نعم لتوظيف الأحمق الأكبر

3 دقائق
الأحمق الأكبر
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

في التراث الروسي، هنالك شخصية شهيرة تسمى “يوروديفي”، وتعني “الأحمق الأكبر”، وهو شخص غريب الأطوار اجتماعياً ومجنون أحياناً، لكن رغم ذلك، يمكنه رؤية الحقيقة أكثر من الآخرين.

“الأحمق الأكبر” و”الأبله”

عندما قرأت عن هذا الوصف للأحمق الأكبر في كتاب مالكوم غلادويل “التحدث إلى الغرباء”، تذكرت كم تحتاج رؤية الحقيقة وقولها إلى جهد، وتذكرت مقولة ستيف جوبز، مؤسس “آبل” عن صعوبة التبسيط، وأن من يمتلك مهارة القدرة على رؤية الأمور بتبسط ووضوح يمكنه أن “يحرك الجبال”، وهذا جزء مما ذكرته في مقالي: “لماذا يعتبر التبسيط لغة العظماء والناجحين“. وتذكرت أيضاً بهذه المناسبة، أن أحد أفضل الملفات الإعلامية التي أشرفت عليها قبل عدة سنوات عندما شكّلت فريقاً من المحررين الصحفيين لزيارة جميع البنوك في المدينة التي كنت أعمل فيها، وكانت مهمتهم نشر ملف يتضمن تبسيطاً لشروط القروض التي يقدمونها للأفراد، لأنك عندما تقرأ شروط القروض ومتطلباتها، فإنك تجدها عادة مختصرة في بروشور أو منشورة على الإنترنت ضمن صياغات وجمل روتينية عامة. وبعد أن تقرأها، تمسك سماعة الهاتف وتحاول الاتصال بالبنك للاستفسار عن عدة نقاط في هذه الشروط: “ماذا تقصدون بكذا؟ طبيعة عملي كذا، فهل ينطبق عليّ الشرط الفلاني؟ أنا ليس لدي الضمان الذي تحدثتم عنه، فهل يمكنني..؟” وغيرها من الأسئلة التي لاحصر لها، والتي قد يتطلب حصولك على الإجابات عنها انتظاراً طويلاً على الهاتف أو زيارة لأحد فروع البنك والانتظار..إلخ.

كان شرطي لاختيار فريق العمل الذي سيعمل على هذا الملف هو أن يتصفوا بالفضول لدرجة البلاهة، نعم فقد قلت لهم: عليكم أن تسألوا أسئلة “الأبله” الذي يهز رأسه ويرخي شفتيه وهو يسأل: “ماذا تقصد؟ ماذا لو؟ حسناً، وماذا عن الشخص الذي وضعه كذا؟ حسناً، ماذا لو كان طالب الاقتراض حالته أو حالتها كذا”. ويومها حصلنا على معلومات وتفاصيل وإجابات نشرت في ملف ضمن المجلة الاقتصادية التي كنت أشرف عليها، ويكفي أن تعلموا أن بعض البنوك أزالت بروشوراتها التي تشرح شروط القرض واستبدلتها بنسخ من هذه المجلة التي وفرت على البنوك المزيد من الاتصالات والأسئلة والزيارات التي لا داعي لها للاستفسار عن شروط القروض.

التفكير خارج الصندوق

“الأحمق الأكبر” و”الأبله”، هما صفتان مجازيتان لمن يفكر خارج الصندوق، ويطرح الأسئلة التي يسألها عامة الناس الذين يعيشون ما يسمى علمياً حالة “الانحياز للوضع السائد“، ولذا، لن تستغربوا عندما تقرؤون مقال “هارفارد بزنس ريفيو” “لماذا تقوم وكالة الدفاع الأسترالية بتجنيد أشخاص مصابين بالتوحد للعمل كمحللين سيبرانيين“، فقد اكتشف الباحثون الذين نصحوا الحكومة الأسترالية، بتجربة مرضى التوحد، الذين يتصفون بالذكاء الصرف ولا يتأثرون بالعواطف التي يمكن أن تسبب تشويشاً في الرؤية، رؤية مختلفة للحقيقة يغفل عنها معظم الناس. ولهذا، فإن الشركات على مستوى العالم بمقدار ما كانت تبحث عن موظفين عاديين يؤدون الأعمال الروتينية، فهي تبحث أكثر اليوم عن هذا النوع الذي يمكنه رؤية أكثر من تفسير لأي حدث، ويرى أكثر من جانب قد لا يراه الآخرون،  إذ يقول روجر مارتن في كتابه “العقل المعاكس” (The Opposable Mind): إن المفكرين المبتكرين لديهم “القدرة على الاحتفاظ بفكرتين متعارضتين كلياً في رؤوسهم”. (اقرأ أكثر عن هذه الصفات في مقال: الحمض النووي للمبتكر).

في عام 2019، أظهرت دراسة استقصائية أجريت على 3,500 مدير، أن 29% فقط من الموظفين الجدد لديهم جميع المهارات اللازمة لأدوارهم الوظيفية الحالية والمستقبلية؛ أي: إن حوالي 70% لا يملكون مهارات كافية بسبب التطور السريع لمتطلبات العمل. وأظهرت الدراسة أنه في الأقسام الرئيسية مثل المالية وتكنولوجيا المعلومات والمبيعات، ستتطلب الوظائف التي يجب شغلها في وقتنا هذا اكتساب ما يصل إلى 10 مهارات جديدة في غضون 18 شهراً. ولهذا، فإن الشركات باتت تسارع للتدريب والتأهيل بطرق تبدو غير تقليدية بعض الشيء، فقد عقدت شركتا “جوجل” و”بروكتر آند غامبل” اتفاقاً لتبادل الموظفين في بعض الأقسام لمدة شهرين، بحيث يجلس الموظفون في بيئة عمل الشركة الأخرى لمراقبة العمل والمشاركة فيه، واكتشاف أساليب جديدة عندما يعودون إلى شركتهم. (المزيد عن هذه التجربة وغيرها في فيديو: “فكر مثل المبتكرين“. كما أطلقت شركة “نورثروب غرومان”، برنامج “باث وايز” لاختيار العمل الأنسب لمهارات الموظفين، عبر الطلب من الموظفين الجدد تأدية العمل في ثلاثة مناصب مختلفة لمدة عام كامل، قبل اختيار المسار الذي يرغبون في اتباعه، بحسب مقال “أنت بحاجة إلى نهج قائم على المهارات لتعيين الموهوبين وتطويرهم“.

إذا استطعت أن تكون هذا الأحمق الكبير في تفكيره الاستثنائي، أو استطعت أن تُوجد مثل هذا الشخص في فريق عملك، فقد ضمنت اكتشاف الأخطاء. ودعوني هنا أختم بمعلومة تاريخية: من الذي اكتشف أكبر محتال في التاريخ الحديث – وأقصد به برنارد مادوف- الذي تلاعب بكبار المستثمرين والحكومات والأسواق المالية طيلة عشرات السنين، ولم يستطع أذكى المحللين الماليين في العالم اكتشاف احتياله وسر الأرباح المستمرة التي يحققها في الأسواق المالية، والتي جمع بسببها ثروة لا حدود لها؟

لقد اكتشفه وأسقطه من عرشه رجل يرتدي بدلة خضراء غريبة الأطوار، لا يعرفه أحد، وهو محلل مالي بسيط ومستقل، لم يقتنع بما كانت تقوله كل السلطات المالية في أميركا وأوروبا وكبار المستثمرين في البورصات أن تعاملات مادوف سليمة. لقد شكك بطريقة ربحه المزعومة وتتبع خيوطها حتى كشفها. وقد قال بعدها هذا الرجل الذي يدعى هاري ماركو بولوس إنه تعلم التشكيك في اللصوص عبر تدقيق حسابات مطعم عمه واكتشاف ما يسرقه الموظفون أو ما يسرقه بعض الزبائن الذين يتسللون خارجاً ولا يدفعون الفاتورة. وربما سمعتم بعدها أن أحد أعضاء “الكونجرس” عرض على هاري أن يأتي ويتولى رئاسة هيئة “الأوراق المالية” في الولايات المتحدة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .