الأشهر الستة الماضية أقدموا على اتخاذ هذه الخطوة لإنشاء عمل تجاري جديد”.

ويأتي هذا التحول نتيجة للاتجاهات التالية التي تتصف بالقوة وطول الأمد في كلٍّ من أماكن العمل التقليدية والمستقلة، وهي الاتجاهات التي برزت بوضوح خلال الجائحة.

تراجع الأمان الوظيفي في الوظائف الثابتة

يرى الكثير من العاملين ببساطة أن الوظائف التقليدية باتت غير مقنعة كما كانت في الماضي، وذلك لسبب وجيه. فقد تواصل انخفاض نمو الأجور والمزايا المقدَّمة للموظفين في الشركات على مدى العقود القليلة الماضية. وقد أظهر “مؤشر جودة الوظائف في القطاع الخاص في الولايات المتحدة”، الذي يقارن بين نسبة الوظائف ذات الأجور المرتفعة والساعات الأعلى أجراً والوظائف ذات الأجور المنخفضة وعدد الساعات الأقل أجراً، ثبات معدلات انخفاض جودة الوظائف في الأعوام الثلاثين الماضية.  بالإضافة إلى ذلك، فقد أدى انتشار تكنولوجيا المعلومات إلى طمس الخطوط الفاصلة بين الحياة المنزلية والعملية وازدياد زمن الكثير من الوظائف التي كانت تبدأ من التاسعة صباحاً وتنتهي في الخامسة مساءً ليصير أقرب إلى العمل على مدار الساعة طوال أيام في الأسبوع.

من الواضح أن الأمان الوظيفي يتعرض لتعديات جسيمة. فقد باتت عمليات إعادة هيكلة الشركات وتسريح العاملين أمراً شائعاً، حتى في أوقات الانتعاش الاقتصادي. وعندما يتعرض الاقتصاد لأزمة ما، فإن أول ما تلجأ إليه الشركات هو تقليص الوظائف وتسريح العاملين. فخلال فترة الركود الاقتصادي الكبير، بين عامي 2007 و2010، تم التخلُّص من 8.7 ملايين وظيفة ثابتة، ولم تعد إلى ذروة ما قبل الركود حتى مايو/أيار 2014. وعندما وقعت جائحة “كوفيد-19″، كان تأثيرها على الوظائف الثابتة شديداً. فقد تخلَّص أصحاب العمل في الولايات المتحدة مما يقرب من 22 مليون وظيفة، بنسبة 14.4% من إجمالي الوظائف، كل ذلك خلال شهرين فقط.

تزايد ثقة العاملين المستقلين بأنفسهم

أصبح العمل المستقل في الوقت نفسه قاعدة عامة في الاقتصاد الأميركي. ووفقاً لتقرير “حالة الاستقلالية” لعام 2021، فقد ارتفع عدد العاملين المستقلين بشكل مطرد خلال العقد الماضي، ليصل عددهم إلى 51 مليون عامل مستقل بدوام كامل وبدوام جزئي في عام 2021. فقد أسهمت التكنولوجيا، خاصة الإنترنت، في تسهيل إدارة الأعمال التجارية المستقلة أو عمل الأفراد كمتعاقدين مستقلين. وقد ظهرت المنصات والبرمجيات وغيرها من الخدمات الشبيهة لتخفيف الأعباء وتقديم الدعم. كما أن “قانون الرعاية الميسورة التكلفة” الذي تم إقراره عام 2010 قد أسهم في رخص أسعار التأمين الصحي وسهولة الحصول عليه من قبل العاملين لحسابهم الخاص، وهو أهم الأسباب التي كانت تثير قلق معظم أصحاب الوظائف التقليدية.

وهناك عامل آخر في العمل: أن الإنسان يساير مستجدات الحياة؛ أي كلما زاد عدد الأشخاص الذين يؤدون أي نشاط، يرى الآخرون أن بمقدورهم فعل الشيء ذاته. ونظراً لأن العمل المستقل أصبح أكثر شيوعاً في الآونة الأخيرة، فقد ازداد عدد أصحاب العمل الذين يشعرون بالراحة في التعامل مع العاملين المستقلين، وباتت نسبة أكبر من عامة الناس تعرف الأشخاص الذين يسلكون هذا المسلك. وقد اتضح من خلال البيانات المستقاة من “دراسة حالة الاستقلالية” لعام 2018 أن 29% من العاملين المستقلين و25% من الموظفين التقليديين قالوا إن عدداً أكبر من أصدقائهم يعملون لحسابهم الخاص أو ينشؤون أعمالهم الخاصة مقارنة بما كان يحدث في الماضي. وقد قدّم 42% من العاملين المستقلين و38% من العاملين التقليديين الذين شملهم الاستطلاع هذه الاستجابة في العام الماضي.

وفي حين أن العمل المستقل قد لا يوفر راتباً ثابتاً أو إجازات مرضية، فإنه يتيح بعض المزايا الخاصة التي توفّر الشعور بالأمان. حيث يعتقد الكثير من العاملين المستقلين أن وجود مصادر دخل متعددة، بسبب تعدُّد العملاء وتنوُّع مصادر التدفقات النقدية.. إلخ، يوفر مستوى أعلى من الأمان مقارنةً بالاعتماد على صاحب عمل واحد. وهناك أبعاد متعددة للأمان. وحينما يتحمّل العاملون المستقلون مسؤولية حياتهم العملية، فإن هذا سيسمح لهم بالتكيف مع التقلبات الاقتصادية بدلاً من الخضوع لأهواء المدراء وأصحاب العمل.

الجائحة كعامل مُسرِّع

أدت جائحة “كوفيد-19” إلى زيادة التوترات المتأصلة في الاعتماد على الوظائف الثابتة وتسريع الاتجاه نحو العمل المستقل لدى الأشخاص الراغبين في الحصول على مستويات أعلى من المرونة في مواعيد العمل والاستقلالية والقدرة على التحكم.

وأدت تجربة “كوفيد-19” بكل تداعياتها الساحقة والشاملة في كثير من الأحيان إلى تحفيز الرغبة في إعادة النظر كلياً فيما يريده الأفراد من العمل وما يحتاجونه منه، أو ما إذا كانوا يريدون أداءه من الأساس. على سبيل المثال، تُظهر “حركة الإنسان يعيش مرة واحدة” (YOLO)، وحركة “ريديت” (Reddit) المناهضة للعمل، وحركة “تانغ بينغ” (Tangping) الصينية التي تعني “الاستلقاء على الظهر” المناهضة للعمل، أن هناك دافعاً عالمياً متعدد الأبعاد يدفع الناس بعيداً عن الوظائف الثابتة التقليدية.

وقد أعرب الكثيرون عن تزايد رغبتهم في العثور على عمل يعكس قيمهم ويلائم شغفهم. وأدرك آخرون أنهم لا يريدون التنقل لمسافات طويلة أو التقيد بالمقرات المكتبية. وقد أتاح التوسُّع في إعانات البطالة فرصة هائلة أمام الكثيرين ومنحهم القدرة على أن يكونوا أكثر انتقائية بشأن الوظائف التي يختارون العمل بها. كما أدى ارتفاع معدلات الوفيات والتقاعد المبكر واستمرار أزمة رعاية الأطفال إلى تقليل مشبكة مرشحي الوظائف المتاحين للعمل بدوام كامل في الوظائف التقليدية. أسهمت كل هذه العوامل مجتمعة في تعزيز القدرات التفاوضية للعاملين ومنحهم الأدوات التمكينية اللازمة، ليس هذا فحسب، لكنها أدت أيضاً إلى زيادة جاذبية العمل المستقل.

ما الذي يجب على الشركات فعله إذا!؟

ينبغي ألا نتوقع العودة السريعة إلى الوضع الراهن، حتى مع انحسار تداعيات الجائحة.

ما الذي يجب أن تفعله الشركات، إذاً، في إطار مساعيها الجادة لتوظيف العاملين واستبقائهم؟ من الواضح أنها بحاجة إلى جعل العمل بدوام كامل في الوظائف التقليدية أكثر جاذبية وأكثر أماناً. صحيحٌ أن الكثيرين من أصحاب العمل في وضع يسمح لهم بتوفير دخل ثابت وتقديم مزايا أفضل مما يتحصّل عليه العاملون لحسابهم الخاص، لكن هذه المزايا ليست مطلقة. فإذا كان لدى العاملين تصور مختلف حول مفهوم الأمان الوظيفي وكيفية الحصول عليه، فإن الشركات بحاجة إلى توفير السمات الإيجابية التي تجذب العاملين المستقلين إلى العمل الحر.

وسنستعرض هنا 4 اقتراحات رئيسية في هذا السياق:

وفِّر للموظفين مستويات أعلى من الاستقلالية والقدرة على التحكم والمرونة في مواعيد العمل

يجب أن تسعى الشركات جاهدة لمنح الموظفين مزيداً من القدرة على التحكم في الحدود الفاصلة بين العمل والحياة الشخصية من جهة والعمل ونمط الحياة من جهة أخرى. وهذا يشمل السماح بمزيد من خيارات العمل عن بُعد، وهو شيء يريده معظم العاملين بالمناسبة، بالإضافة إلى غيره من أشكال المرونة، وفقاً لدراسة أجراها “مركز بيو للأبحاث” مؤخراً. يجب على أصحاب العمل أيضاً منح موظفيهم المزيد من الأدوات التمكينية والقدرة على التحكم في كيفية أدائهم لعملهم.

أظهر أنك تقدّر إسهامات الموظفين

وفقاً لمقالة “ماكنزي” الأخيرة، فإن “الرواتب والمكافآت والمزايا لم تكن ضمن الأسباب الثلاثة الأولى التي ساقها الموظفون باعتبارها أهم دواعي ترك وظائفهم خلال الأشهر الستة الماضية. لكنهم أشاروا إلى الأسباب التالية: عدم شعورهم بالتقدير من قبل المؤسسة (54%) أو مدرائهم (52%) وافتقارهم إلى الشعور بالانتماء (51%)”.

وبالمثل، فعندما سألنا العاملين المستقلين في استقصائنا عن سبب رضاهم عن عملهم، لم يدخل المال ضمن قائمة الأسباب بصورة مباشرة. وتمثّل ثالث الردود الأكثر شيوعاً في العبارة التالية: “تقدير زبائني/عملائي لجودة عملي”. (وتمثل أول سببين في العبارتين التاليتين: “لدي عمل مثير للاهتمام” و”مرونة مواعيد العمل والقدرة على التحكم”).

وفر فرصاً في أثناء العمل للتطوّر والتعلم والعمل في مجالات جديدة

أفاد العاملون المستقلون أنهم يقدّرون تنوع المهمات التي يؤدونها والفرص التي تتاح أمامهم لاكتساب مهارات جديدة. وسيؤدي تحسين حركة تنقلات الموظفين داخل الشركة إلى زيادة فرص جذبهم زيادةً هائلة. ويعتبر توفير الإعارات الداخلية الشبيهة بالأعمال المستقلة للموظفين، وتكليفهم بمهمات مؤقتة وإنشاء ما يشبه أسواق العمل الداخلية وتنظيم سباقات بين فرق العمل للتنافس على إنجاز مشاريع محددة، بمثابة طرق يمكن للشركات العريقة استغلالها لتوفر لموظفيها فرصاً لاستكشاف وظائف مختلفة واكتساب مهارات جديدة والعمل في مجموعة متنوعة من المشاريع.

عيّن المزيد من العاملين المستقلين

“إنْ لم تستطع التغلب عليهم، فانضم إليهم”. قد لا يكون هذا أكثر المبادئ الإدارية تعقيداً. ولكن النتائج المتكررة في عملنا تشير إلى أنه لا يمكن ببساطة إغراء العاملين المستقلين بالعودة إلى الوظائف التقليدية عن طريق المال أو التعويضات وحدها. في الواقع، أفاد معظم العاملين المستقلين (71%) بأنهم على استعداد للحصول على قدر أقل من المال مقابل المزايا غير المالية المرتبطة بالعمل لحسابهم الخاص. ووجدنا أيضاً أن العاملين المستقلين عازمون بشكل عام على مواصلة السير في طريقهم، حيث قال 74% منهم إنهم يعتزمون البقاء مستقلين. ونظراً لتزايد أعداد العاملين المستقلين الذين يعتبرون مسارهم المهني أكثر أماناً، سيتعين على أصحاب العمل تلبية احتياجاتهم وتطلعاتهم بشكل متزايد.

. . .

يعتبر الأمان الوظيفي أحد أهم الأسباب التي تجعل العاملين يفضلون العمل التقليدي، لكن تراجع التصوُّر التقليدي حول مفهوم الأمان الوظيفي إلى جانب إعادة تفكير العاملين فيما يريدونه من حيث تحقيق التوازن بين العمل والحياة الشخصية، يدفع المزيد من الناس إلى إعطاء الأولوية للمرونة والاستقلالية والقدرة على التحكم عند اختيار المكان الذي سيعملون فيه. وأدى هذا التحول الرامي إلى جذب أفضل المواهب واستبقائهم في حقبة ما بعد الجائحة إلى خلق ظروف جديدة توجب على أصحاب العمل منح موظفيهم الحرية والمرونة اللتين يتيحهما العمل المستقل.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .