هل يعتمد الاقتصاد الأميركي نمط “الفائز يحصد كل شيء”؟

3 دقائق
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

نما الاقتصاد الأميركي منذ أوائل التسعينيات على نحو تركزت فيه الاستثمارات بأيدي مجموعة من اللاعبين الكبار، الذين استحوذوا، بدورهم، على الحصص الكبرى من العائدات في مختلف المجالات. وقد تسارعت وتيرة هذا الاتجاه في السنوات الأخيرة. ولكن القلق الأكبر كان حيال المجالات المالية. وعلى الرغم من الشكاوى المتعلقة بدعم الحكومات للمؤسسات المالية الكبرى بحجة أنها “ينبغي ألا تفشل” بسبب تأثيرها على الاقتصاد، فقد انخفض بالفعل عدد البنوك الدولية الكبيرة منذ اندلاع الأزمة.

وأظهر بحث جديد أعده باحثا الاقتصاد جان دي لوكر وجان إيكوت، أن المشكلة لا تقتصر على المجالات المالية فقط، أو حتى الشركات الدولية الكبرى. وإنما يعرض الباحثان أنهم توصلا، باستخدام تقنية تحليلية ذكية، أن هوامش الربح قد ارتفعت في مختلف الصناعات، لا سيما بين الشركات الصغيرة.

ويُعرّف خبراء الاقتصاد هامش الربح بأنه الفرق بين ما تدفعه الشركة من تكاليف وما تفرضه من أسعار على منتجاتها. وفي الأسواق ذات التنافسية الشديدة، تضطر الشركات إلى خفض أسعارها بالقدر الذي تغطي معه تكاليفها فقط. على عكس ما يحدث في الأسواق الأقل تنافسية – المحتكرون أفضل مثال على ذلك – إذ تستطيع الشركات رفع أسعارها دون الخوف من فقدان زبائنها. وبذلك، تُعتبر هوامش الربح المرتفعة مؤشراً محتملاً على أن حالة الاندماج الحاصلة بين الشركات قد أدت إلى إضعاف المنافسة داخل الاقتصاد الأميركي، ما يشير إلى تمتع الشركات اليوم بقوة سوقية أكبر.

وبحسب ما أفاد الباحثان دي لوكر وإيكوت، فقد ارتفعت هوامش الربح ارتفاعاً جنونياً، من القيمة 18% عام 1980 إلى 67% اليوم. فإذا كان الدافع وراء هذا التغيير هو ارتفاع القوة السوقية، فإن الطبيعة الأساسية للاقتصاد الأميركي قد تغيرت خلال العقود الأربعة الأخيرة. هذا ما توصل إليه المؤلفان في طرحهما. إذ ناقشا فكرة أن الارتفاع في هوامش الربح يفسر بعض الاتجاهات الأكثر إثارة للقلق والحيرة في الاقتصاد الأميركي: وهي الانخفاض طويل الأجل في حصة العمال من الدخل، والانخفاض في أجور العمال ذوي المهارات الدنيا، والانخفاض في مستوى مشاركة القوى العاملة، وتضاؤل حركة السوق سواء بين الشركات أو بين المناطق، وتباطؤ معدلات نمو الإنتاج منذ عام 2008.

وهذا ادعاء تماماً. فهل يمتلك المؤلفان ما يدعم هذا الادعاء؟ إن تقديم المؤلفين تفسيراً واحداً لمجموعة من الألغاز المعاصرة يجعلني أتردد في الأخذ بالطرح الذي قدماه. لا بدّ أنهما تعثرا بأمر يفسر ذلك. والسؤال هنا: “تُرى ما هو هذا الأمر بالضبط؟”.

ويأتي التناقض هنا على النحو التالي: يظهر هذا البحث الجديد، أن هوامش الربح تزداد بسرعة أكبر في الشركات الصغيرة من الشركات الكبرى. وهذا عكس توقعاتنا تماماً في بيئة، مثل أميركا، تهيمن عليها الشركات الكبرى القوية. في مثل هذه البيئة، نتوقع أن تواجه الشركات الصغيرة ضغطاً أكبر لتخفيض أسعارها. وفي الواقع، إن القصة التي ترويها تلك البيانات تعطي أهمية أقل لسيطرة مجموعة من الشركات الكبرى متعددة الجنسية وانخفاض المنافسة لديها، وتركز أكثر على الارتفاع المستمر للقوة السوقية للشركات الصغيرة نسبياً.

ولكن على مدار عدة عقود تالية، استبدل اقتصاد المخازن الكبرى وسلاسل التوريد العالمية بذلك الاقتصاد. خاصةً، حينما استطاعت محلات التجزئة العملاقة هذه أن توفر أسعاراً أقل. وأصبحت المنافسة شرسة لدرجة لم تستطع معها شركات “الشوارع الرئيسية” الصمود. وبذلك، تمكن الموردون من جميع أنحاء العالم استبعاد الشركات المصنعة التي واجهت بالفعل هامش ربح قليل في السوق المحلية.

ومع ذلك، وعلى الرغم من اشتداد حدة المنافسة، لم تتمكن من طرد كل الشركات الصغيرة من سوق العمل، كما أنها لم تشر إلى نهاية التصنيع في الولايات المتحدة. وكانت الشركات الصغيرة الناجية من هذا الصراع هي تلك التي لم تتقوض بتأثير المخازن الكبرى والموردين العالميين. إذ قدموا تجربة خاصة للبيع بالتجزئة، ومنتجات متخصصة، أو ببساطة خدموا أسواقاً من الصعب بلوغها.

وأتاح طردُ الشركات الصغيرة العامة المجالَ أمام نهوض شركات محلية أكثر تخصصاً، إذ قدمت ما يمكن اعتباره تجربة أكثر حرفية. صحيح أن هذه الشركات كانت تفرض أسعاراً تفوق المبالغ اللازمة لتغطية التكلفة، لكن هوامش الربح هذه لا تعبر عن انعدام حالة التنافس. بل على العكس، فهي تمثل عودة إلى مهارات معينة أو الرجوع إلى الرؤية اللازمة لصنع منتج متخصص. يشير علماء الاقتصاد إلى نمط السوق هذا بوصفه المنافسة الاحتكارية، التي توفر تنوعاً في المنتجات والخدمات يطمح لها الزبائن في الاقتصادات الغنية والمتقدمة.

إذا كانت قصتي صحيحة، فإن التوجه نحو وضع هوامش ربح مرتفعة يرتبط بالتغيّرات الكبرى التي تكتسح الاقتصاد الأميركي، كما يدور الجدل بين الباحثين. ومع ذلك، فليست تلك التغيرات بذاتها هي السبب المباشر للارتفاع. بل هي نتيجة أخرى للتغيرات الجذرية التي أحدثتها العولمة والدمار الإبداعي الذي ما زال يعيد تشكيل “الشوارع الرئيسية” في أميركا.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .