تقرير خاص

ما الذي يُسهم في ازدهار منظومة الشركات الناشئة. مثال من دولة آسيوية

23 دقيقة
منظومة الشركات الناشئة
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

تضم باكستان فئة سكانية ضخمة تشهد تنامياً متسارعاً من الشباب الناطقين بالإنجليزية الذين يجيدون التعامل مع التكنولوجيا، وهي تمتلك جميع المقومات التي تحتاجها منظومة ناجحة للشركات الناشئة. فلماذا لم تبدأ إلى الآن بالارتقاء إلى مستوى قدراتها الريادية الكامنة، وإلى أين تتجه؟

يتحدث المدير التنفيذي في ماكنزي دانيل إيزنبيرغ مع المستثمر عاطف أوان والشريك في ماكنزي عبد الرحيم سيّد حول منظومة الشركات الناشئة الآخذة بالاتساع في باكستان. فيما يلي النص المنقّح لهذا الحوار الذي جرى في وقت أبكر من هذا العام.

دانيل إيزنبيرغ: بحسب المعطيات السكانية والديموغرافية لوحدها، كان من المفترض أن تكون منظومة الشركات الناشئة في باكستان مزدهرة منذ سنوات عديدة. فبادئ ذي بدء، باكستان هي خامس أكبر بلد في العالم من حيث عدد السكان الذين يبلغون 230 مليون نسمة. والغالبية العظمى من هؤلاء السكان هم من الشباب، وبعمر وسيط يبلغ 22 سنة. وهم يجيدون التحدث بلغتين، حيث تضم باكستان رابع أكبر مجموعة سكانية ناطقة بالإنجليزية في العالم. يُضاف إلى ذلك أنها تضم واحدة من أسرع الطبقات الوسطى نمواً، وأكثر من 100 مليون مشترك بخدمات النطاق العريض للهاتف المحمول، ومئات آلاف المتخصصين بالتكنولوجيا، وهذه العوامل كلها تجعل من باكستان سوقاً خصبة للمشاريع الجديدة والخدمات الرقمية.

ومع ذلك، وحتى وقت قريب، كان حجم رأس المال المغامر أو تمويل النمو في باكستان محدوداً جداً مقارنة بدول مشابهة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أو بأجزاء أخرى من آسيا. أما في آخر عامين، فقد بدأت شركات رأس المال المغامر العالمية وغيرها من المستثمرين الأجانب بزيادة رهانها على الشركات المحلية الناشئة، في حين بدأت الكثير من العوائق التشريعية والثقافية تتهاوى.

ورغبة منّا في تكوين فهم أفضل عن الديناميكية المتغيّرة في سوق الشركات الناشئة هذه، يُسعدنا اليوم أن ينضم إلينا خبيران يعملان في المنطقة. عاطف أوان هو المؤسس والشريك الإداري في “إندوس فالي كابيتال” (Indus Valley Capital)، وهي صندوق لرأس المال المغامر يركّز في أعماله وأنشطته على باكستان، وكان عاطف قد أطلق هذا الصندوق في بلده الأم بعد أن سبق له العمل كتنفيذي في قطاع التكنولوجيا في وادي السيليكون لعدة سنوات. عبد الرحيم سيّد هو شريك في مكتب ماكنزي في دبي ويشارك في قيادة أنشطة ماكنزي في مجال الشركات الناشئة في المنطقة، وقد سبق له أن عمل في وقت سابق من مسيرته المهنية في وادي السيليكون.

دانيل إيزنبيرغ: كنت يا عاطف قد أطلقت شركة “إندوس فالي كابيتال” في عام 2019 بعد أن تقلّدت مناصب رفيعة في كل من مايكروسوفت ولينكد إن. ما الذي تغيّر في منظومة الشركات الناشئة في باكستان في السنوات القليلة الماضية وأقنعك بأن الوقت قد حان للتركيز عليها بهذه الطريقة؟

عاطف أوان: الغريب في الأمر هو أنني لم أتوقع سابقاً أن أنتقل إلى باكستان على الإطلاق، ناهيك عن إطلاق صندوق لرأس المال المغامر يركّز على باكستان، إلى أن وجدت نفسي في وضع كنت أعرف فيه أنني يجب أن أُقدِم على هذه الخطوة.

في عام 2008، وبعد أن غادرت لينكد إن، قررت الابتعاد عن العمل لمدة عام. أمضيت ما يقرب من نصف المدة مع والداي في باكستان. وقتها بدأ بعض المؤسسين الباكستانيين بالتواصل معي طالبين مشورتي بخصوص النمو، أو المنتجات، أو جمع الأموال.

خلال الفترة الواقعة بين 2016 و2018 كان من المذهل جداً أن القيمة الوسطية للتمويل الذي تحصل عليه الشركات الناشئة الباكستانية من شركات رأس المال المغامر لم يكن يتجاوز 10 ملايين دولار سنوياً، أي ما يعادل 0.05 دولار كنصيب للفرد الواحد، أو ما يكافئ ثلث نقطة أساس من الناتج المحلي الإجمالي. لم يكن هذا الرقم منطقياً بأي حال من الأحوال. ففي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا المتاخمة لنا، كان الحجم السنوي للتمويل من رأس المال المغامر يبلغ 800 مليون دولار. وعندما نظرت إلى أساسيات الاقتصاد الباكستاني وقتها، وبدأت أراقبها عن كثب، وجدت أنها خامس أكبر بلد في العالم يضم أكثر من 200 مليون نسمة. كان العمر الوسيط في باكستان يبلغ 22 سنة، لتكون بذلك رابع بلد في العالم من حيث حجم الجيل زد والفئات السكانية الأقل عمراً. كما تضم باكستان رابع أكبر مجموعة سكانية ناطقة باللغة الإنجليزية، وكانت تسجّل رابع أكبر زيادة مطلقة في حجم الطبقة الوسطى.

لذلك يمكن القول إن جميع العناصر الأساسية كانت موجودة، وكان ثمة تنامٍ في تبنّي السكان للإنترنت. فقد بلغ عدد المشتركين بخدمات النطاق العريض في 2018 أكثر من 50 مليون إنسان، في حين وصل الرقم حالياً إلى 110 ملايين مشترك. كان الموهوبون في التكنولوجيا والجاهزون لبناء تلك الشركات الناشئة موجودون أيضاً، حيث بلغ عدد المتخصصين بهذا القطاع أكثر من 300 ألف شخص. وأدركت أن المسألة مجرّد مسألة وقت، بما أننا كنا على وشك تحقيق انعطاف هام في اقتصاد كبير يشهد تحولاً نحو عالم الإنترنت بعد أن كنا خارجه لوقت طويل.

رأينا هذا الأمر يحصل من قبل في الولايات المتحدة الأميركية، والصين، وإندونيسيا، والهند. وكلما كان ذلك يحدث، كان يخلق فرصاً هائلة لترك أثر إيجابي كبير، فضلاً عما ينشأ عن ذلك من فرص مالية. اتّضح لي وقتها أنني يجب أن أتّخذ قراراً بالتحرك في أسرع وقت ممكن. كنت أدرك أنني إذا لم أُقدِم على اتّخاذ خطوة، فإنني سأندم لاحقاً. قررت العودة وإنشاء شركة “إندوس فالي كابيتال” وهي صندوق لرأس المال المغامر يركّز في أعماله وأنشطته على باكستان.

دانيل إيزنبيرغ: عملت يا عبد الرحيم أيضاً في وادي السيليكون خلال مسيرتك المهنية. فقد عملت أولاً في “إيباي” ثم في ماكنزي، وأنت الآن تعمل انطلاقاً من دبي.

لطالما تفوّق الشرق الأوسط ومنذ سنوات طويلة على باكستان في مجال اجتذاب رأس المال المغامر، كما أشار عاطف. لكن الفجوة الآن باتت تتضيّق على ما يبدو. فلماذا احتاجت منظومة الشركات الناشئة في باكستان برأيك إلى هذه الفترة الطويلة لكي تُقلِع وتحلّق، رغم وجود هذه الأساسات القوية التي تحدّث عنها عاطف؟

عبد الرحيم سيّد: من المؤكد أن الفجوة آخذة بالتضيّق. لكن المنطقة بأكملها تشهد تسارعاً في هذا النشاط. إذا أخذنا المملكة العربية السعودية، أكبر اقتصاد في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، نجد أنها قد استقطبت 140 مليون دولار من التمويل عبر رأس المال المغامر في 2020. أما في 2021، فقد بلغ حجم هذه الرساميل 548 مليون دولار. أي أننا نتحدث هنا عن تضاعف بأربع مرات في عام واحد. وبالنسبة لباكستان، فإن المسار الذي تسير فيه أسرع، لذلك فإن حجم الفجوة يتناقص.

ولنعرف لماذا استغرقت العملية هذا الوقت الطويل، يجب أن ننظر إلى الوضع الاقتصادي الكلي لباكستان والذي هيمنت عليه ولوقت طويل الزراعة ومجموعات من الشركات الكبرى التي تدير غالباً أنشطة وشركات أصغر حجماً مرتبطة بها. ليس هناك شعور ملحّ بضرورة التغيير رغم الخوف من التبعات غير المعلومة، وليس هناك من سبب يقود إلى الابتكار أو المجازفة. دعني أعطيك مثالاً هنا ألا وهو إجمالي تكوين رأس المال الذي يشكّل عنصراً أساسياً لتمكين النمو المستقبلي. لقد بلغ إجمالي تكوين رأس المال في آخر عامين في باكستان ما يقرب من 15% من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة مع 30% في حالة الهند و32% في حالة بنغلادش. نأمل أن يتغيّر هذا الوضع بما أننا نشهد حالياً تسارعاً كبيراً في مجال الشركات الناشئة.

دانيل إيزنبيرغ: لديك يا عاطف نظرة فريدة من نوعها بما أنك تدير مجموعة من الاستثمارات في باكستان حالياً. ما هي القطاعات المهيمنة حالياً في ضوء التطور الحاصل في المشهد؟

عاطف أوان: هذا الصعود الهائل الحاصل في الشركات الناشئة في باكستان في آخر عامين مثير جداً للاهتمام. في 2021، جمعت باكستان ما يقرب من 350 مليون دولار من التمويل من شركات رأس المال المغامر. والنسبة التي كانت 80 إلى 1 مقارنة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سابقاً باتت تبلغ حالياً سبعة إلى واحد، وهي متوافقة مع نسب الناتج المحلي الإجمالي. وإذا نظرنا إلى تفاصيل هذا الرقم نجد أن غالبيته العظمى اتجهت إلى الشركات الناشئة في مجال التجارة الإلكترونية. وهذا شيء معتاد جداً في الأسواق الناشئة. ففي البداية، تجد أن المؤسسين يستهدفون الشرائح الأكبر من الاقتصاد التي تنتظر الدخول إلى عالم الإنترنت. وعادة ما يكون ذلك في قطاع التجارة الإلكترونية يليه قطاع الخدمات اللوجستية وهما ما سيطر على منظومة الشركات الناشئة في باكستان في آخر عامين. وبدأنا نرى تنامياً في قطاع التكنولوجيا المالية (الفينتك) على خلفية التغييرات التشريعية الإيجابية المطبّقة، بما في ذلك طرح تراخيص جديدة للمؤسسات المالية الإلكترونية والمؤسسات المصرفية الرقمية. كما بدأنا نرى نمطاً من التحول الرقمي في قطاعي التعليم والصحة، وهذا التوجه يمكن أن يترك أثراً إيجابياً كبيراً على البلد.

وبالإجمال، ذهب أكثر من نصف التمويل في 2021 إلى الشركات الناشئة في مجال التجارة الإلكترونية، علماً أن هذه المبالغ انقسمت مناصفة بين الشركات الناشئة التي تعتمد على التعامل التجاري بين الشركات والمستهلكين، وتلك التي تعتمد على التعامل التجاري بين الشركات نفسها. وفي حالة الشركات التي تتعامل مع المستهلكين، شملت القائمة الشركات الناشئة التجارية التي تقدّم خدمات توصيل مواد البقالة والتسوق، وبيع التذاكر عن طريق الإنترنت، وتوصيل الأدوية، وتسوّق الملابس. أما في حالة الشركات التي تتعامل مع شركات أخرى، فإننا نرى تحولاً رقمياً سريعاً في قطاع تجارة التجزئة غير الرسمي وأقصد بذلك الدكاكين الصغيرة التي نطلق عليها في باكستان اسم “كيريانا”.

بالنسبة للأمثلة الأبرز على ذلك، سأذكر شركتين ناشئتين حظيتا بأكبر تمويل وهما كانتا أول شركتين نستثمر فيهما ويسرّني الإفصاح عن ذلك. الأولى هي “إيرليفت” (Airlift)، الشركة الناشئة في مجال التجارة السريعة التي جمعت تمويلاً تزيد قيمته على 100 مليون دولار. تقدّم هذه الشركة خدمة توصيل مواد البقالة، والأدوية، والسلع المنزلية في غضون 30 دقيقة. كما تعمل على التوسع باتجاه الإلكترونيات وثمة مستثمرون بارزون فيها. وهي مدعومة من صندوق “فيرست راوند كابيتال”، الذي يُعتبرُ من أوائل المستثمرين في “أوبر”، و”سكوير”، و”نوشن”، و”روبلوكس”. وهو لا يستثمر عادة مبالغ كبيرة خارج الولايات المتحدة. كما حصلت “إيرليفت” على تمويل من جوش باكلي وهاري ستيبينغز اللذان يعتبران من كبار المستثمرين الأفراد، إضافة إلى تمويل من مؤسسي “تويتر”، و”دور داش”، و”ترانسفر وايز”، والعديد من كبريات الشركات الناشئة الأخرى في وادي السيليكون. الشركة الثانية التي أود التطرق إليها هي “بازار”، التي تتعامل تجارياً مع الشركات الأخرى وشركات التكنولوجيا المالية الناشئة. وقد جمعت تمويلاً تزيد قيمته على 100 مليون دولار.

إذا نظرنا إلى ما حصل في آخر عامين، نجد أن حجم التمويل المقدم فاق 500 مليون دولار بقليل. وقد حصلت “إيرليفت” و”بازار” على 200 مليون دولار منها. وتشمل قائمة المستثمرين في “بازار” بعضاً من كبار المستثمرين مثل “تارغت غلوبال”، و”دراغونير”، و”آكرو”. وهي تعمل بصورة أساسية على بناء أنظمة التشغيل الخاصة بالتعامل التجاري بين الشركات في باكستان بواسطة منصة تغطّي مجالات مثل السوق الإلكترونية، وعمليات التوصيل النهائي، والبرمجيات، والتكنولوجيا المالية.

وللتوضيح لا بد من أن أذكر أن عمر “بازار” لا يزيد عن عامين. والمثير في الأمر هو أن نرى هذه الشركة تتمكن بعد إنشائها من تحقيق نمو سريع جداً في سوق بكر كبيرة.

دانيل إيزنبيرغ: لا أعلم يا عبد الرحيم إذا كان من السابق لأوانه إطلاق الأحكام النهائية، وخاصة أن هذه الشركات الناشئة ما تزال فتية. ولكن إلى أي مدى تشعرون بالقلق تجاه التفاوت بين رأس المال المقدّم في المراحل المبكرة والتمويل المقدم في المراحل اللاحقة. أعلم أن من السهل الحصول على رأس المال في المراحل المبكرة في بعض الأسواق، لكن الحصول على التمويل في المراحل اللاحقة بات ينطوي على تحديات أكبر.

عبد الرحيم سيّد: هذا أمر مقلق. لكنه شائع في الأسواق المشابهة. لو كنا نخوض هذا الحوار قبل عامين، لكنا سنتساءل إذا كان هناك ما يكفي من رأس المال للجولة (أ). أما حالياً، فمن الواضح أن هناك ما يكفي من رأس المال لمرحلة ما قبل تمويل البذار، ولمرحلة تمويل البذار، وللجولة (أ).

هل هناك تمويل للجولة (ب)؟ عاطف ذكر أن “إيرليفت” قد كشفت النقاب عن تمويل كبير للجولة (ب) مؤخراً وهي حصلت على تمويل تزيد قيمته على 100 مليون دولار الآن أيضاً. وهذا مجرّد مثال واحد. لكن السؤال الحقيقي الذي سيُطرَح مستقبلاً هو هل ستظل الأموال تتدفق؟ وبأي سرعة؟

ثمة ثلاثة محفزات لهذا السؤال. المحفز الأول واضح. في البيئة العالمية الإجمالية لرأس المال المغامر، هناك سيولة ضخمة، وهناك الكثير من الاستثمارات العالمية. وبعض هذا التمويل يتدفق باتجاه باكستان بوتيرة متسارعة. فهل سيستمر هذا السخاء؟

أما المحفز الثاني فيكمن في التجارة الإلكترونية والخدمات اللوجستية، وهما قطاعان ناشئان يتطلبان رؤوس أموال كثيفة. النمو ضمن قاعدة المستهلكين الواسعة واضح جداً، لكن هذا النمو باهظ التكلفة. فهل بوسعنا أن نبدأ بالتوجه نحو القطاعات التي يُعتبرُ النمو فيها أقل تكلفة والتي لا تعتمد الشركات الناشئة فيها على تمويل كبير؟ التكنولوجيا المالية هي فكرة عظيمة وقد بدأنا نسير في ذلك الاتجاه. فما هو القطاع التالي بعد التكنولوجيا المالية الذي ستقتحمه الشركات الناشئة؟

المحفز الثالث الذي لا يُناقش غالباً كما يجب هو هل ستستطيع الشركات الناشئة الباكستانية أن تتجاوز حدود باكستان؟ فعندما تتوسع هذه الشركات خارج باكستان، وتنطلق إقليمياً وعالمياً وتدخل سوق الولايات المتحدة، أو سوق المملكة المتحدة، أو أسواق منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حينها يمكن أن تحصل على تمويل من مصادر أخرى. حينها سَتُحَلُّ مشكلة مخاطر المحفظة المرتبطة بتمويل الجولة (ب)، والجولة (ج)، والجولة (د).

هناك شركة ناشئة تتعامل مع الشركات الأخرى وهي منصة في مجال توصيل الطعام تسمى “ريتيلو”. تمكنت هذه الشركة مؤخراً من جمع تمويل تبلغ قيمته 36 مليون دولار في إطار الجولة (أ). وهي شركة يقع مقرّها الرئيس في السعودية، لكنها تعمل في باكستان، والسعودية، ودولة الإمارات، ومؤسسوها باكستانيون. نحتاج إلى المزيد من القصص الناجحة من هذا النوع، أي أن تنجح شركات باكستانية في التوسع ضمن باكستان، مع العمل على التوسع في أسواق أخرى على التوازي.

دانيل إيزنبيرغ: ما رأيك يا عاطف بإمكانية التوسع على مستوى العالم؟ من الواضح أن هذا التحدي يشكّل عائقاً للشركات الناشئة في جميع أنحاء العالم والتي تريد الانطلاق خارج حدود بلادها إلى أسواق إقليمية بعيدة. هل سيحصل هذا الأمر بطبيعة الحال، أم أن هناك شروطاً معيّنة يجب تحققها ليتحول هذا الشيء إلى واقع؟

عاطف أوان: اتفق مع عبد الرحيم على أن ذلك يمكن أن يكون محفزاً قوياً لاستمرار الزخم والنمو، وقد بدأنا نراه يحصل. و”ريتيلو” هي خير مثال على ذلك. فقد أثبتت أن الأمر يمكن أن يُنْجَز في وقت مبكر للغاية. وفي السابق، كانت شركة “كريم” قد أثبتت إمكانية نجاح هذا النموذج أيضاً، رغم أنها قد انطلقت من دولة الإمارات العربية المتحدة. المثال الآخر هو شركة “زامين” التي انطلقت أعمالها من لاهور في باكستان. هي شركة ناشئة في القطاع العقاري توسّعت من باكستان باتجاه الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ثم نقلت مكتبها الرئيس إلى الإمارات. لقد باتت “زامين” الآن شركة مليارية القيمة.

رأينا شهية لدى المؤسسين الطموحين جداً للاستثمار في باكستان التي يعتبرونها سوقاً عظيمة. فهم بوسعهم بناء شركات كبيرة للغاية، وبما أنهم تجاوزوا مراحل التمويل المبكرة، فإنهم يتساءلون ما إذا كان بوسعهم التوسع على نطاق أكبر. أعتقد أننا سنرى تنامياً في هذا التوجّه.

أما الجزء المفقود الذي لم نراه يحصل على نطاق واسع حتى الآن فهو بناء شركات تستطيع التوسع في السوق الأميركية أو الأوروبية، وتحديداً الشركات التي تحاول توفير البرمجيات على شكل خدمات أو الشركات المتخصصة بالتكنولوجيا المتقدمة والتي تركز على العمل مع المشاريع والشركات الكبرى. أعتقد أن هذا الأمر سيحصل لاحقاً عندما تتطور المنظومة. ففي نهاية المطاف، سيكون من المثير أن نبدأ ببناء المزيد من الشركات الناشئة التي تعمل بشكل بحت في مجال البرمجيات والتكنولوجيا المتقدمة وتلبي احتياجات هذه الأسواق الكبيرة للغاية.

دانيل إيزنبيرغ: تطرّقنا قليلاً يا عبد الرحيم للمسائل التشريعية. وبرأيك الشخصي، ما الذي يجب أن يحصل لكي يستمر التمويل ونمو الابتكار، سواء من حيث التغييرات التشريعية أو الطريقة التي يعمل بها القطاع الخاص؟

عبد الرحيم سيّد: يرتبط هذا الأمر إلى حد كبير باستمرار الزخم، والبراهين التي تقدّمها جولات التمويل، ونجاح الشركات الناشئة. وحتى حالات التخارج المشابهة لقصة “كريم”، كما ذكر عاطف، تشكل مصدر إلهام لجيل جديد من الطلاب والمتخصصين للدخول إلى عالم ريادة الأعمال.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: بأي سرعة سيتواصل هذا الأمر؟ هل ثمة إصلاحات تشريعية يمكن أن تساعد في تسهيل حصول هذا الشيء؟ ذكر عاطف أننا قد بدأنا نرى بعض التشريعات الجديدة التي صدرت في المجال المصرفي. أما في مجال المدفوعات، فإن باكستان ما تزال تفتقر إلى حضور شركة “باي بال” وأمثالها. لذلك فإن بوابات الدفع الدولية ستساعد روّاد الأعمال الباكستانيين في المجال الهندسي على تجاوز اقتصاد الأعمال المستقلة العالمي على منصات عالمية أيضاً.

دانيل إيزنبيرغ: أنا مهتم أيضاً ببلد كانت تهيمن عليه الشركات الكبرى بشكل تقليدي. هل هناك تبدّل في النظرة هذه الأيام إلى روّاد الأعمال والمخاطر المرتبطة بالعمل التجاري؟

عاطف أوان: بكل تأكيد. أنظر إلى ما حصل في الثقافة. فقبل بضع سنوات كان أصحاب العقول النيّرة من الشباب يختارون إما السفر إلى الخارج أو العمل لصالح شركات دولية متعددة الجنسيات في باكستان لأن تلك كانت الطريقة الأنسب للحصول على رواتب عالية. أما الآن فقد تغيّر هذا الوضع بالكامل. فهم يرغبون الآن بتأسيس شركات أو الانضمام إلى الشركات الناشئة ليكونوا من أوائل موظفيها. لقد حصل تحوّل مذهل في الثقافة في هذا الصدد.

وفي المقابل، بدأت الشركات التقليدية الكبرى بدورها تستشعر الخطر، وهي تريد الدخول في شراكات مع الشركات الناشئة. لقد بدأ بعضها بإنشاء الشركات الناشئة الخاصة به، وهي شركات ذات تاريخ متفاوت. فمن الصعب جداً على الشركات الكبيرة أن تبتكر، كما أن النموذج القائم على إنشاء شركة ناشئة ضمن شركة كبيرة لم يثبت نجاحه الكبير على الأغلب. لكن ثمة اعترافاً بهذا الشيء.

وفي الجانب التشريعي، حظيت باكستان ببعض المشرّعين التقدميين جداً في السنوات القليلة الماضية. وهم يبذلون جهوداً حثيثة لدعم الشركات الناشئة وتمكينها، لأن الوضع الاقتصادي الكلي في باكستان لا يبدو بهياً جداً. فالبلد ما يزال يعاني من مشاكل في ميزان المدفوعات. والشركات غير قادرة على تحقيق نمو سريع لأنها لا تمتلك ما يكفي من الاحتياطيات. وهذا الشيء يشكّل عائقاً أمام النمو. وقد بدأت الحكومة والجهات الرقابية ترى في الشركات الناشئة فرصة للخروج من هذه الحلقة المفرغة، لذلك هي تسعى جاهدة إلى مساعدتها. رأينا عدداً من المبادرات التي طبّقت في المجالين التشريعي والرقابي، وآخرها كان إنشاء المناطق التكنولوجية الخاصة التي تقدّم حوافز مغرية جداً للمستثمرين الأجانب، ولاسيما الإعفاءات الضريبية.

وفيما يخص التقليل من الإجراءات البيروقراطية، رأينا البنك المركزي الباكستاني وهيئة الأوراق المالية والبورصات الباكستانية يُصدِران تشريعات تسمح بهيكلة الشركات الناشئة كشركات قابضة في الخارج.

عبد الرحيم سيّد: في عام 2018، بلغت قيمة الدولار الأميركي يا عاطف 123 روبية باكستانية. وبعد مرور ثلاثة أعوام وصل سعر الصرف هذا إلى 177 روبية مقابل كل دولار. وهذا يمثّل تراجعاً كبيراً في قيمة العملة. فمن جهة، وبوصفك شخصاً يمثّل المستثمرين ويستثمر نيابة عن المستثمرين الأجانب يشكّل هبوط سعر صرف العملة تحدّياً يجب عليك التعامل معه. لكن ذلك من جهة أخرى يعزز الصادرات الباكستانية وتكوين رأس المال في البلد. فكيف توازن بين الاثنين من موقعك؟ كيف ترى دور العملة الباكستانية في دعم منظومة الشركات الناشئة والنمو في باكستان؟

عاطف أوان: في بعض الأحيان، قد لا تكون السياسات التي تفيد الاقتصاد بمجمله داعمة بالضرورة للشركات الناشئة. فإذا ما نظرت على مدى 20 عاماً، تجد أن الروبية الباكستانية قد ضعفت. ولا بأس في ذلك بنظرنا طالما أنه يفيد الصادرات. في المراحل السابقة من التاريخ، كانت المشكلة تكمن في المحافظة على استقرار قيمة العملة بشكل مصطنع. أما عندما يحصل هبوط مفاجئ، فإن هذا الوضع يؤدي إلى موجة من الصدمات التي تهز أركان النظام. وقد سمحت الحكومة الحالية بتعويم العملة وأعتقد أن الاقتصاد قد تمكن من التأقلم مع هذه الخطوة بشكل مناسب.

عندما يتعلق الأمر بالشركات الناشئة التي تحقق دخلها بالروبية الباكستانية لكن المستثمرين فيها هم من الأجانب، فإنها ستضطر إلى تحويل أرباحها إلى الدولار الأميركي وحينها لن تبدو أرقام النمو التي تسجلها مثيرة للإعجاب إذا ما حصل هبوط مفاجئ في قيمة العملة. وإذا ما استمر حصول هذا الشيء، فإن الشركة ستكون قادرة على إعادة تسعير خدماتها مع مرور الوقت من أجل التقليل من الآثار السلبية لهذه العملية.

العامل الآخر الذي يساعد في التخفيف من الضرر هو أن معظم الشركات الناشئة الباكستانية التي تجمع التمويل من شركات رأس المال المغامر تتخذ شكل الشركة الأجنبية القابضة، وهي عادة ما تكون مؤسسة في سنغافورة أو ديلاوير. تساعد هذه الهيكلية في تسهيل عملية التمويل وتسمح للشركة بالاحتفاظ بالاحتياطيات بالدولار الأميركي في حساب في بنك أجنبي. فإذا ما جمعت الشركة 10 ملايين دولار وتراجعت قيمة الروبية الباكستانية بمقدار 10%، فإنها لن تتأثر. لا بل ربما يكون ذلك مفيداً لأن عملية تحويل العملة تدعم المصاريف التشغيلية. فالدولار الواحد يساوي عندها كمية أكبر من الروبيات الباكستانية. وأعتقد أن المنظومات تعمل بشكل بنيوي على التقليل إلى الحد الأدنى من الأثر على الشركات الناشئة وبالمجمل هذه هي الخطوة المناسبة للاقتصاد الكلي.

دانيل إيزنبيرغ: بما أنك تعمل يا عبد الرحيم انطلاقاً من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كيف تجد أوجه الشبه والاختلاف بين تطور المنظومات الباكستانية وتطور منظومات المنطقة؟

عبد الرحيم سيّد: منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كما يسعك أن تتخيل هي منطقة متنوعة للغاية. وغالبية الاستثمارات تأتي عادة من الدول الغنية بالثروات الباطنية والطبيعية مثل السعودية، وقطر، والإمارات. ومعظم هذه الاستثمارات حكومي، وهي تأتي إما بشكل مباشر من خلال استثمار أحد الصناديق في صناديق أخرى أو عبر إنشاء المشاريع الحكومية لصناديق استثمارية. ويسهم ذلك نوعاً ما في زيادة الرساميل المتاحة في السوق، وتحديداً لتمويل المراحل المبكرة. ومن جهة أخرى، ثمة قيود مفروضة على المجالات التي يمكن استثمار هذه الأموال فيها.

تُعتبرُ باكستان أشبه بدولة مثل مصر أو إندونيسيا وهما بلدان ناميان يضمان فئات سكانية شبابية عريضة. فمصر، مثلاً، تشهد نمواً متزايداً وتسارعاً في أعداد الشركات الناشئة فضلاً عن حجم التمويل الداعم للشركات الناشئة. والشيء الذي برعت به مصر، كباكستان، هو اجتذاب قدر كبير من الرساميل الأجنبية. كما أنها تشهد ظاهرة لافتة أخرى ألا وهي أن الكثير من الشركات الناشئة الجديدة بدأت تسارع في التوسع في الخارج.

لعل الشركة الناشئة الأكبر في مصر هي “سويفل” التي يقع مقرّها الرئيس في دبي، وهي آخذة بالتوسّع بقوة في عدّة قارّات في الوقت ذاته. وقد بدأت باكستان تحذو حذوها. وإذا ما ظلت تسير في هذا المسار، فإن ذلك يمنح فرصة أكبر يمكن لقاعدة أصحاب المواهب في باكستان الاستفادة منها.

دانيل إيزنبيرغ: وهل لا تزال المسائل الجيوسياسية تمثّل مشكلة للمستثمرين الأجانب الذين يتوجهون إلى تلك المنطقة؟

عاطف أوان: لا تُطرح هذه القضية في الحوارات التي أخوضها مع الناس أبداً. لا شك أنها كانت مشكلة كبيرة قبل عقد من الزمن. عندما كنت أدرس هذه الفرصة في 2018 من الناحية الأمنية، كانت الأمور قد استقرت منذ فترة، لكن التصوّرات المتعلقة بهذا الموضوع لم تكن تواكب آخر المستجدات. في 2021، بدأت التصورات تضاهي الواقع وبدأنا نرى تدفق رساميل طائلة. من الأمثلة الجيدة التي تثبت وجهة النظر هذه ما حصل عندما استعادت طالبان السيطرة على أفغانستان مجدداً حيث طُرِحَت أسئلة تتعلق بتأثير ذلك على باكستان. رأينا وقتها الإعلان عن المزيد من التمويل من شركات رأس المال المغامر لباكستان، وكان التمويل الذي أعلن عنه في أربعة أسابيع أكثر مما رأيناه في السنوات الأربع التي سبقت. وقد حافظ ذلك على استمرار الزخم. فقد أدرك الناس أن باكستان اليوم تختلف عن باكستان الأمس التي عرفوها قبل 15 سنة أو 20 سنة.

إذن من الناحية الأمنية، يبدو الوضع على ما يُرام. فنحن نرى الكثير من الأجانب يأتون إلى باكستان لزيارتها، وقد تغيّرت تصوراتهم عنها بسرعة شديدة. وأنا أمضيت بعض الوقت مع مستثمرين أجانب تكونت لديهم انطباعات مختلفة تماماً عن باكستان بعد وصولهم إليها بساعات، وتحديداً فيما يخص البنية التحتية والسكان الشباب الذين يضجّون بالحياة.

عبد الرحيم سيّد: الدليل على ذلك يكمن في مصادر الاستثمارات، سواء كنا نتحدث عن “غوبي” أو “إم إس آيه” من الصين، أو “كينغز واي” من المملكة المتحدة، أو “تايغر” أو “كلاينر” من الولايات المتحدة، أو “شاه روخ” من دولة الإمارات العربية المتحدة. من الواضح أن هناك استثمارات متزايدة تتدفق إلى باكستان من جميع أنحاء العالم. وقد تعمّقنا قليلاً في التفاصيل، ونحن أجرينا أبحاثاً بهذا الخصوص، ودرسنا وضع أكبر 250 شركة ناشئة ممولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

طرحنا على أنفسنا السؤال التالي: “من أين يأتي هؤلاء المؤسسون والقادة؟” ووجدنا أن في أماكن مثل باكستان ومصر، غالبية المؤسسين هم من مواطني هاتين الدولتين. وهم أكثر ترسّخاً في المنظومة المحلية ويعرفون من أين تؤكل الكتف كما يُقال.

أما إذا نظرت إلى بلد مثل الإمارات، فإن العكس هو الصحيح. فأكثر من 80% من أبرز المؤسسين وروّاد الأعمال ليسوا من دولة الإمارات. بل هم وافدون. وفي السعودية تبلغ نسبتهم النصف تقريباً. وبالتالي فإن قدرة المنظومة الباكستانية على الاعتماد على أصحاب المواهب في البلد والذين يعرفون كيف يتعاملون مع باكستان يجعلها أكثر مرونة في مواجهة هذه المخاوف.

دانيل إيزنبيرغ: ذكرت أن أصحاب المواهب في مجال التكنولوجيا، والنظام التعليمي، وعدد المهندسين هي من نقاط القوة الحقيقية التي تمتلكها باكستان. والعثور على ما يكفي من أصحاب المواهب الجيدين هو مشكلة حقيقية تعاني منها جميع الشركات هذه الأيام في أنحاء العالم. فهل ثمة قاعدة كافية منهم في باكستان للتعامل مع النمو القادم المتوقع في الشركات الناشئة؟

عبد الرحيم سيّد: الحجم واضح. فباكستان تضم ما يقرب من 190 جامعة معتمدة. ونحن نتحدث عن 290 ألف خرّيج يدخلون الاقتصاد كل عام. وبالتالي هناك ما يكفي من أصحاب المواهب.

هناك تساؤلات تحيط بجودة مؤهلات أصحاب المواهب هؤلاء. وعلى المدى القصير، حتى لو كان جزء يسير منهم يتمتعون بأرفع مستويات الجودة، فإننا بحاجة إلى ما يكفي من الشركات الناشئة فحسب، بل وحتى إلى شركات تستثمر في الابتكار، لكي يشمّر هؤلاء الخريجون عن سواعدهم ويُختبروا في الميدان. لذلك أعتقد أن هذا القطاع سيكون مصدر قوّة أكبر لباكستان في الأيام المقبلة.

دانيل إيزنبيرغ: كيف ترى تلك المسألة الحرجة يا عاطف؟

عاطف أوان: اتفق مع هذا الرأي. أعتقد أن الخامات الشابة الواعدة موجودة بأعداد كبيرة، لكننا رأينا ما حصل مع شركة “كريم” حيث تمكنت شركة واحدة من تحفيز عدد كبير من أصحاب المواهب ووفّرت لهم مكاناً للتدريب، ما يؤدي إلى ظهور ثلّة من كبار أصحاب المواهب الذين ينطلقون قُدُماً ويلتحقون بعشرات الشركات. وبما أننا بدأنا نرى هذه الدفعة الأولى من الشركات الناشئة، فإن أصحاب المواهب يبلغون المستوى المطلوب من المهارة بسرعة شديدة. لذلك أنا متفائل جداً بالمستقبل لجهة هذا الموضوع.

الديناميكية الأخرى التي تدعم هذا التوجه هي أن قطاع التكنولوجيا بات يميل أكثر نحو العمل عن بعد. هذا التوجه كان قائماً في الأصل، لكن جائحة كوفيد أسهمت في تسريعه. وستكون باكستان من الدول التي ستستفيد منه استفادة كبيرة لأن الكثير من الشركات باتت تعيّن موظفين من باكستان. وبات أشخاص يجلسون في باكستان قادرين على العمل لصالح شركة أميركية.

يشكّل هذا الشيء أيضاً ضغطاً على أصحاب المواهب هؤلاء على المدى القصير. فهم باتوا متاحين الآن للعمل مع أي شركة في العالم، لذلك سنعاني من بعض الألم على المدى القصير. لكنني أعتبر ذلك أمراً إيجابياً على المدى الأبعد.

فالعمل مع أفضل الأشخاص في العالم عن بعد هو ما سيسد الفجوة بالنسبة لباكستان مستقبلاً، ونحن سعداء أن هذا الأمر حاصل حالياً.

عبد الرحيم سيّد: من الواضح تماماً اليوم أن هناك ما يكفي من أصحاب المواهب لتلبية احتياجات القطاعات التي تحاول الشركات الناشئة دخولها، مثل التجارة والخدمات اللوجستية. ومع نضوج المنظومة وانتقالها نحو الشركات الناشئة التي توفّر البرمجيات على شكل خدمات، فإننا سننتقل إلى تعلّم الآلة والذكاء الاصطناعي. هذا النوع من أصحاب المواهب غير موجود بعد. لذلك فإن هناك تحدّياً يواجه منظومة أصحاب المواهب التي يجب أن يتسارع تطويرها بما يواكب التسارع الذي سيحصل في إنشاء الشركات الناشئة.

أنت يا عاطف أمضيت وقتاً طويلاً في العمل مع الباكستانيين المقيمين في الخارج والذين أطلقت عليهم اسم “الوابستانيين”. فكيف كانت تجربتك مع ذلك الوضع؟ هل تعتقد أن الباكستانيين في الشتات سيعودون إلا بلادهم إما كمستثمرين أو كمشغّلين في المنظومة بحيث يصبحون عنصراً أساسياً ضمن فئة أصحاب المواهب في باكستان؟

عاطف أوان: أظن أن هذه كانت المجموعة المبكرة من المؤسسين، سواء الأشخاص الذين عملوا في “كريم” أو أولئك الذين عملوا في شركات ناشئة أميركية. فمؤسس “إيرليفت” ورئيسها التنفيذي كان قد عمل من قبل لدى “دور داش”. ومؤسسو “بازار” كانوا قد عملوا لدى “كريم”، و”سناب تشات”، و”ماكنزي”. رأينا هذا السيناريو يتكرر كثيراً في الأيام الأولى.

عندما أتحدث إلى الباكستانيين المقيمين في الشتات، وتحديداً في الولايات المتحدة الأميركية، أجد أن جائحة كوفيد قد عززت لديهم الرغبة بالعودة في نهاية المطاف. فقد أدرك الناس أنهم بعيدون عن أفراد عائلاتهم، وبالتالي فإن هذا الوضع سرّع من رغبتهم في العودة. وبت أسمع هذا الكلام أكثر فأكثر، وأحد الأمور التي نحاول فعلها في “إندوس فالي” هي المساعدة في تسريع حصول ذلك.

أنشأنا المسار الخاص بالوابستانيين أو الباكستانيين العائدين. فكلمة “وابستاني” هي مصطلح كان أول من استعمله هو رابيل وارايش مؤسس صندوق رأس المال المغامر “سارمايا كار” في باكستان. وهي تجمع بين كلمتي “وابيس”، التي تعني العودة، و”باكستاني”. وبالتالي فإن المصطلح هذا يعني “الباكستاني العائد” وأنا أعشق هذا المصطلح.

أنشأنا برنامجاً خاصاً لتسهيل عودة الناس. فنحن نصلهم بمؤسسين وشركات ناشئة وأشخاص آخرين عائدين. وهذا مكسب كبير لباكستان لأنه سيسهم في سد الفجوات الموجودة في بعض التخصصات بين صفوف أصحاب المواهب وكنا قد تحدّثنا عن هذا الموضوع قبل قليل.

دانيل إيزنبيرغ: أخبرني يا عاطف ما أنواع العوائق والتحديات التي واجهت الشركات الناشئة في باكستان عندما حاولت أن تتوسع؟

عاطف أوان: إحدى أكبر المشكلات والتحديات هي توفّر أصحاب المواهب. فالوضع يزداد صعوبة في كل مرحلة. وعندما تتوسع من شركة مؤلفة من 10 أشخاص إلى شركة مؤلفة من 100 شخص أو 1000 شخص، فإن مجموعة المهارات المطلوبة تكون أصعب.

سيكون هذا الأمر محفوفاً بالتحديات. وما نراه هو أن المؤسسين الرائعين يعززون جهودهم في هذا المجال. وعندما تستقطب المستثمرين، وتحديداً من الولايات المتحدة، فإن محافظهم تضم شركات سبق لها أن توسّعت.

كما نستقطب أيضاً الكثير من المستثمرين المشغلين الذين يريدون الاستثمار في الشركات الناشئة. وهذا شيء مفيد للغاية لأنه يسمح لك بالتواصل مع شخص سبق له أن مر بهذه الحالة وأنجز هذه المهمة. وهذا يعني الحصول على الإرشاد والتوجيه. فالمؤسس سيعطيك وجهة نظره ويريك كيف تعالج المشكلة. كما أنك بحاجة إلى قيادة جيدة، وإلى المتخصصين في المالية والموارد البشرية. هذا شيء يجب علينا كمنظومة أن نعمل على معالجته. نأمل أن يكون لدينا ما يكفي من الأشخاص العائدين القادرين على المساعدة والذين سينضمون إلى بعض من هذه الشركات الناشئة.

كما تُعتبرُ الحاجة إلى التمويل أحد التحديات القائمة. صحيح أننا رأينا عدداً من الشركات التي تجاوزت قيمة التمويل الذي حصلت عليه عتبة 100 مليون دولار، لكن بلوغ المزيد من الشركات الناشئة هذا المستوى يعني أننا سنظل بحاجة إلى توفير المزيد من التمويل. غير أن هناك بشرى سارة تتمثّل في أن لدينا حالياً بعضاً من الصناديق الكبيرة التي تستثمر لدينا. فقد أبرم صندوق “تايغر غلوبال” عدة صفقات. كما استثمر كل من “دراغونير” و”بروسوس” لدينا أيضاً. ونأمل أن يستمروا في الاستثمار وأن تنضم إليهم صناديق أخرى. لكننا بحاجة إلى صناديق عالمية مثل “سوفت بنك” أيضاً لكي تستثمر في جولات التمويل (ج)، و(د) و(هـ).

أخيراً، هناك موضوع التخارجات. فنحن بحاجة إلى نقل بعض هذه الشركات الناشئة التي هي في مراحل مبكرة إلى مرحلة الاندماج والاستحواذ أو الاكتتاب العام. وهذا سيشكل نقلة نوعية حقيقية للمنظومة.

دانيل إيزنبيرغ: في منظومة ناشئة كتلك التي في باكستان يا عبد الرحيم، ما أهمية تنمية قاعدة المستثمرين المحليين؟

عبد الرحيم سيّد: من منظور المستثمرين، هذا سؤال حقيقي مطروح. أين هو رأس المال الباكستاني؟

هناك عدد من الشركات التقليدية الكبرى التي تدخل السوق وتستثمر. وهنا أتذكر “فاطمة فنتشرز” التي تستثمر من خلال مشروع مشترك مع “فاطمة غوبي” انطلاقاً من الصين. لكن هناك العديد من الشركات التقليدية الكبرى التي لديها الكثير من الرساميل في المنظومة الباكستانية، والأهم من رأس المال هو أنها تمتلك أصولاً، وقدرات، وشبكات، وثِقَلاً لدى الجهات الرقابية، وأتمنى لو زادت من درجة انخراطها واستثماراتها لسببين. السبب الأوضح هو امتلاكها لرأس المال. أما السبب الثاني فهو تمتّعها بمرونة عالية. فإذا ما بدأت السيولة تشح في الأسوق المالية العالمية أو بدأ سخاء هذه الأسواق يتناقص، حينها أتمنى للمرونة المحلية أن تؤدي دورها في دعم هذا القطاع. وهذا شيء مطلوب للوصول إلى المنحنى الصاعد التالي.

دانيل إيزنبيرغ: افترضُ أنه إذا تحوّل الاكتتاب العام في السوق المحلية إلى استراتيجية تخارج واقعية، فإنكم بحاجة إلى تحفيز قاعدة المستثمرين المحليين لكي تهتم بهذه الأنواع من الشركات. أليس كذلك؟

عبد الرحيم سيّد: إذا نظرت إلى عمليات الاكتتاب العام المحلية في بورصة كراتشي، فستجد أنها قليلة نسبياً. أحد الأمثلة على التخارج هو ما حصل مع شركة “أنغامي” التي تخدم سوق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فقد تخارجت عبر صندوق استحواذ للأغراض الخاصة (أو شركة شيك على بياض كما تسمى) في نيويورك وبقيمة تزيد على 200 مليون دولار. هناك إمكانية للجوء إلى هذه الطريقة أو غيرها من الطرق في الأسواق الأجنبية.

بعد أن تبدأ الشركات الناشئة الباكستانية بالعمل في عدة أسواق وبعد أن تصبح قادرة على الحصول على رأس المال في عدة أسواق، تقل الخطورة. أما إذا أردنا أن نكون قادرين فعلياً على تعزيز الابتكار في باكستان ذاتها، من منظور المنتج، ومن المنظور التشريعي، ومن منظور الوصول إلى الأسواق، فمن الضروري بمكان عندها إشراك الصناعيين المحليين وتشجيعهم على الاستثمار.

دانيل إيزنبيرغ: هل تود يا عاطف أن تضيف شيئاً بخصوص إمكانية نمو قاعدة المستثمرين المحليين؟

عاطف أوان: لا شك في أن هناك شهية للاستثمار لدى المستثمرين المحليين. وإنه لأمر مشجع أن تلجأ بضع مجموعات من المؤسسين والشركات التقليدية إلى إنشاء صناديق لرأس المال المغامر. أما السؤال الذي لا نمتلك جواباً عليه حتى الآن فهو ما إذا كان المستثمرون المحليون سيتدخلون ويزيدون استثماراتهم إذا ما حصل تباطؤ في حركة التمويل العالمي القوية حالياً، أو في حال توقف هذا الدعم المالي العالمي للشركات التي دخلت مراحلها النهائية. فأسواق المال المحلية ليست عميقة جداً، وهذا واحد من الأشياء التي يجب أن تتغير لكي تدعم عمليات الاكتتاب العام الأصغر حجماً. من الوارد أن تتمكن الشركات الناشئة الأعلى نمواً وجودة من المساعدة في تنمية القاعدة الرأسمالية لبورصة كراتشي. ومع ذلك، فإن هذه الموجة الأولى من الشركات الناشئة ستكون أكبر من أن تستوعبها الأسواق المالية المحلية، وهي ستكون مضطرة إلى اللجوء إلى البورصات الدولية.

بالنسبة لخيارات التخارج الأوسع عموماً، ستظل هناك ثلاث فئات أساسية من التخارجات متاحة للمستثمرين المبكرين. الخيار الأول والأكثر انتشاراً هو عمليات الاندماج والاستحواذ، التي تخضع لقواعد واضحة ومعروفة وراسخة. وضمن ثنايا هذا الخيار هناك الشركات العالمية البارزة في فئات معيّنة والتي ترغب في شراء شركات إقليمية بغرض التوسع، وهذا مشابه لما حصل مع “أوبر” التي اشترت “كريم” مقابل 3.1 مليار دولار. والأمر ذاته ينطبق على الشركات الناشئة في مجال التجارة السريعة. فشركة “دور داش” كانت موجودة على قائمة الاستحواذ في أوروبا. وفي نهاية المطاف سيفلعون الشيء ذاته في آسيا. وهناك أيضاً شركات التكنولوجيا الصينية العملاقة التي تشتري شركات التكنولوجيا الباكستانية. ونحن رأينا تخارجين كبيرين حصلا في باكستان عند شراء “علي بابا” لشركة “داراز”، التي كانت شركة ناشئة في مجال التجارة الإلكترونية. وكان لدينا استحواذ من “آنت فايننشال” على حصة تبلغ 45% في شركة التكنولوجيا المالية “إيزي بيجيا”.

أما الفئة الثانية فتشمل الاكتتابات العامة عبر لجوء الشركات الباكستانية إلى طرح أسهمها على الاكتتاب العام في البورصة المحلية، في حين تُدرج الشركات الكبيرة أسهمها في هونغ كونغ، أو لندن، أو نيويورك. وثمة كم وافر من الأمثلة على ذلك. فقد أُدْرِجَت أسهم “سويفل” في بورصة ناسداك. ورأينا شركة “كاسبي” الكازاخستانية تجمع 6 مليارات دولار في طرح عام أولي في لندن.

الفئة الثالثة هي جمع الأموال في السوق الثانوية. فإذا ما كنت تستثمر في وقت مبكر بما يكفي، في شركات مثل “بروسوس” و”دراغونير” و”تايغر”، فإنها تحب الاستحواذ وتعزيز الملكية مع مرور الوقت. لذلك يمكن أن توفّر بعض السيولة الثانوية أيضاً.

دانيل إيزنبيرغ: مع اقترابنا من النهاية، هلا حدّثني كل واحد منكما بإيجاز عن إحساسه بخصوص أين ستكون منظومة الشركات الناشئة الباكستانية بعد خمس سنوات من الآن؟

عبد الرحيم سيّد: إذا نظرت إلى الأسباب الأساسية لسعادة المستثمرين، تجد مجموعة من الحقائق التي لا يمكن إنكارها. فالعمر الوسيط في باكستان هو 23 عاماً؛ في حين يبلغ الرقم في المملكة المتحدة 41 عاماً، وسيستغرق وصول العمر الوسيط في باكستان إلى ذلك الرقم وقتاً غير قصير. وهناك 19 مليون نسمة من الباكستانيين الذين إما ينتمون إلى الطبقة الوسطى أو الشريحة العليا من الطبقة الوسطى، وهذا الرقم يفوق ما هو موجود في ألمانيا بأكملها. كما أن هذا الحجم الهائل للبلد وقدراته الكامنة الضخمة سيظلان موجودين، ما يعني أننا ما زلنا في بداية الرحلة نحو ريادة الأعمال والتحول الرقمي في باكستان. لكن السؤال المطروح هو بأي سرعة سينمو ذلك الاتجاه، وليس ما إذا كان سينمو. هل سيصل إلى مستويات تقارب ما رأيناه في إندونيسيا وغيرها من الأسواق الناشئة الأخرى؟ أنا واثق أن ذلك سيحصل. وكلي ثقة أنها ستواصل نموها أيضاً، بما أن هناك الكثير من الزخم الإيجابي. والعديد من التحديات التي ناقشناها تعتبر جزءاً لا يتجزّأ من رحلة النمو في بلد نامٍ يشهد تطوراً في مجال التحول الرقمي.

دانيل إيزنبيرغ: ما رأيك يا عاطف؟

عاطف أوان: في عام 2019، كنت أستخدم إندونيسيا كنموذج للمقارنة بخصوص ما ينتظر باكستان مستقبلاً. فباكستان بدت بنظري من حيث نشاط الشركات الناشئة والتمويل من شركات رأس المال المغامر فيها شبيهة بما كانت عليه إندونيسيا في 2009. لذلك كنا أمام هذه الفجوة التي تبلغ عشر سنوات.

وفي المقابل، تبدو باكستان اليوم في وضع مشابه لما كانت عليه إندونيسيا في 2014 و2015. ومن المثير للاهتمام أن نرى منظومة الشركات الناشئة في باكستان تنمو بوتيرة أسرع، وهذا يؤدي إلى بدء تضيّق الفجوة. السبب الأساسي وراء ذلك هو أن باكستان وعلى الرغم من تأخرها في الانطلاق في الرحلة، كانت تمتلك الأساسيات المطلوبة. فتبنّي الناس للهواتف المحمولة كان قد حصل.

إذا نظرت إلى المبلغ الذي خُصّص عام 2021 ووصل إلى 350 مليون دولار، من جهة، فهذا يعني أننا أمام نمو سريع للغاية. لكن هذا الرقم ما زال يشكل 0.1% من الناتج المحلي الإجمالي لباكستان فقط. تخيّل ما سيحصل عندما تقترب هذه النسبة مما نراه في بلد مثل الهند. أتوقع أن يبلغ حجم التمويل من شركات رأس المال المغامر عدة مليارات من الدولارات سنوياً، ونظراً إلى الوضع الاقتصادي للبلد، فإن الشركات الناشئة ستكون من بين أكبر الشركات في باكستان. في الحقيقة، ستكون هذه الشركات هي القوة المحركة الأساسية للاقتصاد الباكستاني في غضون خمس سنوات، وستحل مكان الشركات التقليدية.

دانيل إيزنبيرغ: سيكون من الرائع أن نراقب رحلة النمو هذه وكيف ستتواصل مستقبلاً. أود أن أشكركما كليكما على المشاركة في هذا الحوار عن هذا الموضوع وبهذا القدر من العمق.

إضافة إلى الشكر الذي أتوجّه به إلى ضيفي الكريمين، أود وكما هو الحال دائماً أن أشكر جميع أعضاء فريق إنتاج “بودكاست ماكنزي الخاص بالشركات الناشئة” مولي كارلان، وبولي نوح، وسيد رامتري، وميرون شورغان، وكيتي زناميروسكي.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .