فلورنسا في عصر النهضة: نموذج للابتكار أفضل من وادي السيليكون

4 دقائق
فلورنسا بعصر النهضة
استمع الى المقالة الآن هذه الخدمة تجريبية
Play Audio Pause Audio

يطمح مخططو المناطق الحضرية إلى استنساخ وادي السيليكون كنموذج ناجح. انظر إلى “وادي التايمز” (Thames Valley) في إنجلترا و”واحة السيليكون” (Silicon Oasis) في دبي كمثالين فقط على هذه المحاولات. فماذا عن نموذج مدينة فلورنسا في عصر النهضة؟

تتم هذه الجهود بحسن نية لكنها تفشل دائماً لسبب بسيط، هو أنهم يحاولون استنساخ النموذج الخاطئ. فوادي السيليكون لا يزال حديث العهد ويصعب استخلاص الدروس منه. لذا يتعيّن على الطامحين إلى إطلاق مركز ابتكار كبير على مستوى العالم، النظر إلى مجمّع عبقري أقدم وأهمّ وهو: “فلورنسا في عصر النهضة”، حيث أنتجت هذه المدينة الإيطالية فيضاً من الفن العظيم والأفكار الرائعة التي لم يشهد العالم مثلها من قبل ولا من بعد. ويقدم مركز الابتكار هذا دروساً قيّمة ووثيقة الصلة بعالم اليوم كما كانت منذ 500 عام، وفيما يلي بعض هذه الدروس.

دروس مستفادة من تجربة مدينة فلورنسا في عصر النهضة

الموهبة تتطلب رعاية

كانت “عائلة ميديشي” (Medicis) في فلورنسا معروفة باكتشافها المواهب واستثمارها لثروتها بسخاء فيمن تختاره. وقد انطبق هذا بصفة خاصة على لورينزو ميديشي الشهير بلورينزو العظيم. فذات يوم كان يسير في أرجاء المدينة، وجذب انتباهه فتى لا يتعدى الرابعة عشر من عمره. كان الفتى ينحت تمثالاً لـ “فون” (Faun)، وهو رمز في الميثولوجيا الرومانية عبارة عن نصف بشر ونصف عنزة، وانبهر لورينزو بموهبته وإصراره على “نحته بالصورة الصحيحة”، ثم دعا الفتى النحّات ليعيش معه في مسكنه ويعمل ويتعلم مع أولاده. كان هذا استثماراً غير معتاد، لكنه أتى بنتائج رائعة، حيث كان هذا الفتى مايكل أنجيلو. لم تعتد “عائلة ميديشي” الإنفاق بتهور، بل كانوا يخاطرون بحساب ويفتحون خزائنهم على مصراعيها عندما يكتشفون موهبة ناشئة. واليوم، تحتاج المدن والمؤسسات والأثرياء إلى اتباع نهج مماثل برعاية المواهب الصاعدة، لا على سبيل الإحسان والعمل الخيري، ولكن كاستثمار حكيم للصالح العام.

لا غنى عن المعلمين

نميل في ثقافة اليوم إلى تقدير الشباب على حساب الخبرة، ولا نطيق صبراً على نماذج التعلم القديمة. فرواد الأعمال من الشباب الطموحين يريدون هدم مكاتب الإدارة العليا لا التعلم ممن يشغلها. إلا أن تجربة المبتكرين في فلورنسا في عصر النهضة تشير إلى خطأ هذا النهج، حيث نجد عظماء الفن والأدب قد بذلوا الغالي والنفيس عن طيب خاطر، ودرسوا حِرَفِهم على يد الأساتذة الخبراء. فقد قضى ليوناردو دا فينشي عقداً كاملاً -وهي فترة أطول بكثير من المعتاد- ليتدرب في ورشة للفنون في فلورنسا يديرها رجل يُدعى أندريا ديل فيروتشيو. كان فيروتشيو فناناً جيداً لكنه كان رجل أعمال أعظم، فقد اكتشف بالتأكيد النبوغ الناشئ في الفنان الشاب المنتمي إلى أسرة “غير شرعية”، لكنه -على الرغم من ذلك- أصر على أن يبدأ ليوناردو من الصفر كغيره من المتدربين، فيمسح الأرضيات وينظف أقفاص الدجاج. (كان البيض يُستخدم في صناعة الطلاء السريع قبل حلول الزيت محله). وتدريجياً، كلف فيروتشيو تلميذه بمسؤولية أكبر، حتى أنه سمح له بتلوين أجزاء من أعماله الخاصة. لماذا ظلّ ليوناردو متدرباً خلال هذه المدة الطويلة؟ كان بإمكانه أن يجد عملاً في مكان آخر بسهولة، لكنه كان يقدر بالتأكيد الخبرة التي اكتسبها في الورشة المليئة بالغبار والفوضى. في عصرنا الحالي، نجد معظم برامج الإرشاد -سواء كانت عامة أم خاصة- لا تعدو أن تكون كلاماً دون أفعال. فيجب أن تنطوي هذه البرامج بدلاً من ذلك على علاقات هادفة وطويلة المدى بين المعلمين والمتعلمين كما كان الحال في عصر ليوناردو.

الإمكانية تفوق الخبرة

عندما كان البابا “يوليوس الثاني” يقرر من يرسمُ سقف كنسية سيستين، كان مايكل أنجيلو خياراً بعيداً، إلا أنه بفضل رعاية ميديشي ذاع صيته كنحّات في روما وفلورنسا، لكن خبرته في الرسم كانت مقتصرة على القطع الصغيرة، مع خبرة بسيطة في اللوحات الجدارية. ومع ذلك، كان البابا يعتقد أن هذه المهمة “المستحيلة” تتطلب المهارة والإمكانية أكثر من الخبرة، وقد كان محقاً. فكّر في الاختلاف بين هذه العقلية وما نفعله اليوم. إننا نسند المهام المهمة عادة إلى الأشخاص والشركات التي تتمتع بخبرة سابقة في أداء مهام مثيلة. الأفضل لنا أن نتعلم من “يوليوس الثاني” ونُسنِد المهام الصعبة إلى من لا يبدون الخيار الأمثل، لكن بإمكانهم إتمام المهام بنجاح (وبطريقة أكثر ابتكاراً في معظم الأحيان) لأنهم تميّزوا في مجال آخر. علينا أن نراهن أكثر على الخيارات المجهولة مثل مايكل أنجيلو. أهذه مجازفة؟ نعم، لكن نتائج الإمكانيات المحتملة هائلة.

الكوارث تخلق الفرص

تُذّكرنا فلورنسا أن أسوأ الأحداث قد تأتي بمنافع مدهشة. فنهضة هذه المدينة لم تزدهر إلا بعد أن أهلك “الموت الأسود” (وباء الطاعون) المدينة بعقود قليلة، وكان هذا الوباء السبب في جزء منها، حيث زعزع الطاعون النظام الاجتماعي المتحجر، وأدى هذا إلى ثورة فنية وفكرية مباشرة. كما أن أثينا لم تزدهر إلا بعد أن نهبها الفرس. دائماً ما تسبق النهضة الإبداعية فترة من الزعزعة. لذا يجب على المبتكرين تعلم هذا الدرس، وعليهم سؤال أنفسهم باستمرار “ما النفع الممكن من وراء هذا؟ أين تكمن الفرصة وسط المحنة؟” انظر إلى محاولة ديترويت لإعادة بناء نفسها كمدينة لا تقتصر على السيارات نظراً لتراجع التوظيف في صناعة السيارات، أو جهود نيو أورلينز التي تسير بإيقاع بطيء لكنه مستمر نحو إعادة بنائها بعد إعصار كاترينا. لا تجعل هدفك استرجاع الماضي المشرق والخادع غالباً، بل استغل الكارثة في ابتكار شيء جديد تماماً.

اعتنق المنافسة

شاعت الخصومات والعداءات في فلورنسا في عصر النهضة. كان عملاقا العصر ليوناردو دا فينشي ومايكل أنجيلو لا يطيقان بعضهما، لكن لعل هذا هو ما دفعهما إلى إنتاج هذا العمل الرائع. ونتج الأثر ذاته عن الخلاف الذي استمر عقوداً بين لورينزو غيبرتي وفيليبو برونيلشي. عندما فشل برونيلشي في كسب التكليف ببناء “بوابات الفردوس” (Gates of Paradise) في فلورنسا، سافر إلى روما لدراسة الهياكل القديمة مثل “البانتيون” (Pantheon) وعاد بهذه الدروس إلى وطنه لبناء كاتدرائية “الدومو” (Duomo)، وهي معلَم أيقوني في المدينة. لقد قدّر الفلورنسيون قيمة المنافسة الصحية، وسيكون من الحكمة أن نفعل مثلهم وندرك أن “الرابحين” و”الخاسرين” كليهما يستفيدون من المنافسة.

ابحث عن الأفكار وامزجها

لم تكن فلورنس بلداً ديموقراطية تماماً، لكن قادتها أدركوا أهمية إشراك الوجوه والأفكار الجديدة بصورة دورية. نجد مثلاً أن اللوائح الداخلية للجنة “أوبرا ديل دومو” (Opera del Duomo) -اللجنة التي أشرفت على بناء القبة التي تعتبر حالياً أيقونة في قلب المدينة- تطلبت تغيير القيادة كل بضعة أشهر، دون النظر إلى جودة أداء المجموعة. لقد علموا أن الرضا بالوضع الراهن أسرع وأقوى مدمر للجهود الإبداعية. كما نظر الفلورنسيون (وخاصة “عائلة ميديشي”) إلى الثقافات المختلفة وإلى الماضي سعياً وراء الإلهام، فأرسلوا مبعوثين إلى أقصى أصقاع الأرض بحثاً عن المخطوطات الرومانية واليونانية القديمة التي لا تقدر بثمن. تطلب الأمر أموالاً طائلة، حيث كانت تكلفة الكتاب الواحد في ذلك العصر تُقارن بتكلفة سيارة في يومنا هذا. لذا كانوا يفكرون بحرص في كل عملية للحصول على الكتب، ويأخذون قيمتها الممكنة في اعتبارهم. لقد أدركوا أن الابتكار يتضمن مزيجاً من الأفكار المبتكرة والمنقولة عن غيرهم، ولا مشكلة في ذلك. كانت تلك أبرز الدروس المستفادة من مدينة نموذج فلورنسا في عصر النهضة.

تنويه: يمكنكم مشاركة أي مقال من هارفارد بزنس ريفيو من خلال نشر رابط المقال أو الفيديو على أي من شبكات التواصل أو إعادة نشر تغريداتنا، لكن لا يمكن نسخ نص المقال نفسه ونشر النص في مكان آخر نظراً لأنه محمي بحقوق الملكية الدولية. إن نسخ نص المقال بدون إذن مسبق يعرض صاحبه للملاحقة القانونية دولياً.

جميع الحقوق محفوظة لشركة هارفارد بزنس ببليشنغ، بوسطن، الولايات المتحدة الأميركية 2024 .