حان وقت التخلي تماماً عن فكرة المبتكر العبقري المتفرد

4 دقائق
التخلي تماماً عن فكرة المبتكر العبقري المتفرد
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

عندما عاد ألكسندر فلمنغ، العالم المتألق المهمِل في بعض الأحيان، إلى مختبره بعد عطلة صيفية في عام 1928، وجد تجاربه مخربة تماماً، حيث وجد المستنبتات البكتيرية التي كان زرعها ملوثة بالفطريات التي نمت وقتلت كل مستعمرات البكتيريا التي وصلت إليها.

أسطورة العبقرية المتفردة

وبينما سيحاول الغالبية في هذه الحالة البدء من نقطة الصفر، إلا أن فلمنغ حوّل تركيزه من البكتيريا إلى تلك الفطريات. لقد حدد الفِطر والمادة القاتلة للبكتيريا، وأطلق عليها اسم “البنسلين”. وبذلك يكون فلمنغ قد اكتشف عالم المضادات الحيوية بضربة واحدة.

لا نعلم تفاصيل ما حدث ولكن على الأقل، غالباً ما تُنقل هذه الرواية هكذا حتى اليوم، وهذا ما يتوافق مع الصورة التي يرسمها الناس للابتكار: ملاحظة واحدة بسيطة، ومضة من التألق، وصرخة “وجدتها”، وفجأة تنفتح أبواب عالم جديد.

لكن الواقع ليس بهذا التنظيم،

إذ لم يتم استخدام البنسلين على نطاق واسع حتى عام 1943. إذاً لماذا استغرقت معجزة الدواء في القرن العشرين كل ذلك الوقت قبل أن تحدِث التأثير الملموس؟

السبب هو أنه عندما نشر فلمنغ نتائج بحوثه في عام 1929 لم يلاحظها سوى عدد قليل من الناس. لأن فلمنغ لم يكن كيميائياً ولم يتمكن من تقديم دراسة تفصيلية للبنسلين حتى أنه لم يتمكن من تركيبه كمركب عملي. فالأمر ببساطة أن فلمنغ لم يتمتع بالمهارات المطلوبة لهندسة اكتشافه كحل عملي للمشاكل المرضية. لذلك بدلاً من الانطلاق لتغيير العالم، ظل أول مضاد حيوي على مستوى العالم مدفوناً كاكتشاف غامض في مجلة علمية.

ولم ينطلق هذا الاكتشاف حتى عام 1939، أي بعد عقد من الزمان، عندما صادف هوارد فلوري وإرنست تشين بحث فلمنغ، فأدركا أهميته على الفور، وعملا على تطوير طريقة لإنتاج البنسلين بكميات كبيرة. بدءا في تجربة المركب على الفئران، وفي نهاية المطاف على البشر، وشهدا النتائج المذهلة. فقد بدا واضحاً أن هذا العقار الجديد لديه القدرة على تغيير وجه المعالجة الدوائية.

ولكن لا بد من إنتاج البنسلين بكميات هائلة لإحداث التأثير الملحوظ على العالم، وهو ما كان بعيداً تماماً عن متناول هذين العالمين الكيميائيين. لذلك تواصل فلوري مع مؤسسة “روكفلر” (Rockefeller Foundation)، التي قدمت التمويل الإضافي لتطوير طرق تخمير جديدة لإنتاج العقار بكميات كبيرة.

وبحلول عام 1943، ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، جند مجلس الإنتاج الحربي في الولايات المتحدة 21 شركة لإنتاج مستلزمات المجهود الحربي من البنسيلين، وبذلك تم إنقاذ أعداد لا تحصى من البشر والتبشير بعصر جديد من المضادات الحيوية. وفي النهاية أتاحت جميع تلك الجهود النطاق الذي يحتاجه هذا العقار لإثبات تأثيره الفعلي. وأخيراً وفي عام 1945، حصل كل من فلمنغ وفلوري وتشين على جائزة نوبل في الطب.

أسباب سقوط أسطورة العبقرية المتفردة

عند التمعن في أي ابتكار مهم، ستنهار أسطورة العبقرية المتفردة ولحظة الإلهام المنشودة للأسباب التالية:

أولاً، الفكرة العظيمة أو الاكتشاف الجديد بحد ذاته لا يكفي أبداً. فحتى يتمكن أي ابتكار من ترك الأثر المرجو، لا بد أن يُبنى الاكتشاف على رؤية مهمة، أو حل عملي يمكن تطويره، وأخيراً يجب توفر نموذج عمل يتيح اعتماد الفكرة الجديدة.

ثانياً، نادراً ما يعمل العباقرة بشكل منفرد. فالدعم الذي نالته بحوث فلمنغ الرائدة في مجال البنسلين لم يقتصر على الجهود المبذولة من قِبَل فلوري وتشين فحسب، فقد بنى فلمنغ بدوره بحوثه على عمل علماء سابقين، مثل إغناز سميلويس، ولويس باستور، وروبرت كوخ. فضلاً عن ذلك، فما كان العلم ليجد تطبيقاً عملياً للبنسلين دون دعم من مؤسسة “روكفلر” والحكومة الأميركية.

كما يجب الانتباه إلى أنه وعلى الرغم من الدور المحوري الحكومي في دعم كل من الاكتشافات الطبية والتطورات التكنولوجية، مثل الإنترنت ونظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، فإن الغالبية العظمى من المبتكرين يتعثرون تلقائياً عندما يصلون للخطوة الأخيرة للابتكار وهي التوصل إلى نموذج العمل.

وتلك هي المشكلة التي كان على تشيستر كارلسون التغلب عليها، وهو مبتكر من نوع مختلف تماماً. فقد أمضى سنوات لإيجاد الحلول الخاصة بابتكاره، حتى عندما كان يعمل في الصباح ويرتاد كلية الحقوق في المساء. وعندما ضجرت زوجته من الانفجارات التي قام بها وهو يخلط المواد الكيميائية في المطبخ، نقل عمله إلى غرفة في الطابق الثاني في منزل خاص بوالدة زوجته.

وبعد أكثر من عقد من الزمان، تعاون مع شركة “هالويد” (Haloid)، صاحبة المنتجات الفائقة والمكلفة أيضاً، حيث بلغت كلفتها ما يقرب من عشرة أضعاف منتجات الشركات المنافسة. وقد عملا سوياً على إثارة اهتمام الشركات الكبرى في ذلك الوقت مثل، “كوداك”، و”آي بي إم” (IBM)، و”جنرال إلكتريك” (GE)، ولكن طلبهم قوبل برفض الجميع. فعلى ما يبدو أنهم لم ينجحوا في عرض القيمة التي قد تبرر التكاليف المطلوبة.

إلى أن طرح جو ويلسون، رئيس شركة “هالويد”، فكرته اللامعة: لماذا لا نُؤجر الآلات بدلاً من بيعها؟ وهكذا انطلقت الفكرة، ونشأت الشركة التي نعرفها اليوم باسم شركة “زيروكس” (Xerox).

على الرغم من أن ابتكار كارلسون للمنتجات كان رائعاً من الناحية العلمية، لكنه كان بحاجة لنموذج العمل الذي ابتكره جو ويلسون لخلق التأثير المطلوب على العالم.

كيفية تناول موضوع الابتكار

لذا، ومع أننا أحياناً نفضل الإيمان بأن البعض خُلقوا مبتكرين بينما حرم الآخرون من هذه النعمة، فالحقيقة هي أن الجميع لديهم دوراً يمكنهم تأديته: سواء كانوا علماء أو مهندسين أو مسوقين أو محاسبين ومندوبي مبيعات أو متخصصي إنتاج. ولهذا السبب، يتعين علينا أن نعامل التعاون مع الآخرين كميزة تنافسية مطلقة، خاصة في هذه الأيام، فالمشاكل التي نحتاج إلى حلها أكثر تعقيداً من الماضي.

وهذا يعني أننا نحتاج لإعادة التفكير بشكل جذري في الكيفية التي نتناول بها موضوع الابتكار. أولاً، وكما يشير مؤلفو كتاب “العبقرية الجماعية” (Collective Genius)، يتعين علينا أن نخلق ثقافة تحفزنا على العمل الجماعي بدلاً من الاكتفاء بالإنجاز الفردي. فالابتكار العظيم يحدث فقط حين يتم دمج مجموعة متنوعة من المهارات لحل المشاكل على نحو فعّال.

كما يتعين علينا أن نعيد التفكير في بنية المؤسسات. ففي السنوات الأخيرة، شهدنا سلالة جديدة من جهات الابتكار، مثل معهد “علوم السرطان التطبيقية” (Institute for Applied Cancer Science) في مركز “إم دي أندرسون” (MD Anderson)، و”المركز المشترك لبحوث تخزين الطاقة” (Joint Center for Energy Storage Research) في مختبر “أرغون الوطني” (Argonne National Laboratory)، و”الشبكة الوطنية لتصنيع الابتكار” (National Network for Manufacturing Innovation)، والتي تجمع بين المؤسسات الحكومية والأكاديمية، والقطاع الخاص لتقديم الحلول لأصعب المشاكل التي قد تواجهنا.

لقد حان الوقت لتبديد الأساطير القديمة حول العبقرية المتفردة والعباقرة المتفردين ولحظات الإلهام التي تصيبهم. فالابتكارات الخارقة حقاً ليست حدثاً منفرداً، لا يتحقق إلا بواسطة شخص واحد، أو حتى داخل مؤسسة واحدة. بل هي حصيلة لتراكم الأفكار المقترحة لحل المشاكل الملحة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .